الاستفتاء اليوناني غداً يؤرق ألمانيا: «نعم أم لا» ـ«الميركلية»
تصنع اليونان التاريخ يوم الأحد. حكومة اليسار الراديكالي التي تقودها جعلت كل الطرق تؤدي إلى برلين هذه المرة. كيفما تم تقليب استفتاء اليونان، فخلاصة السؤال: نعم أم لا للمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل. نعم أم لا لقيادة برلين للمشروع الأهم في الاتحاد الأوروبي، مشروع العملة الموحدة الذي يضم 19 دولة من بين دول التكتل الثماني والعشرين. خلف هذا كله، يخفق السؤال أيضاً: أي مستقبل لهذا المشروع، وأي طريق يجب سلوكها للوصول إليه؟
لكن ذلك لا يمنع الحساسية الشديدة للتصويت على المستوى الفردي، نظرا للتناقض في ترجمة سؤال الاستفتاء.
رغم ذلك فالتخمين هنا يصير أسهل. فليقل اليوناني على ماذا يصوّت، وستعرف إن كان رأيه نعم أم لا. إذا كان مقتنعاً بأن التصويت هو مع التقشف أم ضده، فالرأي سيكون الرفض غالباً. هذه الترجمة تدعمها حكومة رئيس الوزراء ألكسيس تسيبراس، وتحاول الترويج لها بكل طاقتها. أما إذا كانت القناعة بأن التصويت هو على البقاء في اليورو، كما تروّج بقوة كل برلين وبروكسل، فالجواب غالبا هو «نعم».
كلتا الترجمتين، على تناقضهما الشديد، تصبحان وجهين لعملة واحدة. إنه تصويت حول قيادة ألمانيا للمشروع الأوروبي. تصويت على خطط ميركل وفريقها. برلين نفسها تقول لليونانيين «أرجوكم صوّتوا لي»، ضاغطة بكل طاقتها لجعل السؤال يدور حول اليورو.
على الجبهة الأخرى، يقول فريق تسيبراس لشعبهم إنه تصويت حول التقشف. تصويت لإعطاء تفويض قوي للحكومة كي تنتزع اتفاقاً جيداً مع الدائنين. اليونانيون لا يحتاجون إلى أي شرح، كما تشهد معارض «غرافيتي» شوارعهم، ليعرفوا أن «مع أو ضد التقشف» تقصد ميركل بالذات. التقشف كلمة ما كانت لتولد لولا أن برلين جعلتها حجر أساس لمواجهة الأزمة المالية. طبعاً أطلقوا عليها لفظاً ملطّفاً، وسموها «إصلاحات». لكن التجميل لا ينطلي على من يذوق، يومياً، ويلات «الإصلاح». البطالة قياسية، مع 40 في المئة من المتقاعدين يعيشون تحت خط الفقر.
تكريساً لهذا المنحى، لجهة أن التصويت يدور حول ميركل، انتشرت حملة الترويج لـ «لا» تحت رسم معبر. صورة وزير مالية برلين فولفغانغ شوبل وفوقها عبارة «خمس سنوات وهو يشرب دمك، قل له لا». شراسة هذا «البوستر» تظهر إلى أي حد المسألة حاسمة، لكن صور الشارع لا تقل قسوة.
إحدى الصور التي هزّت وجدان كثر من الأوروبيين أمس، تلك التي التقطها مصور «فرانس برس» لمتقاعد يوناني يفترش الأرض ويبكي. كان يستند بعجز إلى جدار، أمام حشد من المنتظرين للحصول على 60 يورو، بات مسموحاً فقط بسحبها يومياً بعد إغلاق المصارف.
شرح هذه الصورة، وفق سردية حكومة اليونان، هي أنه لو قبل الدائنون حلولاً وسطاً، لما أطلقوا هذا الذعر في النظام المصرفي اليوناني، ما اضطر لإغلاق المصارف. لكن الدائنين أصروا على موقفهم، مع أنهم كانوا قريبين «سنتيمترات قليلة»، وفق تعبير المفوضية الأوروبية، من إبرام الاتفاق لصرف أموال الإنقاذ.
ومع أنها تخوض حملتها لهزيمة إرادة الحكومة المتمردة، لكن برلين تدرك أن المحظور وقع. الاستفتاء على شروط التقشف، وهي أبرز مصمميها، صار واقعاً. الآن صار يمكن للآخرين، في دول أوروبية مأزومة، التساؤل: إذا كان يمكن لليونانيين قول رأيهم فلماذا لا يمكننا نحن أيضا؟ هذا القدر حاولت ميركل تجنّبه بكل الطرق. نجحت في ذلك سابقاً، لكن سياستهم الصارمة خلقت واقعاً سياسياً لليونان يمنع إعادة التاريخ.
ففي أواخر العام 2011 نجحت برلين بقيادة انقلاب أبيض أطاح حكومة اليونان، التي تجرأت حينها على طلب الاستفتاء على التقشف. كان وقتها جورج باباندريو يقود الحكومة، متزعماً الحزب الاشتراكي «باسوك». خطوته جعلت «الميركوزية» (ألمانيا ميركل وفرنسا نيكولا ساركوزي) على حافة الجنون: فجأة تراجع الرجل عن إذعانه، وطلب الاستفتاء على شروط الإنقاذ المالي الصارمة. استدعوه حينها مباشرة إلى قمة مجموعة العشرين، في مدينة كان الفرنسية، ليفرغوا غضبهم وإنذاراتهم.
لكن الحل خرج به الداهية جوزيه مانويل باروسو، رئيس المفوضية الأوروبية السابق. نجح باللعب في عقل شريك باباندريو في الحكومة إيفانجيلوس فينيزيلوس. كان الأخير وزيراً للمالية، وزعيماً لحزب صغير لعب دور اللاصق لائتلاف حكومي هشّ. عاد باباندريو إلى أثينا على الطائرة نفسها مع فينيزيلوس، ليفاجأ بشريكه يرفض الاستفتاء ويعلن انسحابه من الائتلاف الحاكم. قاد ذلك الى استقالة الحكومة، والى انتخابات مبكرة جاءت بمن يقبلون شروط الإنقاذ من دون استفتاء.
عجلة السنوات غيّرت الظروف على الجهتين. في أثينا صعد اليسار الراديكالي، كما أن ميركل باتت تقود أوروبا بلا منازع، بحضور رئيس فرنسي يناضل لرفع شعبيته من القاع. في برلين لديها الآن ائتلاف حكومي فولاذي، يجمع أكبر حزبين: المسيحيين الديموقراطيين بزعامة المستشارة، والاشتراكيين الديموقراطيين مع زعيمهم زيغمار غابرييل المتشدد أيضا تجاه أثينا. الأمر يشبه، للمقارنة، أن يدير الولايات المتحدة الديموقراطيون والجمهوريون في حكومة واحدة.
ليس أدلّ على حساسية التصويت اليوناني من الواجهة التي خرجت بها الصحف الألمانية. صحيفة «دي زويت» خرجت بطبعة استثنائية، كتبت افتتاحيتها باللغتين الألمانية واليونانية: وضعت رسماً لباخرة على منحدر شلال مع نداء لليونانيين «لا تذهبوا». الافتتاحية جادلت بالقول إن اليونانيين «سيقررون كيف ستصير الأمور بالنسبة لنا جميعا».
لا تبالغ الصحيفة حينما تعلن ذلك. الآن بدأ كهنة المشروع الأوروبي يصحون من سكرة الشجار المتعنت مع يسار أثينا. ما النتيجة لكل ما حصل؟ اليونان لا يمكن إخراجها بالقوة من منطقة اليورو، فلا معاهدات أوروبية تتيح ذلك. سابقة الاستفتاء صارت واقعاً، ويمكن للآخرين تكرارها. إذا بقيت اليونان فلا مناص من حذف بعض ديونها، كما أكد صندوق النقد الدولي نفسه. إذا خرجت من اليورو، بالاتفاق المتبادل، فستكون العواقب أكثر خطورة على مشروع العملة الموحدة. هناك مخاطر عدوى المشاكل المالية، خصوصاً أن الاقتصاديات الأوروبية الأخرى لا تزال على سرير العلاج من الأزمة.
خروج اليونان سيجعلها أمام سنوات أولى صعبة، لكن صمودها سيسرّع تعافيها مدعومة بقوة تنافسية عملتها بسعر صرفها المنخفض. الخروج سيفرز أيضا خسارة جيوسياسية لا تعوّض. هذا ما تعرفه الحليفة واشنطن جيداً: ترك اليونان ترتمي للتقارب مع روسيا والصين، كرافعة استثمارية مهمة. هكذا سيجعل نهوض اليونان، خارج اليورو، شعوباً أخرى تعيد حساباتها بالتأكيد، وحينها سيكون تفكك تكتل العملة الموحدة كابوساً مَعيشاً.
مع ذلك، يحاول معسكر برلين وبروكسل رفع المعنويات، والتركيز على معركة الاستفتاء: نحن أو تسيبراس. لكن من يضع نظارات الرؤية الليلية، وسط تظليم الدعاية المتبادلة، يمكنه رؤية أن حزب تسيبراس لا يمكن شطبه. لديهم الآن 149 مقعداً في البرلمان، من أصل 300 مقعد. هذا لن يتغير حتى لو فاز معسكر «نعم». الاحتمالات هنا تبقى مفتوحة: تشكيل ائتلاف جديد، أو الاستقالة. غير ذلك، لا يمكن لأي ائتلاف جديد الحكم الآن متجاوزاً هيمنة حزب «سيريزا» على البرلمان.
هكذا ستكون الانتخابات المبكرة هي الحل الوحيد، لكن الاستعصاء سيبقى حاضراً، بما أن «سيريزا» لم يفقد شعبيته كما هو واضح. هذا ما تدعمه استطلاعات الرأي حول الاستفتاء، لكونها لا تزال تظهر نتائج متقاربة. إنها ليست نتيجة مبشّرة لبرلين وبروكسل، بعد حملة «ترهيب» حول اليورو. وأظهر استطلاع للرأي، نشرته صحيفة «بروتو ثيما»، أمس، أن 41.7 في المئة ممن شاركوا في الاستطلاع سيصوّتون «نعم» في الاستفتاء، بينما قال 41.1 في المئة إنهم سيصوّتون «لا». وقال 10.7 في المئة إنهم لم يتوصلوا إلى قرار.
بانتظار الحسم، يواصل تسيبراس تبديد صورة المراهق سياسياً، وفق ما صوّرته برلين وبروكسل. رغم معارضته الشديدة لدور صندوق النقد الدولي في الإنقاذ، لكنه لم يفوّت فرصة استثمار تقريره الأخير لتزكية خطاب حزبه. ما يقوله الصندوق لا يحتمل تأويلات: اليونان لديها ديون تتجاوز 320 مليار يورو، يعني أكثر من 170 في المئة من ناتجها الإجمالي، وعليها مواصلة تسديدها حتى العام 2057. هذا برأي الصندوق مستحيل، أو «غير مستدام» بكلماته، ولذا لا بد من شطب للديون بنسبة معتبرة. طالب فريق تسيبراس بذلك منذ توليهم السلطة، لكن برلين وبروكسل ترفضان طرحه جدياً حتى الآن.
خطاب اللحظة الأخيرة أخذ تسيبراس إلى لقاء حاشد «لا» في ساحة «سينتاغما» أمام البرلمان. مضمون كلامه كان قاله سابقاً ، أواخر العام 2013 قبل توليه المنصب: «لم نحصل على نتائج من التقشف، ليس فقط على المستوى الاجتماعي الذي هو كارثة كبيرة، بل أيضا على المستوى الاقتصادي. علينا الاعتراف وفهم أن الدواء الذي أعطيناه للمريض كان أسوأ من المرض نفسه».
وسيم إبراهيم
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد