الاستعمار
إن الاستعمار هو ممارسة الهيمنة، والتي تتضمن إخضاع شعب لآخر، ولكن أحد مصاعب تعريف الاستعمار هو تمييزه عن الإمبريالية، وكثيراً ما يُعامل المفهومان على أنهما مترادفان، والإمبريالية -مثلها مثل الاستعمار- تتضمن أيضًا السيطرة الاقتصادية والسياسية على المنطقة الخاضعة، بيْد أن الاشتقاق اللغوي للمصطلحين يدلنا على بعض مواضع الاختلاف. فكلمة مُستعمرة (colony) مشتقّة من الكلمة اللاتينية “colonus”، وتعني “المُزارع”، تذكرنا هذه الجذور بأن ممارسة الاستعمار تنطوي عادةً على نقل السكان إلى إقليم جديد، حيث يعيش الوافدون كمستوطنين دائمين مع الحفاظ على ولاءهم السياسي لبلدهم الأصلِ. ومن الناحية الأخرى، فإن الإمبريالية مشتقة من الكلمة اللاتينية “imperium”، وتعني “أن يقود”. وتبعا لذلك، فإن مصطلح الإمبريالية يركز على طريقة بلدٍ ما في ممارسة السيطرة على آخر، سواءً كان ذلك عبر بناء المستعمرات أو فرض السيادة أو الآليات غير المباشرة للسيطرة.
كانت شرعية الاستعمار -ولوقتٍ طويل- محط اهتمام الفلاسفة ذوي النزعة السياسية والأخلاقية في التراث الغربي، فقد عانى المنظرون السياسيون -منذ الحروب الصليبية وغزو الأمريكيين على الأقل- من صعوبة التوفيق بين العدالة والقانون الطبيعي في ممارسة السيادة الأوروبية على الشعوب الغير غربية. احتد التوتر بين الفكر الليبرالي وممارسة الاستعمار في القرن التاسع عشر على وجه الخصوص عندما وصلت هيمنة أوروبا على بقية العالم إلى أوجها. ومما يدعو إلى التندر هو أن الفلاسفة السياسيين الذين يدافعون عن مبادئ الكونية والمساواة هم أنفسهم من كانوا أيضاً يدافعون عن شرعية الاستعمار والإمبريالية، و كانت أحد السبل للتوفيق بين هذين المبدأين المتناقضين حُجة عُرفت باسم “مهمة نشر الحضارة”، والتي تشير إلى أهمية وجود تبعية سياسية أو وصاية لفترة مؤقتة على المجتمعات “الغير متحضرة” كي يصلوا إلى مرحلة يكونوا فيها قادرين على الحفاظ على المؤسسات الليبرالية والحكم الذاتي.
إن هدف هذه المقالة هو تحليل العلاقة بين النظرية السياسية الغربية ومشروع الاستعمار، وبعد تقديم مناقشة أكثر شمولاً لمفهوم الاستعمار، ستشرح هذه المقالة كيف برر المفكرون الأوربيون الهيمنة السياسية وشرّعوها وعارضوها، وسيركز الجزء الثالث على الليبرالية، وسيناقش الجزء الرابع بإيجاز التراث الماركسي متضمناً دفاع ماركس نفسه عن الاستعمار البريطاني في الهند وكتابات لينين المعادية للإمبريالية. ويحتوي الجزء الخامس على مقدمة لـ”نظرية ما بعد الاستعمار” المعاصرة، فقد كانت هذه المقاربة -على وجه الخصوص- مؤثرة في الدراسات الأدبية لأنها تجذب الانتباه بسبل شتّى إلى أن الذوات الما بعد استعمارية محكومة بالممارسات الخطابية وتُقاوم بواسطتها. وسيعرض الجزء الأخير نقد السكان الأصليين للاستعمار الاستيطاني الذي يظهر بصفته ردًّا على الممارسات الاستعمارية القائمة على الهيمنة، والتجريد من الأراضي، والعادات، والتاريخ المتوارث، ونظريات ما بعد الاستعمار للكونية. إن هدف هذه المقالة هو تقديم نظرة عامة على مجموع الكتابات الضخمة وتعقيداتها والتي تبحث في القضايا النظرية الناشئة من تجربة الاستعمار الأوروبي.
- تعاريف وعناوين
إن الاستعمار ليس بظاهرة حديثة، فتاريخ العالم مليء بكثير من الأمثلة على مجتمعات امتدت وضمّت إليها أراضٍ مجاورة، وقامت بتوطين سكانها بأرضٍ جديدة محتلة، وأشهر الأمثلة -من بين الكثير غيرها- إقامة اليونانيين القدماء لمستعمرات كما فعل الرومان والبرابرة والعثمانيون، مما يعني أن الاستعمار ليس محدداً بوقت أو مكان معينين. غير أنه قد تغير الاستعمار كُلياً في القرن السادس عشر بسبب التطورات التكنولوجية في الملاحة، والتي بدأت بربط مناطق نائية من العالم، فسرعة السفن المبحرة جعلت الوصول إلى الموانئ البعيدة ممكناً، وأن يكون صلة وصل بين المركز والمستعمرات. هكذا نشأ مشروع الاستعمار الأوروبي الحديث عندما أصبح من الممكن نقل عدد كبير من السكان عبر المحيط والمحافظة على السلطة السياسية على الرغم من التشتت الجغرافي. ويستخدم هذا المدخل مصطلح الاستعمار ((colonialism ليصف ما قامت به أوروبا لبسط نفوذها السياسي ومستوطناتها في بقية أنحاء العالم، بما فيها الأمريكيتين وأستراليا وأجزاءً من أفريقيا وآسيا.
تنشأ صعوبة تعريف الاستعمار من كونه غالبًا ما يُستخدم المصطلح كمرادف للإمبريالية. يُتوقع من الاستعمار والإمبريالية أن يعودا بالنفع على أوروبا اقتصاديًا واستراتيجيًا لكونهما شكلاً من أشكال الاحتلال. يستخدم مصطلح الاستعمار في كثير من الأحيان لوصف المستعمرات في أمريكا الشمالية ونيوزيلندا والجزائر والبرازيل، وهي أراضٍ أقام فيها عدد كبير من السكان الأوروبيين إقامة دائمة وسيطروا عليها. يصف مصطلح الإمبريالية في الغالب تولي حكومة أجنبية إدارة منطقة دون نشاط استيطاني كبير؛ ومن الأمثلة النمطية، التكالب على افريقيا في أواخر القرن التاسع عشر، والهيمنة الأمريكية على الفلبين وبورتوريكو. غير أن الاختلاف ما بين هذين المصطلحين غير متّسق كُليًا مع المؤلفات الأدبية، فيفرق بعض الباحثين ما بين المستعمرات المخصصة للاستيطان والمستعمرات الناشئة بغرض الاستغلال الاقتصادي، واستخدم البعض الآخر مصطلح الاستعمار ليصفوا الملحقات التي تحكمها دولة أجنبية بشكلٍ مباشر وشرح تباينها عن الإمبريالية، حيث تتضمن الأخيرة أشكالاً غير مباشرة من السيطرة.
يقع اللبْس في معنى مصطلح الإمبريالية في الطريقة التي تغير بها المفهوم على مر الزمن، مع أن الكلمة الإنجليزية “الإمبريالية” لم تكن شائعة الاستخدام قبل القرن التاسع عشر، وكان الإليزابيثيون حينها قد وصفوا المملكة المتحدة بـ “الامبراطورية البريطانية”. وُظِّف مفهوم الإمبراطورية توظيفًا أكثر شيوعًا في الوقت الذي بدأت فيه بريطانيا بالهيمنة على أقاليم ما وراء البحار، وكانت تُفهم الإمبريالية على أنها نظام الهيمنة والسيادة العسكرية على الأقطار. وقد يمارس العمل الحكومي ممارسة غير مباشرة بواسطة المجالس الحلية أو بواسطة حكام من السكان الأصليين ممن يكنون لهم الاحترام، بيْد أن السيادة تبقى للبريطانيين. ولكن تغير المفهوم التقليدي للامبراطورية لتأثره بتحليل لينين للإمبريالية على أنها نظام يُعنى بالاستغلال الاقتصادي. ووفقاً للينين، أن الإمبريالية كانت نتيجة ضرورية وحتمية لمنطق التراكم في الرأسمالية المتأخرة. وهكذا وصفت الإمبريالية –عند لينين والماركسيين الاحقين- مرحلة تاريخية من الرأسمالية بدلاً من أن تكون ممارسة للهيمنة السياسية والعسكرية عبر التاريخ، ولذلك ظهر أثر النهج الماركسي في النقاشات المعاصرة حول الإمبريالية الأمريكية، ويُقصد بهذا المصطلح عادةً الهيمنة الاقتصادية الأمريكية، سواء كانت تُمارس بشكلٍ مباشر أو غير مباشر (Young 2001). نظراً لصعوبة التمييز ما بين المصطلحين، سيرد في هذا المدخل مصطلح “الاستعمار” كمفهوم واسع يشير إلى مشروع الهيمنة السياسية الأوروبية منذ القرن السادس عشر حتى القرن العشرين، والذي انتهى بحركات التحرير الوطنية في الستينات، وسيستخدم اصطلاح “ما بعد الاستعمار” في وصف الكفاح السياسي والنظري للمجتمعات التي مرت بمرحلة انتقالية من التبعية السياسية إلى السيادة. كما سيوظف هذا المدخل مصطلح “الإمبريالية” كمفهوم واسع يشير إلى الهيمنة الاقتصادية والسياسية والعسكرية التي تتحقق دون إقامة مستعمرات أوروبية دائمة ذات أهمية تُذكر.
2- القانون الطبيعي وعصر الاكتشاف
آثار الغزو الإسباني للأمريكيتين نقاشاً لاهوتياً وسياسياً وأخلاقياً حول استخدام القوة العسكرية للهيمنة على أراضٍ أجنبية، جرى النقاش في إطار الخطاب الديني الذي شَرعَ الغزو العسكري ليكون وسيلة لتسهيل هداية السكان الأصليين وخلاصهم، وكانت فكرة “نشر الحضارة” في القرن التاسع عشر من اختراع البريطانيين بلا شك. برئ المستعمرون الأسبان أفعالهم في الأمريكيتين بأنها مهمة دينية لتنصير الشعوب، ووفرت الحملات الصليبية الدافع الأساسي لوضع مذهب قانوني يسوغ غزو أراضي الكفار وتملكها. في حين تشكلت الحملات الصليبية -في بادئ الأمر- كحروب دفاعية لاستعادة الأراضي المسيحية التي استحوذ عليها غير المسيحيين، وأدت الابتداعات النظرية الناتجة دوراً مهماً في تبرير المحاولات اللاحقة لغزو الأمريكيتين، وحيث كان الادعاء الرئيس القائل بأن “التفويض البيتري” للاهتمام بنفوس شعب المسيح يتطلب اعطاءه سُلطة قضائية بابوية على المسائل الدنيوية والروحية، وهذه السلطة ممتدة إلى غير المؤمنين إضافة إلى المؤمنين.
ومع ذلك، لم تكن هداية السكان الأصليين مبرراً كافياً لمشروع غزو ما وراء البحار، فقد صادف غزو الأسبان للأمريكيتين فترة إصلاح حيث تأثر خلالها الباحثون الإنسانيون في الكنيسة بنظريات القانون الطبيعي لعلماء اللاهوت، مثل القديس توما الأكويني، ووفقاً للبابا إنوسنت الرابع (Pope Innocent IV)، فإنه يستحيل شن حرب على الكفار وتجريدهم من ممتلكاتهم لمجرد كونهم غير مؤمنين. وخَلصَ البابا –متأثراً بالتوماوية- إلى أن استخدام القوة مشروع فقط في حال انتهاك الكفار للقانون الطبيعي، وأعطى البابا سلطة شرعية لغير المؤمنين على أنفسهم وممتلكاتهم، ولكن تبطُل هذه السلطة في حال ثبُتَ عدم قدرتهم على ضبط أنفسهم وفق المعايير المتعارف عليها عند ذوي الألباب. وسرعان ما قرر الأسبان أن عادات السكان الأصليين في لأمريكيتين من التعري، وعدم رغبتهم في العمل، ولأكلهم المزعوم للحوم البشر، تبرهن صراحة على عجزهم عن إدراك القانون الطبيعي، كانت هذه الرواية وسيلة لتشريع استعباد الهنود الحمر، وإصرار المستعمرين الأسبان على أنها الوسيلة الوحيدة لتعليمهم الحضارة وإدخالهم في النصرانية.اُرسل بعض المبشرين الإسبان إلى العالم الجديد، ولاحظوا تفشي الاستغلال الوحشي لعمل العبيد في ظل غياب أية تعليمات دينية مُلزمة. وأشار أحد أعضاء الكهنة الدومينيكانيين النفاق في استعباد الهنود لوحشيتهم المزعومة بغية شن حرب عليهم واستعمارهم واستعبادهم مما أدى إلى اضمحلال عدد سكان هيسبانيولا (Hispaniola) من 250,000 إلى 15,000 خلال عقدين من الحُكم الإسباني. أثارت الإبادات الجماعية الناتجة عن بعثة الإسبان لنشر الحضارة تساؤلات حول هذه المهمة، كان بارتولومي دي لاس كاساس (Bartolomé de Las Casas) وفراثنيسكوس دي فكتوريا (Franciscus de Victoria) من أكثر منتقدي الممارسات الاستعمارية الإسبانية تأثيرًا. أقام فكتوريا سلسلة من المحاضرات حول حقوق الهنود التي طبق فيها نظريات التوماوية على ممارسات الحُكم الإسباني، وجادل في أن كل البشر لديهم القدرة على التفكير العقلاني ومنها تنشأ الحقوق الطبيعية؛ ومن هذا المنطلق، استخلص قراراً بابوياً بأن حق ملكية إسبانيا للأمريكيتين هو حق غير مشروع. وعلى خلاف إنوست الرابع، جادل فيكتوريا أنه لا يحق للبابا ولا الأسبان أن يخضعوا الهنود لمعاقبتهم على انتهاك القانون الطبيعي مثل الفسوق والزنا، وقد نوه بأنه لا يحق للبابا شن حرب على المسيحيين وأخذ ممتلكاتهم بحجة أنهم “زناة أو لصوص”، وإن كانت تلك هي الحال، فلن تبقى أية هيمنة ملكية أوروبية في أمان. وعلاوة على ذلك، تقل أحقية البابا –عند فيكتوريا- والحكام المسيحيين المتصرفين بتفويضه بفرض القوانين على غير المؤمنين لكونهم خارج نطاق المجتمع المسيحي الذي كان مجال السلطة البابوية (Williams 1990).
على الرغم من هذا الانتقاد اللاذع للنماذج السائدة لتبرير الاستعمار الإسباني، خلص فيكتوريا إلى أن استخدام القوة في العالم الجديد كان مشروعاً حين انتهكت المجتمعات الهندية القانون الدولي، وهو مجموعة من المبادئ المُستقاة من العقل، والتي أصبحت بذلك التزاماً عالمياً. سيظهر التناقض للوهلة الأولى على أنه من المفترض أن الانتهاكات التي ارتكبها الهنود للقانون الطبيعي لم تبرر الغزو، ولكن برره انتهاكهم للقانون الدولي، وهو مشتق من القانون الطبيعي في الأصل. شدد فيكتوريا على إلزامية القانون الدولي لأن “وجوده كافٍ كفاية جلية لتوافق أعظم اجزاء العالم كله” (391)، ولأن مبادئه نافعة لـ”المصلحة العامة للجميع”. وكما يظهر أن التمييز بينهما يعتمد على افتراض أن المبادئ الأخرى التي ترتبط عادةً بالقانون الطبيعي (كحظر الزنا والوثنية) لا تؤثر إلا على أولئك الذين يوافقون على الممارسات، في حين أن انتهاك القانون الطبيعي (كحظر السفر الآمن أو التجارة) له عواقب مترتبة على أولئك الذين لا يوافقون عليها. وفي النهاية، قاد فهم فيكتوريا للقانون الدولي إلى الدفاع عن ممارسات الاستعمار الإسباني. بيد أنه شدد على حد الأعمال الحربية في حدود المعايير الملَحة لتحقيق الأهداف المشروعة من العمل التبشيري والتجارة الآمنة، ولكن انتقاد فيكتوريا لشرعية الاستعمار وأخلاقيته كان ضمن إطار عقلنة الاحتلال، وإن كان عقلنة بتقييد.
3- الليبرالية والامبراطورية
كانت مشروعية الاستعمار موضوعاً للنقاش بين الفلاسفة الفرنسيين والألمانيين والبريطانيين في القرن الثامن عشر والتاسع عشر. كان مفكرو عصر الأنوار من أمثال كانط وسميث وديدرو ناقدون لأعمال الاستعمار الوحشية ومعارضين للفكرة القائلة بأنه يقع على عاتق الأوروبيين مسؤولية جعل بقية العالم “متحضراً”، قد يبدو واضحاً نسبياً من الوهلة الأولى بأن مفكري عصر الأنوار سيطورون انتقاداً للاستعمار. فنظام الهيمنة الاستعماري والذي يتضمن خليطاً من العبودية، والعمل القسري شبه الاقطاعي، ونزع الملكية، هو مناقض للمبدأ الأساسي للتنوير القائل بأن كل فرد قادر على التفكير والحكم الذاتي، بيد أن نشوء نظرية سياسية معادية للاستعمار يتطلب أكثر من أخلاقيات عالمية تقر بالإنسانية المشتركة لدى الجميع. وكما ذُكر أعلاه، ثبت أن مفهوم الكونية التوماوية ذو أسس ضعيفة نسبيًا لأن يكون نقداً للاستعمار. إذا وضعنا الاضطراب القائم بين الكونية المجردة للقانون الطبيعي والممارسات الفعلية للشعوب الأصلية بعين الاعتبار فإنه من السهل تأويل اختلاف السكان الأصليين بأنه أمر مخالف للقانون الطبيعي، وأصبح هذا بدوره مبرراً للاستغلال. كان ديدرو واحداً من أكثر المنتقدين قوةً للاستعمار الأوروبي، وفي مساهماته لكتاب رينال بعنوان (Histoire des deux Indes)، يعترض وجهة النظر التي تقول باستفادة السكان الأصليين من الحضارة الأوروبية، ويجادل بأن المستعمرين الأوروبيين هم الهمجيون. ويدعي أن الثقافة هي (“الطابع الوطني”) التي تساعد على غرس الأخلاق وتعزز أعراف الاحترام، ولكن قد تتبدد هذه الأعراف في حال كان الشخص بعيداً عن موطنه الأصلي. ووفقاً لديدرو، فإنه عادةً ما تصبح الامبراطوريات الاستعمارية مكاناً تُمارس فيه الأعمال الوحشية، وذلك لبُعد المستعمِرين عن مؤسساتٍ قانونية وعقوباتٍ عامة، ويضعف هذا بدوره القدرة على ضبط النفس، ويكشف عن غريزة الطبيعة البشرية تجاه العنف .
كما يعترض ديدرو على تبرئة هيمنة الاستعمار الأوروبي، رغم أنه يعترف أن استعمار المناطق غير المأهولة بالسكان هو أمرٌ شرعي، إلا أنه يصر على أن التجار الأجانب والمستكشفون ليس لديهم الحق في الدخول إلى الأراضي المأهولة بالكامل، وكان هذا الأمر محط اهتمام بسبب استخدام المفكرين الإسبان في القرن السادس عشر والسابع عشر حجة “حق التجارة” (الذي يُفهم على أنه يشمل الأعمال التبشيرية والاستكشاف وليس التجارة فقط) كمبرر للاستعمار. ومن الأمثلة على هذا النهج استنتاج فيكتوريا بأن السكان الأصليين لا يمكنهم استبعاد التجار السلميين والمبشرون دون انتهاك القانون الدولي، وفي حال قاوم السكان الأصليين عمليات التوغل، فإنه يُشرع للإسبان شنّ حرب عليهم واحتلال أراضيهم، وقد اعترض ديدرو وجهة النظر هذه مشيراً إلى أن التجار الأوروبيين أثبتوا أنهم “ضيوف خطرين” .
قبل أن يستطيع مفكرو عصر الأنوار انتقاد الاستعمار بشكل حاد، كان عليهم الاعتراف بأهمية الثقافة وإمكانية تعدديتها. كان الادعاء القائل بأن جميع الأفراد يستحقون -وعلى قدر سواء- العيش بكرامة واحترام ضروريًا، ولكنه لم يكن كافياً بالنسبة للفكر المعادي للإمبريالية، وكان عليهم أن الاعتراف كذلك أن الاتجاه نحو تطوير مؤسسات وخطابات وممارسات جمالية متنوعة، هو أمر نابع من القدرات البشرية الأساسية. إن الكلمة الفرنسية “moeurs” أو ما يُسمى بـ”الثقافة” تجسد فكرة أن إنسانية البشر يُعبر عنها بالممارسات المميزة، والتي اعتُمدت كحلول لمواجهة تحديات الوجود الإنساني.
تعكس أعمال المفكرين المعاديين للإمبريالية مثل ديدرو وكانط اضطراباً بين المفاهيم العالمية مثل حقوق الإنسان وحقائق التعددية الثقافية، حيث يظهر تناقض معارضة الإمبريالية في عصر الأنوار في فهمها لكرامة الإنسان على أنها أمر متأصل في القدرات البشرية العالمية للإدراك، ولكن عندما ينخرط الناس في ممارسات ثقافية غير مألوفة ومزعجة بالنسبة للمراقبين الأوروبيين فسيبدون غير عقلانيين وسيصبون بذلك غير مستحقين للاحترام والاعتراف بهم، فكان حل ديدرو هو تعريف الخصوصية على أنها سمة بشرية عالمية. وبعبارة أخرى، شدد ديدرو على أنه لدى كل البشر الرغبة ذاتها في خلق قواعد عملية للسلوك تسمح لأساليب حياة معينة بالازدهار دون خلق وحشية وظلم (Muthu 2003: 77). يوجد أنواع لا حصر لها من الحلول للتحديات التي يطرحها الوجود الإنساني، وتحتاج جميع المجتمعات إلى إيجاد طريقة لتحقيق التوازن بين الأنانية الفردية والمجتمعية، وللتغلب على المحن التي تنجم عن البيئة الفيزيائية. ومن هذا المنطلق، فإن الثقافة نفسها –عوضاً عن العقلانية- هي قدرة بشرية عالمية.
لم يفترض ديدرو على عكس الكثير من الفلاسفة السياسيين في القرن الثامن عشر والتاسع عشر أن تكون المجتمعات غير الغربية بدائية بالضرورة (كافتقارها للتنظيم السياسي والاجتماعي) ولم يفترض أيضاً أن تكون المنظمات الاجتماعية الأكثر تعقيداً متقدمةً بالضرورة. كانت إحدى القضايا الرئيسية التي ميزت النقاد من أنصار الاستعمار والإمبريالية هي رؤيتهم للعلاقة بين الثقافة والتاريخ والتقدم، واستوعب العديد من الفلاسفة ذوي التأثير الذين كتبوا في فرنسا وإنجلترا في القرن الثامن عشر والتاسع عشر بعضاً من أشكال المقاربة التطورية للتاريخ الذي كان مرتبطاً بالتنوير الاسكتلندي، وفقاً لنظرية التطور التاريخي (stadial)، انتقلت كل المجتمعات من الصيد والرعي إلى الزراعة ثم التجارة، وهي عملية تطورية ترسم منحنى الثقافة من الهمجية والوحشية إلى “الحضارة” في آنٍ واحد، ولم تكن تقتصر “الحضارة” على مؤشرات التحسن المادي فقط، بل كانت قاعدة معيار بما يخص الارتقاء الأخلاقي للمجتمع كذلك.
إن لغة الحضارة والوحشية والهمجية متفشية عند الكتَاب مثل إدموند بيرك وكارل ماركس وجون ستيوارت ميل، ولذلك سيكون من الخطأ أن نستنتج بأن نظرية التطور التاريخي هي ما يميز التقاليد الليبرالية، ومع ذلك، فبالنظر إلى بيانات التنوير الاسكتلندي مثل فيرجسون وسميث –ممن كانوا رواداً- فسنجد أن لها ارتباط قوي بالليبرالية. وعارض سميث الإمبريالية لأسبابٍ اقتصادية، وشعر أن علاقات التبعية بين المدن الكبرى وتبعاتها قد شوهت آليات السوق المنظمة ذاتياً، وكان قلقاً من أن كُلفة الهيمنة العسكرية ستثقل كاهل دافعي الضرائب (Pitts 2005). كانت فكرة الحضارة تتويجاً لعملية التطور التاريخي، ولقد اثبتت جدواها في تبربر الإمبريالية، ووفقاً لعدي ميهتا، كانت الإمبريالية الليبرالية ثمرة التفاعل بين الكونية والتطور التاريخي (1999). ومن المبادئ الأساسية لليبرالية، أن جميع الأفراد لديهم القدرة ذاتها على التفكير والحكم الذاتي، إلا أن نظرية تطور التاريخ تغير مفهوم الكونية ليُفهم على أن هذه القدرات لا تظهر إلا في مرحلة معينة من الحضارة (McCarthy 2009). فعلى سبيل المثال، ووفقاً لجون ستوارت ميل (يشار إليه فيما يلي باسم ميل) ليس للهمجيين القدرة على الحكم الذاتي بسبب حبهم الجم للحرية. وأما من ناحية أخرى، فقد تعلم الخدم والعبيد والفلاحون الطاعة حتى أصبحت قدرتهم على التفكير مقيدة، فالمجتمع التجاري وحده هو الذي يحقق الظروف المادية والثقافية، التي تمكن الأفراد من إدراك إمكانية الوصول إلى الحرية والحكم الذاتي. ووفقاً لهذا المنطق، إن المجتمعات المتحضرة مثل بريطانيا العظمى تحكم الشعوب الأقل تقدماً. ومن هذا المنظور، فإن الإمبريالية ليست هيمنة سياسية واستغلال اقتصادي بالدرجة الأولى؛ بل هي ممارسة أبوية للحكومة التي تصنع “الحضارة” (مثل إضفاء الطابع العصري) حرصاً على تشجيع تقدم السكان الأصليين. إن الحكومات المستبدة (لم يتردد ميل في استخدام هذا المصطلح) هي وسيلة لانتهاء التقدم والحكم الذاتي في نهاية المطاف.
اعترف ميل، وهو موظف يعمل منذ فترة طويلة لدى شركة الهند الشرقية البريطانية، أن الحكومة الاستبدادية التي يحكمها شعبٌ أجنبي قد تقود إلى الاستغلال الاقتصادي والظلم، وإذا لم يوضع حد لهذه الانتهاكات، فقد تقوَض شرعية المشروع الامبراطوري وكفاءته. يحدد ميل في (اعتبارات الحكومة التمثيلية Considerations on Representative Government 1861) أربعة أسباب تجعل الشعوب الأجنبية (الأوروبية على سبيل المثال) غير مُلاءمة لحُكم المستعمرات. أولاً، من المستبعد أن يكون لدى السياسيين الأجانب معرفة بالظروف المحلية، التي لها أهمية في حل مشاكل السياسات العامة بفعالية. ثانياً، نظراً للاختلافات الثقافية واللغوية والدينية غالباً بين المستعمرين والمدنيون، فإنه من المستبعد أن يتعاطف المستعمرون مع السكان الأصليين والأرجح أن يعاملوهم باستبداد. ثالثاً، وحتى إن حاول المستعمرون معاملة السكان الأصليين بإنصاف، فإن نزعتهم الطبيعية للتعاطف مع المشابهين لهم (المستعمرين الآخرين والتجار) ستؤول على الأرجح إلى تشوه الحكم في حالات النزاع. أخيراً، ووفقاً لميل، يذهب التجار والمستعمِرون للخارج ليحصلوا على ثروة بمجهودٍ ومخاطرة أقل، مما يعني أن نشاطاتهم الاقتصادية تستغل الدول المستعمرة بدلاً من أن تنميها، هذه الحجج هي نتيجة النقاط الواردة في كتابات ادموند بورك المسهبة التي تهاجم سوء الحكم في الهند، وأهمها خطاب بورك الشهيرة على (Fox’s East India Bill 1783). ورغم اعتراض الدراسات العلمية الحديثة لرأي بورك كمعارض للإمبريالية، جادل دانيال اونيل في أن بورك كان مناصراً قوياً للامبراطورية البريطانية في القرن الثامن عشر (2016)، ووفقاً لأونيل، كان دفاع بورك عن الامبراطورية أيديولوجياً مترافقاً مع معارضته المحافظة للثورة الفرنسية.
كان حل ميل لمشكلة سوء الحكم الامبراطوري هو تجنب الرقابة البرلمانية لمصلحة هيئات إدارية متخصصة، حيث سيحصل أعضاؤها على التدريب لاكتساب المعرفة بالأوضاع المحلية، وسيكون مدفوعاً من الحكومة ليستطيعوا الحكم بنزاهة فيما يخص الصراعات بين المستعمرين والسكان الأصليين لكونهم لن يستفيدوا بشكل شخصي من الاستغلال الاقتصادي. ولكن، لم يستطع ميل تفسير كيفية ضمان حُكم جيد، حيث لم تكن السلطة السياسية الحاكمة مسؤولة أمام السكان. وفي هذا الإطار، كانت كتابات ميل دلالة على فشل الفكر الامبراطوري الليبرالي.
حمل المفكرون الليبراليون في القرن التاسع عشر مجموعة من الآراء بشأن مشروعية الهيمنة الأجنبية والغزو. على سبيل المثال، قدم اليكس دي توكفيل حججاً مقنعة مفادها أن الاستعمار لم يعتمد على مفهوم “نشر الحضارة”. وأدلى بأن الاستعمار لم يجلب حكماً جيداً للسكان الأصليين، ولكن لم يؤل به هذا إلى معارضة الاستعمار لأن دعمه يستند بشكلٍ تام إلى ما يصب في صالح فرنسا. وأصر على أن المستعمرات الفرنسية في الجزائر سترفع من مكانة فرنسا مقارنةً بخصومها مثل انجلترا، وقد توفر المستعمرات حلاً للفائض السكاني، الذي كان سبباً في حدوث فوضى في فرنسا. وأشار أيضاً إلى أن المساعي الامبراطورية من شأنها أن تثير الشعور بالوطنية، الذي قد يوازن قوة الطرد المركزي الحديثة المتعلقة بالمادية والنزاع الطبقي.
وشارك توكفيل بفعالية في تقدّم مشروع الاستعمار الفرنسي في الجزائر، ونشر أول تحليل له عن الاستعمار الفرنسي خلال حملته الانتخابية عام 1837 للحصول على مقعد في مجلس النواب. وبصفته عضواً، دعا إلى توسيع الوجود الفرنسي في الجزائر، وكانت رحلته إلى الجزائر عام 1841 ليؤلف (مقالة عن الجزائر Essay on Algeria) التي كانت بدورها أساساً لتقريرين برلمانيين يحملان عنوان (توكفيل 1841). وخلافاً لمناصري “نشر الحضارة” الأكثر سذاجةً، أدلى توكفيل بأن الاحتلال العسكري الوحشي لم يفعل شيئا يذكر لتقديم حكم جيد أو تقدم الحضارة، وفي ظل الانعكاس الواضح لنظرية التنوير الاسكتلندي ذات المراحل الأربع، اقرَ توكفيل “نحن نقاتل الآن بضراوة اكثر من العرب أنفسهم” و “من حسن حظهم الالتقاء مع الطرف المتحضر” (Tocqueville 1841: 70)، إلا أن هذا الإدراك لم يعني نقداً للوحشية الفرنسية. وبدلاً من ذلك، دافع عن التكتيكات المثيرة للجدل مثل تدمير المحاصيل ومصادرة الأراضي وأسر مدنيين عُزل. ومع ذلك، فإن نصوصه لا تقدم سوى القليل من التبرير الفلسفي، وهو يرفض تقاليد الحرب العادلة بأسرها، قائلاً: “أعتقد أن حق الحرب يجيز لنا تخريب البلد” (Tocqueville 1841: 70). وذكر في كتاباته عن الجزائر، أن المصالح الوطنية الفرنسية هي عامود أساس، وتخضع الاعتبارات الأخلاقية بصورةٍ واضحة للأهداف السياسية.
يعكس تحليل توكفيل عن الجزائر بعضاً من القلق حول مشروعية الاستعمار وحقيقة ما إن كان الحكم الاستعماري فعالاً، وشعر أن استقرار النظام يعتمد على قدرة الإدارة الاستعمارية في توفير حكم جيد للمستوطنين الفرنسيين، وشدد على أن المركزية المفرطة لصنع القرار في باريس مقرونةً بالممارسات التعسفية للقيادة العسكرية المحلية تعني أن المستوطنيين الفرنسيين لا يضمنون أمن ممتلكاتهم، ناهيك عن الحقوق السياسية والمدنية التي كانت أمراً مألوفاً في فرنسا. ولم يعترض على استخدام الحكم العرفي بحق السكان الأصليين، ولكنه شعر أن ذلك يؤدي إلى نتائج عكسية عندما يُطبق على الفرنسيين. كان نجاح المساعي الفرنسية في الجزائر عند توكفيل يعتمد كلياً على جذب أعداد كبيرة من المستوطنين الفرنسيين الدائمين، وبالنظر إلى استحالة كسب ولاء السكان الأصليين، لم تستطع فرنسا التشبث بالجزائر دون إنشاء مجتمعات محلية مستقرة للمستوطنين، حيث تحكم الهيمنة العسكرية السكان الأصليين، وينجذب الفرنسيون للاستيطان من خلال تعهدهم بتحقيق مكاسب اقتصادية في بيئة طبق الأصل عن فرنسا وعن الحياة الثقافية والسياسية فيها. وبعد أن ساد التفاؤل لوهلة بشأن “دمج” الأجناس في “رسالة الجزائر الثانية” (Tocqueville 1837: 25) فهم توكفيل أن العالم الاستعماري متصل بوجود تعارض دائم بين المستعمر والسكان الأصليين، وأن هذا التعارض قائم من أجل ضمان المنافع الاقتصادية للأول.
جذبت أيضاً الدراسات العلمية الحديثة الانتباه لكتابات الشخصيات ذو نزعة قانونية أقل (Bell 2016)، ركز كيلي ماكبرايد عام 2016 في (Mr. Mothercountr) على مهنة جايمس ستيفن واستخدم بحوث جديدة مُسلجة ليستكشف الفجوة بين ممارسات الإدارة الاستعمارية ومثالية سيادة القانون. اعترضت كرونا مانتينا عام 2016 في (Alibis of Empire: Henry Maine and the Ends of Liberal Imperialism) فكرة أن مفهوم الليبرالية لعب دوراً رئيسياً في تبرير الامبراطورية الفيكتورية، وتُظهر أن عمل الباحث القانوني الفيكتوري هنري مايني لعب دوراً هاماً في التحول نحو ثقافة جديدة تؤكد على مخاطر وصعوبات محاولة تحضر السكان الأصليين.
4- الماركسية واللينينية
في السنوات الأخيرة، قل اهتمام الباحثين بالنقاشات حول الاستعمار ضمن التقاليد الماركسية، ويعكس هذا تضاءل تأثيرها في القطاع الأكاديمي وفي الممارسات السياسية. وعلى الرغم من ذلك، أثرت الماركسية على كُلٍ من نظرية ما بعد الاستعمار وحركات الاستقلال المعادية للاستعمار في جميع أنحاء العالم. واسترعى الماركسيون الانتباه للأساس المادي للتوسع السياسي الأوروبي، ووضعوا مفاهيم تساعد على تفسير استمرار الاستغلال الاقتصادي بعد انتهاء الحكم السياسي المباشر.
على الرغم من أن ماركس لم يستحدث أبداً نظرية عن الاستعمار، إلا أنه أكد في تحليله للرأسمالية على طبيعة الاستعمار للميل نحو التوسع في البحث عن أسواق جديدة. وفي أعماله الكلاسيكية مثل البيان الشيوعي وغروندريس ورأس المال توقع ماركس أن البرجوازية سوف تستمر في خلق سوق عالمي وتقويض الحواجز المحلية والوطنية على حدٍ سواء بغرض توسعها. إن التوسع هو نتاج ضروري ودافع أساسي للرأسمالية ويُقصد به الإفراط في الإنتاج. إن المنافسة بين المنتجين تدفعهم إلى خفض الأجور، مما يؤدي بدوره إلى أزمة قلة الاستهلاك، والطريقة الوحيدة لمنع الانهيار الاقتصادي هي إيجاد أسواق جديدة لاستيعاب فائض السلع الاستهلاكية. ومن منظور ماركسي، لا بد من وجود شكل من أشكال الإمبريالية. وسيخلق نقل السكان إلى الأراضي الأجنبية الغنية بالموارد سوقاً للسلع الصناعية ومصدراً للموارد الطبيعية يعوَل عليه. وبدلاً من ذلك، يوجد أمام البلدان الضعيفة أحد الخيارين، إما أن تقبل طواعية بالسلع الأجنبية التي ستقَوض الصناعة المحلية أو أن تخضع للهيمنة السياسية التي ستحقق نفس الغاية.
جادل ماركس في سلسلة من المقالات الصحفية التي نشرت في عام 1850 في )نيويورك دايلي تريبيونNew York Daily Tribune ) تأثير الاستعمار البريطاني في الهند بالتحديد، وكان تحليله متسقاً مع نظريته العامة للتغيير السياسي والاقتصادي، ووصف الهند بأنها مجتمع إقطاعي بصفةٍ أساسية يمر بعملية تحديث صعبة. ووفقاً لماركس، كان “الإقطاع” الهندي مع ذلك شكلاً من أشكال التنظيم الاقتصادي المتميز، وتوصل إلى هذا الاستنتاج لأنه يعتقد (بشكل غير صحيح) أن الأراضي الزراعية في الهند كانت مُلكية جماعية. واستخدم مفهوم “الاستبداد الشرقي” ليصف نوع محدد من الهيمنة الطبقية التي استخدمت السلطة الضريبية للدولة من أجل استخراج الموارد من الفلاحين، ووفقاً له، انبثق الاستبداد الشرقي في الهند لأن الانتاجية الزراعية تعتمد على أعمال عامة واسعة النطاق مثل الري الذي وحدها الحكومة تستطيع تمويله، مما يعني أن الدولة لا يمكن أن يحل محلها نظام حكم لامركزي بسهولة. في أوروبا الغربية، يمكن تحويل المُلكية الإقطاعية تدريجياً إلى مُلكية خاصة، وهي ممتلكات غير قابلة للتصرف. أما في الهند، جعلت المُلكية المشتركة للأراضي هذا مستحيلاً، مما أعاق تنمية الزراعة التجارية والأسواق الحرة، وبما أن “الاستبداد الشرقي” منع التطور المحلي للتحديث الاقتصادي، فأصبحت الهيمنة البريطانية عاملاً له.
إن تحليل ماركس للاستعمار كقوى تقدمية لإيصال التحديث إلى المجتمعات الإقطاعية المتخلفة بدى وكأنه تبرير واضح للهيمنة الأجنبية، غير أن روايته للهيمنة البريطانية تعكس الازدواجية ذاتها التي يظهرها إزاء الرأسمالية في أوروبا. وفي كلتا الحالتين، يعترف بالمعاناة الهائلة الناجمة عن الانتقال من المجتمع الإقطاعي إلى المجتمع البرجوازي، مع الإصرار على أن الانتقال ضروري في نهاية المطاف. وجادل في إن توغل التجارة الخارجية سيؤدي إلى ثورة اجتماعية في الهند. وبالنسبة لماركس، فإن هذا الاضطراب له عواقب إيجابية وسلبية على السواء، وتعتبر معاناةً إنسانيةً هائلة عندما يفقد الفلاحون سبل عيشهم التقليدية، ولكنه يشير أيضاً إلى أن المجتمعات القروية التقليدية لا تكاد تكون رعوية؛ فهي اماكن للقمع الطبقي والرق والبؤس والقسوة. كانت نتائج المرحلة الأولى من عملية التحديث سلبية تماماً؛ وذلك بسبب فرض ضرائب مفرطة على الفقراء لدعم الحكم البريطاني وتحمل الاضطرابات الاقتصادية التي نتجت عن وفرة القطن الإنجليزي المصنع بثمنٍ بخس، إلى أن أدرك التجار البريطانيين فيما بعد أنه ليس بمقدور الهنود دفع ثمن القماش المستورد أو الإدارة البريطانية ما لم ينتجوا سلعاً ذات كفاءة للتجارة وسيوفر ذلك حافزاً للاستثمار البريطاني في الإنتاج والبنية التحتية. وعلى الرغم من اعتقاد ماركس أن الدافع وراء الحكم البريطاني هو الجشع وأنه يُمارس عن طريق القسوة، ولكنه شعر أنه لا يزال هو العامل للتقدم. لذلك، فإن لنقاش ماركس حول الحكم البريطاني في الهند ثلاث أبعاد: أولاً، وصف الطابع التقدمي للحكم الأجنبي، وثانياً، نقد للمعاناة الإنسانية، وثالثاً، حجة ختامية تقضي بانتهاء الحكم البريطاني في حال تحقق التقدم المبتغى.
طور لينين تحليله للهيمنة السياسية والاقتصادية الغربية في كتيبه (الإمبريالية: أعلى مرحلة للرأسمالية Imperialism: The Highest Stage of Capitalism 1917) (انظر لمراجع إنترنت اخرى). وألقى نظرة انتقادية أكثر وضوحاً للإمبريالية، وأشار إلى أنها كانت تقنية أتاحت للدول الغربية تأجيل الأزمة الثورية المحلية التي لا مفر منها، وذلك بتصدير أعبائها الاقتصادية إلى الدول الضعيفة. وجادل لينين في أن الإمبريالية في أواخر القرن التاسع عشر قادها المنطق الاقتصادي للرأسمالية المتأخرة، وأدى انخفاض معدل الربح إلى أزمة اقتصادية لا يمكن حلها إلا من خلال التوسع في الأراضي، وقد اضطرت التكتلات الرأسمالية إلى التوسع خارج حدودها الوطنية سعياً نحو أسواق وموارد جديدة. وفي هذا المعنى، فإن هذا التحليل يتماشى تماماً مع ماركس الذي رأى الاستعمار الأوروبي على أنه استمرار للتوسع الداخلي التابع للدولة وفي أنحاء أوروبا. يعتقد كل من ماركس ولينين أن الاستعمار والإمبريالية نتجا عن المنطق ذاته الذي قاد التطور الاقتصادي والتحديث إلى المناطق الأقل من الناحية الصناعية في أوروبا، ولكن كان هناك جزءٌ واحدٌ مميز في تحليل لينين، أنه عندما جرى تنظيم الرأسمالية المتأخرة حول الاحتكارات الوطنية، اتخذت المنافسة على الأسواق هيئة المنافسة العسكرية بين الدول على الأراضي التي قد تسيطر عليها لمنافعها الاقتصادية.
كما بحث المنظرون الماركسيون بمن فيهم روزا لوكسمبورغ وكارل كاوتسكي ونيكولاي بوخارين مسألة الإمبريالية، ويتسم موقف كاوتسكي بأهمية خاصة لأن تحليله قدم مفاهيم لا تزال تلعب دوراً بارزاً في نظرية النظم العالمية المعاصرة ودراسات ما بعد الاستعمار، ويعترض كاوتسكي الافتراض الذي يدلي بأن الإمبريالية ستؤدي إلى تطوير المناطق المعرضة للاستغلال الاقتصادي، ويشير إلى أن الإمبريالية هي العلاقة الثابتة نسبياً التي تشكل التفاعلات بين نوعين من البلدان (Young 2001) . ورغم أن الإمبريالية اتخذت في البداية شكل منافسة عسكرية بين البلدان الرأسمالية، إلا أن ذلك قد يؤدي إلى تواطؤ بين أصحاب رأس المال للحفاظ على نظام مستقر لاستغلال العالم غير المتقدم. أكثر المؤيدين المعاصرين تأثيراً هو ايمانويل واليرشتاين الذي يُعرف بنظرية النظم العالمية. ووفقاً لهذه النظرية، فإن النظام العالمي هو مجموعة من العلاقات المستقرة نسبياً بين البلدان الصناعية الرأسمالية والبلدان الأقل من الناحية الصناعية. إن هذا التقسيم الدولي للعمل منظم ليعود بالنفع على البلدان الصناعية الرأسمالية (Wallerstein 1974–1989) وينقل الموارد من البلدان الأقل إلى الصناعية.
5- نظرية ما بعد الاستعمار
من منظور نظرية النظم العالمية، فإن الاستغلال الاقتصادي للبلدان الأقل من الناحية الصناعية لا يتطلب بالضرورة هيمنة سياسية أو عسكرية مباشرة، وعلى نفس المنوال، استرعى المنظرون الأدبيون المعاصرون الانتباه إلى ممارسات التمثيل التي يسودها منطق التبعية الذي تستمر حتى بعد نيل المستعمرات السابقة الاستقلال. كانت دراسات ما بعد الاستعمار بقلم إدوارد سعيد متأثرةً بكتاب “الاستشراق”، وطبق سعيد كما في الاستشراق تقنية ميشال فوكو في تحليل الخطاب بغية كسب المعرفة فيما يتعلق بالشرق الأوسط. وبين مصطلح الاستشراق مجموعة منظمة من المفاهيم والافتراضات والممارسات الخطابية التي استخدمت لإنتاج وتفسير وتقييم المعرفة عن الشعوب غير الأوروبية. ومكن تحليل سعيد العلماء من تفكيك النصوص الأدبية والتاريخية لفهم كيف عكسوا مشروع الاستعمار ودعموه. وعلى عكس الدراسات السابقة التي ركزت على المنطق الاقتصادي أو السياسي للاستعمار، لفت سعيد الانتباه إلى العلاقة بين المعرفة والسلطة من خلال تقديم العمل الثقافي والمعرفي للإمبريالية. وكان قادراً على إضعاف الافتراض العقائدي للمعرفة المجردة من القيمة، وأظهر أن “معرفة الشرق” كانت جزءً من مشروع السيطرة عليه، ويمكن النظر إلى الاستشراق على أنه محاولة لتوسيع التضاريس الجغرافية والتاريخية لنقد ما بعد البنيوية للأبستمولوجية الغربية.
يستخدم إدوارد سعيد مصطلح الاستشراق في عدة مواضع مختلفة، أولاً، يصف الاستشراق كمجال محدد في الدراسات الأكاديمية حول الشرق الأوسط وآسيا، ولقد تصور سعيد أن نطاقه الواسع يشمل التاريخ وعلم الاجتماع والأدب وعلم الإنسان وعلم اللغة خاصة. وثانياً، يعرف الاستشراق كممارسة تساعد على تعريف أوروبا عن طريق خلق صورة ثابتة للوجه الآخر لها. إن الاستشراق هو وسيلة لتوصيف أوروبا من خلال رسم صورة أو فكرة متناقضة، استناداً إلى سلسلة من المعارضات الثنائية (العقلانية وغير العقلانية، العقل والجسم، النظام والفوضى) التي تزيح القلق الأوروبي وتتحكم به. وأخيراً، يؤكد إدوارد سعيد أنه أيضاً وسيلة لممارسة الهيمنة من خلال تكوين المعرفة عن الشرق وتصنيفها. هذا النهج الخطابي يختلف عن وجهة النظر المادية على حد سواء بأن المعرفة هي ببساطة انعكاس للمصالح الاقتصادية أو السياسية وعن النظرة المثالية التي ترى أن العلم يعتمد على معايير تحكمها الحيادية وغياب المصلحة الخاصة. واتباعاً لخطى فوكو، يصف سعيد الخطاب كشكل من أشكال المعرفة التي لا تُستخدم بشكل أساسي في خدمة السلطة، بل هي في حد ذاتها شكل من أشكال السلطة.
كانت مقالة غاياتري سبيفاك للمرة الثانية “هل يمكن للتابع أن يتكلم؟” بمثابة مساهمة ثانية، تحدثت فيها عن شبه الاستعمار في حدود نظرية ما بعد الاستعمار، وتعمل سبيفاك ضمن إشكالات التمثيل عند إدوارد سعيد، وشككت بمفهوم خطاب التابع المتسم بالشفافية، عندما يريد الباحثون ذوي النوايا الحسنة أن يعطوا فرصة للتابعين “ليعبروا عن أنفسهم” فإنهم يأملون استبعاد الوسطاء مثل (الخبير والقاضي والمسؤول الامبراطوري والنخبة المحلية) ليكون ذلك سبيلاً لظهور حقيقة صحيحة وليدة التجارب، ولكن التجارب بحد ذاتها تتشكل من خلال التمثيل؛ وتبعا لذلك فإن إنكار مشكلة التمثيل لا يجعلها تختفي، بل يصعب أمر الاعتراف بها. إن الحجة الرئيسية للمقالة هي “التمثيل لم يذبل” وبما أن السلطة موجودة في كل مكان حتى في اللغة نفسها، فهذا يعني أن الصحة والشفافية أمران مستحيلان؛ مما يعني أنه لا بد من أعمال التفسير المثيرة للجدل والمتسمة بالفوضى.
جادل إعجاز أحمد أنه على الرغم من ادعاءات سبيفاك بأنها تعمل ضمن التقاليد الماركسية، إلا أن مقالاتها تظهر احتقاراً للمادية والعقلانية والتقدم والسمات الأساسية للماركسية (Ahmad 1997)، ووفقاً لأحمد، تهتم سبيفاك بسردية الرأسمالية بدلاً من الهياكل المؤسسية والآثار المادية للرأسمالية كنمط إنتاج، وإن انتقاداتها الحادة للحركات التي تختزل التابعين بأنها تثير الشك حول الفرضية الأساسية للسياسة الماركسية التي تمنح الطبقة العاملة مجموعة من المصالح المشتركة الحقيقية التي ينتجها النظام الرأسمالي.
تناول فيفيك شيبر (2013) وديبيش تشاكرابارتي (2007) هذه القضايا، ويجادل تشاكرابارتي في كتابه المؤثر (Provincializing Europe) بأن المفاهيم الأوروبية المميزة مثل التحرر من الأوهام والشعور العلماني والسيادة عندما تُعامل على أنها عالمية فسيُنظر إلى العالم الثالث على أنه غير كامل أو مفتقر. يعترض تشيبر هذا الموقف ويقدم نقداً لدراسات التابعين ويدافع عن التصنيفات العالمية مثل الرأسمالية والنظام الطبقي والعقلانية والموضوعية، ويجادل بأن هذه التصنيفات لا تحتاج إلى أن تكون اختزالية أو متجهة للمنحى الأوروبي وأنها مفيدة في إلقاء الضوء على دوافع الجهات السياسية الفاعلة والقيود الهيكلية التي يواجهها القادة في بلدان مثل الهند.
تعكس هذه المناقشة توتراً يتخلل دراسات ما بعد الاستعمار، وعلى الرغم من استناد بعض المفكرين على كلٍ من الماركسية وما بعد البنيوية، إلا أن النظريتين لهما أهداف وأساليب وافتراضات مختلفة. في العلوم الإنسانية، تعكس نظرية ما بعد الاستعمار تأثير مفهوم ما بعد البنيوية، فيما يركز منظرو إنهاء الاستعمار على المؤسسات السياسية والتاريخية الاجتماعية والاقتصادية. وفي حين ترتبط نظرية ما بعد الاستعمار بقضايا التهجين والشتات والتمثيل والخطابات والمعرفة/السلطة، فإن نظريات إنهاء الاستعمار تتعلق بالثورة والتفاوت الاقتصادي والعنف والهوية السياسية.
بدأ بعض العلماء في التشكيك في جدوى مفهوم نظرية ما بعد الاستعمار، مثل مفهوم النظرية الاسكتلندية ذات الأربع مراحل، وهي نظرية لا يوجد بينها وبين الأولى الكثير من القواسم المشتركة. ويبدو أن مفهوم ما بعد الاستعمار بحد ذاته يستند إلى الفهم التدريجي للتاريخ (McClintock 1992). وتشير -ربما عن غير قصد- إلى أن المفاهيم الأساسية للتهجين والاختلاف والخصوصية والتعددية قد تؤدي إلى نوع من الجمود العقائدي المنهجي أو المنطق التطوري. وعلاوةً على ذلك، فإن مصطلح “استعماري” بصفته علامة لمجال البحث يمثل أيضاً إشكالاً حتى الآن، ويشير إلى أوضاع الأراضي المتشابهة تاريخياً التي شهدت تقنياتٍ مختلفة للغاية من الهيمنة. وهكذا، إن الدافع النقدي وراء نظرية ما بعد الاستعمار قد انقلب على نفسه، لافتاً الانتباه إلى الطريقة التي يمكن أن تكون بحد ذاتها متسمةً برغبة خيالية لتجاوز صدمة الاستعمار (Gandhi 1998).
6- الاعتراف والثورة في دول الاستعمار الاستيطاني
صاغَ الباحثون المحليون نقداً لما بعد الاستعمار، مشيرين إلى أن هذا المفهوم يخفي وراءه استمرارية وجود دول الاستعمار الاستيطاني. وإن النقطة الوحيدة المثيرة للجدل في مؤلفات النظرية السياسية للسكان الأصليين المعاصرة هي مقدار الرغبة بالمساهمة في مؤسسات قانونية وسياسية استعمارية من أجل تحويلها. ويكمن محور هذه المناقشة في مسألة ما إن كانت التسوية التي تهدف إلى المصالحة تخدم مصالح السكان الأصليين أم أن ظروف الهيمنة التي تعمل على ترسيخ علاقة المستعمر الاستيطاني التاريخية ستتكرر مجدداّ. ويؤكد مجموعة من العلماء على سياسة الرفض وإحياء التراث، تجادل أودرا سيمبسون في (موهوك إنتيروبتوس: الحياة السياسية عبر حدود الدول المستوطنة In Mohawk Interruptus: A Political Life Across the Borders of Settler States 2014) بأن الممارسات الديمقراطية المعاصرة للاعتراف تحول السكان الأصليين من الدول ذات سيادة إلى مواطنين من ذوي الأقليات العرقية، وتشير إلى أن الكفاح من أجل الحكم الذاتي يتطلب سياسة الرفض، وتكمن المشكلة في سياسة المصالحة هي أنها لا تزال تحت نظام يسترشد بمنطق الليبرالية الغربية والمبني على التسلسلات الهرمية المصاحبة له، ويتحقق إحياء التراث على أفضل وجه من خلال سياسات الرفض التي تهدف إلى تقرير المصير والسيادة من خلال إعادة دمج ثقافة السكان الأصليين واعرافهم.
تجادل تياياك ألفريد في (واساس: مسارات السكان الأصليين للعمل والحرية Wasáse: Indigenous Pathways to Action and Freedom 2005) أن التغيير الملموس للحالة الاستعمارية يتطلب تحولاً دائماً للمجتمع من خلال إحياء تراث السكان الأصليين، ووفقاً لألفريد، فإن إعادة دمج السكان الأصليين لا يمكن أن يحدث داخل إطار ليبرالي غربي لأن مستلزمات الرأسمالية تتناقض بشكلٍ حاد مع طرق عيشهم، ولذلك، فإن المحاولات الليبرالية للمصالحة ستناقض دائماً الجهود التي تبذلها تلك المجتمعات من أجل تقرير مصيرها. يشير لاني بيتاساموساك سيمبسون في (الرقص لعودة السلحفاة خاصتنا: قصص نيشنابيغ إعادة خلق وانبعاث وظهور جديد Dancing on Our Turtle’s Back: Stories of Nishnaabeg Re-Creation, Resurgence and a New Emergence 2011) إلى أن إعادة الإعمار تحتاج إلى أن تبدأ من الداخل، وأن إعادة تأسيس تاريخ ما قبل الاستعمار واعرافهم لن يقوم بالمهمة وحده، إذ يقع على عاتق السكان الأصليين إعادة تطبيق تقاليد الحكم والثقافة من خلال حكاية القصص كإطار لإثراء التجربة الاجتماعية.
يتوسع غلين كولثارد في (الجلد الأحمر والأقنعة البيضاء: رفض السياسة الاستعمارية للاعترافRed Skin, White Masks: Rejecting the Colonial Politics of Recognition 2014) في الإطار النظري للرفض وإحياء التراث، ويقدم تحليلاً نقدياً للتجارب التاريخية والسياسية للسكان الأصليين داخل كندا، ويجادل في أن الأساليب الحالية للمصالحة تميل إلى تجريد السكان الأصليين من تاريخهم وشل حركتهم وذلك عن طريق نزع الملكية والعنف والتشريد من الأراضي والثقافة. وبالنسبة إلى كولثارد، فإن الاستعمار الاستيطاني عملية مستمرة، وليست مجرد إرث من مظالم الماضي، ويتجلى ذلك في مطالبات الأراضي غير المأهولة ونزع ملكية الباقي والقيود المفروضة على حكومات السكان الأصليين وتجريدهم من سُبل عيشهم- التي ترتبط بالوصول إلى أراضيهم التقليدية. وبدلاً من التعويل على اعتراف من داخل علاقة المستعمر الاستيطاني، يدعو كولثارد لسيادة السكان الأصليين مستنيراً بالحركة الفكرية والاجتماعية والسياسية والفنية التي تجسد “إعادة إحياء الاستبصار الذاتي” للقيم والمبادئ والممارسات الثقافية التقليدية.
يلمح عنوان كتاب كولثارد إلى عمل فرانتز فانون الرائد “الجلد الأسود وأقنعة بيضاء” (1952)، فقد تحدى تأليف فانون في الخمسينيات من القرن الماضي الكونية المجردة للفلسفة الغربية، مُظهراً كيف تُستخدم الكونية في بناء علاقة هرمية بين المستعمرين والمدنيون، وتعترض نظرية فانون النقدية الافتراض القائل بأن المفاهيم الأوروبية للتقدم تقدم العدالة وتُأمن المنفعة المتبادلة بالفعل، ويركز في “الجلد الأسود وأقنعة بيضاء” على رفع الوعي لدى السود من خلال استكشاف الاغتراب النفسي والتهجير الناجم عن الهيمنة الاستعمارية، ويصف النفس المقسمة والثقافة الفرنسية التي تنتمي إليها حتى في الوقت الذي تعاني فيه من إقصاء مبادئ الكونية والمساواة والإدراك، وتسلط قراءة كولثارد لقانون الضوء على رأيه بأن اعتراف الدولة الاستعمارية الثقافي هو الحل، واتباعاً لخطى فانون، يخلص إلى أن الاعتراف الأبوي يسهم في تشريع الدولة الاستعمارية وكذلك تقسيم السكان الأصليين.
غير أن باحثين آخرين يقولون إن من الممكن تحقيق مصالحة ناجحة من خلال مناقشات وإجراءات ديمقراطية. ويشير ديل تيرنر في (هذه ليست أنابيب سلام: فلسفة نقدية حول السكان الأصليينhis Is Not a Peace Pipe: Towards a Critical Indigenous Philosophy 2006) إلى أن طريقة تقويض قوة السلطة التي تديم ظروف الاستعمار تكون من خلال المشاركة داخل إطار المؤسسات القانونية والسياسية للحكومة الكندية، ويجادل تيرنر في أن “كلمة المحاربين” الذين يتوسطون بين مجتمعات السكان الأصليين والمؤسسات القانونية والسياسية ينبغي لها أن تضمن الحفاظ على حقوق السكان الأصليين وتوسع نطاقهم داخل المجتمع الأكبر، ويجادل أيضاً في أنه لن تكون هناك علاقة فعالة بين الكنديين والسكان الأصليين إلا عند وجود حوار قائم على افتراضات الديمقراطية للمساواة والاحترام، وينطوي هذا الحوار أنه على السكان الأصليين تعلم كيفية الانخراط في الخطابات القانونية والسياسية الكندية بطرق أكثر فعالية –لكي يستطيعوا تأسيس مطالبات بشأن التميز الثقافي (2006:5).
إن نضال السكان الأصليين من أجل تقرير مصيرهم لا يقتصر على كندا وحدها، إنما ظهرت حركات السكان الأصليين في أنحاء أمريكا الشمالية والجنوبية وآسيا وأستراليا ونيوزيلندا وغيرها من الأقاليم بهدف تقرير مصيرها بنفسها، وكتب الباحثون مثل رونالد نيزن (2003) وويل كيمليكا (2013) وشيريل ليتفوت (2016) عن موضوع الصراعات الدولية للشعوب الأصلية من أجل الحقوق الفردية والجماعية، واكتسبت النماذج الدولية القائمة على الاعتراف زخماً منذ إعلان الأمم المتحدة لحقوق السكان الأصليين لعام 2007، ويسلط ليتفوت الضوء على الإمكانيات الثورية للحركات الدولية لإتاحة المجال لصوت جماعي حيث قد تتجمع الصراعات المحلية بشكل استراتيجي على منصة عالمية، واعترافاً بالتغيرات المحلية، طور السكان الأصليين حركة تتجاوز الحدود الوطنية التي تسعى إلى الاعتراف بالاستقلال السياسي من خلال معالجة القضايا المحيطة بحقوق الأرض والتميز الثقافي.
موسوعة ستانفورد للفلسفة / ترجمة: زينب الحسامي
إضافة تعليق جديد