إلــه دمشــق ووردتهــا
اختتمت مساء أمس الأول الخميس ورشة الشعر التي نظمتها «دارة زرقان للفنون» على شرف الشاعر أدونيس، واستضافت في مقرّ الدار (بيت دمشقي تقليدي في الحارات القديمة) خمسة شعراء تحت عنوان «حوار الحضارات في الشعر، ياسمين الشام». وبالإضافة إلى أدونيس حضر الألماني يواكيم سارتوريوس، ومن السويد لاس سوديربرغ، ومن كولومبيا أنجلا غارسيا، ومن الأردن جريس سماوي، ومن سوريا هالا محمد. فكرة الاستضافة تقتضي العيش في المدينة بما يتيح للمدعوين التعرف إليها عن قرب «ليس فقط على المستوى السياحي بل أيضاً على الصعيد الإنساني، ويتم ذلك من خلال اللقاءات والدعوات والزيارات والتعرف على شخصيات هامة في المجتمع».
وفي الحفل الختامي قال أدونيس: «المدينة، كل مدينة، تشبه وردة، عطرها الثقافة، ثقافة الإبداع بخاصة؛ موسيقى وفنون تشكيلية، أدباً وفكراً وفلسفة. دون هذا العطر تتحول المدينة إلى وردة اصطناعية، فالإبداع هو الذي يجسد هوية الشعب، وهو الذي يفصح عنها الإفصاح الأكمل». وبعد شكره لـ«دار الفنون» ومنظمي الورشة أضاف: «إن الذات لا تولد في مسقط رأسها وحده، وإنما تولد أيضاً في الآخر. وكأن الآخر طريق للإنسان كي يصل إلى نفسه، وكي يحسن معرفتها (...) بين دمشق وبيني مسافة هي مسافة الهجر، وفقاً لتعبير أبي تمام. وهي مسافة كمثل مرآة أتمرأى فيها، حتى ليكاد وجهي أن يحــملها بين أهـدابه». وباسم هذه المسافة، كما قال، قرأ أدونيس قصيدة قصيرة قال إنها صورة لحوار داخل هذه المسافة، أو لحوار بين الطفولة والشيخوخة.
الأمسية الشعرية التي أقيمت في مسرح الحمراء بعد أن حشرت ضمن فعاليات الاحتفال بيوم المسرح العالمي، حملت إرث الحفل المسرحي (بعكس ما هو في الواقع، حيث المسرح يحمل إرث الشعر)، فكانت الدمى الضخمة، البشعة وغير المفهومة، موزعة على جنبات المسرح وسقفه وردهاته. كذلك الستائر المسرحية الحمراء خلف طاولة الشعراء وحولهم. ولكن اللافت هو أن لحضور الشعراء أنفسهم طقس المسرح. قرأ الشعراء قصائدهم بلغاتهم، ثم قرأها زملاؤهم بلغات أخرى. فاكتظت الخشبة بلغات عدة، ألمانية وسويدية وإسبانية وإنكليزية وعربية.
سارتوريوس في إلقائه بدا رائعاً، حتى من دون أن نفهم شيئاً من مفرداته الألمانية، التي ترجمتْها العربية إلى شجرة ليمون، ومآذن، وأصابع مغموسة في أطعمة إلهية. ولقد بدا قوله: «ثمة إله في دمشق، في متحف رحب، في واجهة صغيرة، إله أخضر فاقع... إحدى يديه مرفوعة دائماً بالتحية، والثانية تحمل شيئاً اختفى. على طرف المدينة ثمة قبة خضراء فاقعة، تحتها يرقد ابن عربي في ضريحه، يرقد الصوفي الذي أحس دمشق عبئاً...»، بدا مثل جواب، لسؤال شاعر إسباني يصف مواطنه المعماري أراندا الذي بنى عمارات رائعة في دمشق وعاش ومات فيها، في مقطع يقول: «بأي إله يؤمن أراندا في دمشق؟». لكن عين قصيدة سارتوريوس «هل ثمة شيء آخر يا دمشق؟» لم تنس أن تلاحظ شيئاً آخر غير الآلهة؛ مثل فواكه مجففة في ورق السلوفان المخشخش، والحلاق، والصبية على الزاوية، وواجهة الصائغ الذهبية.
السويدي لاس سوديربرغ بدا، بطوله الفارع وجرسه المعدني الصغير الذي يحمله، والذي أسكت الموسيقى وافتتح به القصيدة، بدا مثل مهرج نبيل، وبدت قصيدته كما لو أنها بين قوسين، جرس البداية وجرس النهاية. قال: «أين هي الأشجار؟ يسأل عابر السبيل، فيجيب الهواء: لقد رافقت الناس إلى داخل البيوت... دمشق تزيد حبي بالخشب العتيق، بالأبواب التي لا تنفتح إلا إلى الداخل، فيركع قلبي على عتبة أبوابها».
جريس سماوي لفته بردى الذي كفّ عن الجريان، فنادى: «يا بردى عد قليلاً كي تمرّ العذارى، عطشى بناتك يا نهر، وابنك عطشان..»، ثم سرعان ما يتخذ الشاعر من بردى ذريعة للذهاب إلى نهره في بانياس (في الجولان)، وإلى حوران، حيث أجداد أمه، وحيث «عائلة القمح والدالية». صورة الكولومبية أنجلا غارسيا كانت على شيء من الذهول وهي تقرأ لدمشق: «كيف تعصرين الماء من الأيام». كانت تحمل ذهول من وصل للتو وهي تقرأ قصيدتها الصعبة، بعكس قصيدة هالا محمد السهلة: «صدّقت دمشق أنني شاعرة حين رأتني مع الشعراء».
ختمت الأمسية بأغنية لمنظم الورشة وصاحب «دارة زرقان للفنون» الفنان بشار زرقان مع هالة أرسلان لقصيدة الحلاج «ما لي جُفيتُ وكنت لا أُجفى». بعد أن رافقت الموسيقى كل الأمسية بعزف لموفق الذهبي على التشيللو، وتوفيق ميرخان على القانون، وجمال السقا على الإيقاع.
راشد عيسى
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد