الأشجار عماتنا الفاضلات
يتملكني احساس بحب بنوي غامض للشجرة، يرقى الى ما يقرب من التقديس. وأحسب ان هذا ربما كان إحساساً عاماً بين البشر. فقد كانت الاشجار تقدس قديماً، مثل نخلة نجران عند العرب. ويقال ان بوذا كان يتلقى الإلهام تحت شجرة البو. والبلوط كان شجر الآلهة التي تقترن بالصاعقة مثل يهوه وإيل وزيوس وجوبيتر وهرقل الخ. وقد تحدث جيمس فريزر في «الغصن الذهبي» عن التضحية البشرية بملك البلوط في منتصف الصيف. وكان الصفصاف مقدساً عند السومريين، والعبريين، واليونانيين، وفي أوروبا. وكانت لشجرة الحور قدسية عند السومريين.والزيتون كان مقدساً عند الكنعانيين، ثم العبريين. وكان زيته يهرق على رؤوس الآلهة تتويجاً لها، (وكان الملوك تمسح رؤوسهم بالزيت عند التتويج). ومن هنا جاء اسم «المسيح». كما كانت شجرة الراتنجية (صنوبرية، تشبه التنّوب) مقدسة عند الشعوب الجرمانية، ثم اصبحت شجرة عيد الميلاد في ما بعد...
ومما يؤسف له أن البشر تخلوا عن بعض الاساطير الجميلة، كأساطير الاشجار. وفي الهند كانت شجرة الأسوكا Asoka تعني شجرة اللاحزان، ويقال إن بوذا وُلد تحتها. كما يقال إن براهما تحوّل الى شجرة البانيان. (شاهدت هذه الشجرة للمرة الأولى في حرم الجامعة الاميركية في بيروت قبل أكثر من خمسين عاماً، فبهرتني بجلال جذورها المدلاة من أغصانها، والزاحفة كأنها أفاعٍ تسعى اليك!)
ولا أزال أنظر الى شجرة الدُلب، الجميلة، بأوراقها الكفيّة الشكل، وجذوعها المبقعة على شاكلة بدلة المغاوير (هل تعرفونها؟)... أقول، لا أزال انظر اليها على انها شجرة الإلهة السومرية إنانّا (تقابلها عشتار بالبابلية)، وشجرة هيلين الإسبارطية (خطيفة باريس الطروادي). ان ظلها الوارف هو الذي أغرى إنانّا على الاستلقاء تحتها، لتخلد الى النوم بعد عناء سفر وترحال. ولم تعلم أنها كانت نائمة في بستان المدعو شوكاليتودا، الذي أباح لنفسه اغتصابها في غفلة منها.
لكن إنانّا تقترن بالقصب في المقام الأول. فقد كانت حزمة القصب العلامة المسمارية لإسمها، ربما لأن القصب كان المادة الأساسية لصنع البيوت في سومر، في الأهوار. وقد شاهدت في بلدة الجبايش العراقية (في قلب الاهوار) «مضيفاً» كبيراً مصنوعاً كله من القصب، وفي واجهته ومؤخرته حزم القصب، تماماً على غرار ما كانت ترزم وتشد في ايام سومر. ومن المعلوم ان الاعمدة الإغريقية المحددة طولياً ابتكرت هندستها بوحي من رزمة القصب السومرية... وكان القصب رمزاً للملكية في شرق البحر المتوسط. كانت صولجانات الفراعنة تصنع منه. ومن القصب كانت تصنع السهام. وكان الفرعون يصوّر وهو يسرد سهامه في كافة الاتجاهات، كرمز للسيادة الكليانية.
ومن اغصان الطقوس كان يصنع افضل الاقواس (أقواس الرماية). وقد تعلم الرومان ذلك من اليونانيين. وكانت شجرة الطقوس تُنعت بشجرة الموت. فهي شجرة الموت في كل اقطار اوروبا. وكانت مقدسة عند هيكاتة في اليونان وايطاليا. ونحن استعرنا اسمها من اللاتينية taxus، ومن المرجح ان اللفظة اللاتينية ترجع الى الكلمة اليونانية التي تقال للقوس، وهي toxom، وكذلك الى لفظة toxicon، اليونانية ايضاً، التي تقال للسم، الذي كانت السهام تدهن به. والطقوس عند شيكسبير شجرة الموت المضاعف، وقد جعل عم هاملت يسمم الملك بصب عصارته chebenon في أذنه.
وكنتُ أود أن أبدأ هذه الكلمة بعماتنا النخل، كما جاء في الحديث الشريف «أكرموا عماتكم النخل» (النخل يؤنث بلغة أهل الحجاز، ويذكر بلغة نجد، قديماً، لكنني شطحت. ثم رايت ان أعود الآن الى عماتنا. فقد كانت النخلة تعتبر إلهة الولادة في مصر، وبابل، والجزيرة العربية، وفينيقيا. وفي القرآن الكريم، ورد في الآية (22) من سورة مريم ان المخاض جاء مريم عند ولادة المسيح تحت نخلة: «فجاءها المخاض الى جذع نخلة».
وكان العرب يكسون نخلة نجران بالملابس، ويزينونها بالزينة النسائية. وعبدت قبيلة حنينة التمر. وكانت النخلة تقترن ببعل في اللغات السامية، مثل «بعل تامار»، أي بعل النخلة، وهو اسم مدينة. والكلمة السامية للنخلة هي تامار، ومنها جاء (التمر) بالعربية، وربما ايضاً «الثمر». كما جاء منها اسم تمارا، الجميل، الشائع في روسيا والقفقاس. اما كلمة «نخلة»، فأنا أميل الى الاعتقاد بأنها مأخوذة من «خولاميتو» السومرية، وهي احدى الألفاظ التي تقال للنخلة بهذه اللغة. وتسمى النخلة باليونانية فينقس phoenix. وتقال هذه الكلمة للعنقاء ايضاً، او الفينيق.
وقد أشرت مرة الى ان اصل كلمة «شجرة» العربية ربما يعود الى لفظة sagaris اليونانية. فالكلمة السامية المشتركة للشجرة هي مادة «ع ص»، وبقيت هذه في العربية في كلمة «العصا»، وفي «العضاة»، وهو كل شجر عظيم وله شوك. اما كلمة sagaris اليونانية فكانت تقال لنوع من انواع السلاح كان السكيثيون يستعملونه في قتالهم، وكذلك النساء الأمازونيات، على عهد هيرودوتس. وقيل ان الكلمة كانت تطلق على سلاح كان الآسيويون القدامى يستعملونه. وفي القواميس العربية، ان من معاني «شجَرَ»، فضلاً عن مدلولها النباتي، تنازع، تخاصم. وتشاجروا بالسلاح: تطاعنوا. والشجير: السيف. فهل «الشجرة»، حكمة معرّبة؟
ودهشت لما علمت اخيراً ان النخيل، والحنطة، والخيزران والقصب، والزنبق، الخ، من عشيرة واحدة، قديمة جداً. ويبدو انني يوم كتبت اقصوصة بعنوان «الرجال الغرباء وأشجار الحنطة» لم أكن مفرطاً في شطحتي الفنطازية. وينبغي ان لا يغرب عن بالنا ان الاشجار كلها تطورت من اعشاب، وهذه من طحالب. فالنجيليات، التي منها جاءت الحنطة، تنتمي الى رتبة poaceae النباتية، وهذه تشتمل على زهاء عشرة آلاف نوع من انواع النجيليات. ومن بين اخواتها ايضاً فصائل الخيزران، والقصب، والبردى، والحشائش، والأناناس، الخ، وهي ابنة عم النخيليات، وهذه من رتبة Arcales النباتية، وهي ايضاً ابنة عم الموْزيات.
وكنتُ أود ان استطرد في الحديث عن الاشجار في دنيا الاسطورة واللغة، الا ان عالمها الفسيفسائي شدني اليه. وأحببت ان أقف على سيرة حياة الاشجار، فاقتنيت كتاباً، صدر حديثاً، بعنوان «الحياة السرية للأشجار»، فكان أحلى من قصب السكر!
وقرأت في هذا الكتاب ان هناك زهاء ثلاثمئة وخمسين ألف نوع من الانواع النباتية التي تنمو على اليابسة. وان اوائل النباتات، التي يمكن تسميتها بصورة مهلهلة، طحالب او أشنات، غامرت بالخروج الى اليابسة (من البحر) قبل حوالى 450 مليون سنة. وبعد ذلك بزهاء 30 مليون سنة، ظهرت اصناف اخرى من النباتات التي بدأت تكبر،وهي ما يسمى بالنباتات ذوات الوعائية. وهذه النباتات ابتكرت مادة الخشبين lignin. والخشبين هو ما يحوّل السليلوز الى خشب. والتشجر استغرق دهوراً طويلة جداً الى ان اصبح على ما هو عليه اليوم. وكانت اقدم الاشجار بطول عود الثقاب، وكانت هذه تنبت في المستنقعات. وترقى الى 420 مليون سنة. ثم انقرضت. وقبل ذلك خلفت احدى فصائلها ذريتين لا تزالان تعاصراننا. وكلتا هاتين الذريتين اجترحتا ما اصبح يدعى اليوم شجرة... ثم ظهرت في الحقبة الواقعة بين 360 مليون سنة و270 مليون سنة قبل الآن، اشجار غابات، كانت هندستها بدائية، تتشعب جذورها وأغصانها على هيئة الحرف Y. لكن بعضها كان ضخماً مهيباً، قد يصل الى ارتفاع اربعين متراً. وكانت اوراق هذه الاشجار اشبه بصدف السمك. وبعد ذلك ظهرت مجموعة تسمى euphyllophytes «نباتات ذوات اوراق جيدة»، تضم كل اشجارنا التي نعرفها. وفي حدود 400 مليون سنة قبل الآن، انقسمت هذه الى مجموعتين كبيرتين ايضاً. احدى هاتين المجموعتين تدعى monilophytes، استمرت في إنسال جيل صار ينتج بيوضاً وحيامن... وهذه ابتكرت صنفين، انقرض احدهما، وبقي الآخر معنا، هو السرخس. أما الذي انقرض فقد قدم لنا مادة عظيمة الفائدة، هي الفحم المتحجر، الذي كان وقود الثورة الصناعية.
ثم كانت السيكاسيات cycades (العاريات البزور)، التي ترقى الى 270 مليون سنة، وهي أشبه بالنخيل، وهذه كانت طعام الديناصورات. وظهرت الصنوبريات اول مرة قبل 300 مليون سنة، قبل الديناصورات بزمن. وبعد ذلك بمئتي مليون سنة أصبحت الصنوبريات كاسية البزور. وكل الصنوبريات خشبية، وهي غير مزهرة. ونحن ما نزال في مرحلة ما قبل ظهور الزهور.ويقول ريتشارد داوكنز، عالم الاحياء البريطاني المعروف: يتحدث الناس عن المنطقة التي ينبغي للمرء ان يزورها قبل ان يموت. المكان الذي أرشحه هو Muir Wood، شمالي جسر البوابة الذهبية (في سان فرانسيسكو) تماماً. إنه كاتدرائية من الخضرة واللون البني والسكون. وصحنها تكلكل عليه احدى أطول اشجار العالم، من فصيلة اشجار الـ redwoods الساحلية، التي يمتص لحاؤها اللبادي الأصداء العالية. ان الفصائل المماثلة لها (...)، التي تتوافر في المناطق الداخلية (بعيداً من الساحل) على سفوح سلسلة جبال السيرا نيفادا، اشجار اقصر منها قليلاً، لكنها اضخم. إن أضخم شجرة حية على وجه الأرض، هي شجرة الجنرال شيرمان، يبلغ محيطها 30 متراً، وطولها 80 متراً، ويقدر وزنها بنحو 1260 طناً. وعمرها غير معروف، لكن فصيلتها تعمر اكثر من ثلاثة آلاف سنة، وهي من فصيلة الصنوبريات.
وقد سبق لي انا ان زرت منطقة اشجار الـ redwoods المذهلة، في الطريق الى نيفادا، لكنني لم ازر الجنرال شيرمان، مع انها لم تكن تبعد عن مقامي (في بيركلي) سوى بضعة عشر كيلومتراً!
وأحن اليوم الى متسلق الجهنمية وزهوره النارية الصارخة، واشجار النارنج، والتين، والرمان، والسدرة، وشتلات الورد، والغلاديولاس، وزهور الليليوم ليوم واحد، في حديقة دارنا، في بغداد، التي لم يعد بوسعي ان أزورها، بعد ان تعرض عراقنا «الجديد» الى الخراب، والتفتت، والانمحاء.
وأحن ايضاً الى كوكبة من الهندباء البرية، كانت تبتسم لي صباح كل يوم صيفي، عندما اخرج من المجمع السكني الذي كنتُ أقيم فيه، في بودابست. فأتلكأ لحظات لأحيي زهورها البنفسجية الفاتحة الصغيرة، التي تشبه الطواحين، ثم أمضي في طريقي الى موقف الباص.
كما كنتُ أود الحديث عن الاشجار، والاعشاب، والحشائش، التي يرد ذكرها في رواية «الدون الهادئ» لميخائيل شولوخوف، والتي ربما احتاجت الى كتيب او مصنف لاستيعابها. فلقد استمتعت كثيراً بأسماء هذه النباتات ايام شاركت في ترجمة الكتاب.
وبقي لي ان أتحدث عن النباتات والاشجار المزهرة، لا سيما رتبة الورديات، المذهلة، التي تنتمي اليها جل فاكهة الأرض. لكنني سأرجئ الحديث عنها الى فرصة أخرى، لأن الحيز المتاح لهذه الكلمة لا يتسع لها.
علي الشوك
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد