التشكل التاريخي للهجات الخليجية وابتعادها عن العربية مسافات شاسعة
تمثل اللغة العربية إحدى اللغات الرسمية الست المعتمدة من قبل الأمم المتحدة، وهي صاحبة تأثير متفاوت على عدد من اللغات، مثل الفارسية والتركية والأردية والإسبانية ولغة البهاسا الملاوية، وعدد من اللغات الأفريقية.بيد أن هذه اللغة تعيش اليوم تحت وطأة ضغطين متقابلين، يتمثل الأول في تمدد اللغات الأجنبية على إيقاع العولمة المتسارع، ويتجسد الثاني في تعاظم اللهجات المحلية وسيادتها على حساب اللغة الفصحى. وتبدو المعضلة متماثلة في مختلف أقطار الوطن العربي، مع تباين في الحجم، وفي السياقات الكلية للمسببات والحيثيات.وسوف يتحدث هذا المقال بشيء من الإيجاز عن أزمة اللغة العربية في الخليج، في شقها المرتبط بسيادة اللهجات المحلية، وابتعاد هذه اللهجات تدريجيا عن جذرها العربي.ويمكن القول بشيء من الحذر إن جذور أزمة العربية في هذه المنطقة تعود إلى القرن السادس عشر الميلادي، وذلك مع وصول القوى الأوروبية إليها، وإقامتها فيها قرونا من الزمن.إذ منذ ذلك الحين بدأت اللغة البرتغالية (الأيبيرية) تشق طريقها إلى اللهجات المحلية لتبقى ملتصقة بها حتى يومنا هذا.
وفي مرحلة لاحقة بدت القوة البريطانية واللغة الإنجليزية صاحبة التأثير الأكثر عمقا على اللغة والثقافة العربية في الخليج. وبما أن البريطانيين هم من وضع اللبنات الأولى لكثير من المؤسسات الإدارية في المنطقة، وهم من أدار معظم شركات النفط فيها، فقد كانت وسائل وأدوات امتداد الإنجليزية إلى المجتمع واسعة ومتعددة. ومرة أخرى اتجهت لغة أجنبية جديدة لتأخذ طريقها إلى اللهجات المحلية. وعلى خلفية هذا المتغير غدت اللهجات الخليجية جامعة لمصطلحات برتغالية وإنجليزية، فضلا عن الهندية التي تعاظمت على خلفية عاملين: الأول جلب البريطانيين جموعا كبيرة من الهنود لإدارة المؤسسات الحديثة العهد في المنطقة. والثاني وفود عمالة هندية كثيفة إثر الطفرة النفطية الأولى.وإضافة إلى التأثير الذي أحدثته اللغات الثلاث، هناك التأثير التاريخي البعيد المدى للغة الفارسية.وهكذا فإن اللهجات الخليجية هي اليوم خليط من العربية والبرتغالية والإنجليزية والهندية والفارسية. وباختصار فقد ابتعد اللسان الخليجي عن العربية مسافة شاسعة.
بيد أن الأكثر خطورة في الأمر هو أن اللهجات المحلية قد انتقلت تدريجيا من حيز التداول الأهلي المحدود إلى ما يشبه كونها لغة عامة، وقد ساهم في ذلك الإعلام المنطوق والمرئي بصفة خاصة.
لقد تم التغاضي في عدد من دول المنطقة عن استخدام مصطلحات عامية في اللوحات الإعلانية الموضوعة في الطرقات والأسواق. وبدورهم فإن أصحاب المحلات التجارية من غير العرب أخذوا يضعون على محلاتهم لوحات مكتوبة بعربية مكسرة من دون أن يحاسبهم القانون على ذلك.وبعد أن كانت المدرسة والجامعة من أهم حصون اللغة العربية، اتجه الأساتذة اليوم إلى مخاطبة طلابهم بالعامية الدارجة.
على صعيد تاريخي يمكن تتبع جذور بعض اللهجات الخليجية وفقا لخارطة آخر انتشار قبلي شهدته المنطقة في الفترة السابقة قليلا لظهور الإسلام.فمنذ ذلك التاريخ برزت في الساحل الممتد بين الكويت شمالا وعمان جنوبا أربع قبائل كبرى، هي تميم وعبد القيس وبكر بن وائل وربيعة بن وائل، على أن هذه القبائل لم تشكل كافة السكان الأصليين، الذين لا يزال امتدادهم وحضورهم قائما في المنطقة، كما يجب التشديد على أن جزءًا فحسب من اللهجات المحلية الأصلية يعود في جذوره البعيدة إلى هذه القبائل. لم تقم ربيعة كثيرا في هذا الساحل بل ذهب الكثير منها شمالا ليستقر في العراق. أما بكر بن وائل وعبد القيس فقد استقرتا بصورة أساسية في البحرين (الحالية) التي كانت تعرف باسم أوال، وفي مناطق القطيف وجوارها.
ومن جهتها وضعت تميم ثقلها في الأحساء وجوارها. هذا مع ضرورة التأكيد على نسبية هذا التوصيف لحركة القبائل الأربع، إذ إن كافة هذه القبائل ظلت موجودة في جميع بلدان الساحل الشرقي للجزيرة العربية.
هذا المتغير البشري تزاوج ضمن أمور أخرى مع معطيين أساسيين هما الوجود البشري القائم في الأصل، وما يمكن أن نصطلح عليه بالمكون الطبيعي الأيكولوجي، أو لنقل الحاضن الجغرافي.
وعلى خلفية هذا التزاوج ولدت مجموعة من اللهجات التي سادت لاحقا في كل من الكويت والمنطقة الشرقية للمملكة العربية السعودية والبحرين وقطر، وهي لهجات متقاربة بصفة عامة.
كذلك فإن السجال حول مدى أولوية تأثير عنصر المكان على عنصر الأصل القبلي، أو المفاضلة بين الجغرافيا والتاريخ، يبقى أمرا مشروعا على أية حال. وإضافة إلى ذلك هناك اللهجات السائدة في مناطق نجد والقصيم والحجاز وعسير وجوارها. وفي عمان تباينت اللهجات بين مسقط والداخل.وتعد الإمارات متماثلة على صعيد المكون التاريخي البشري مع بعض التكوينات السائدة في عمان، وهو الأمر الذي أسقط نفسه على اللهجات المتداولة. وباعتبارها الحاضن الجغرافي والبشري الأول للدين الإسلامي الحنيف، بدت هذه المنطقة لقرون طويلة على قدر كبير من التمسك باللغة وعلومها وآدابها، فخرجت الكثير من الشعراء والنحويين وأهل البديع والمحسنات, وبدت واحة زاهرة للمعرفة والآداب العربية.ولم يتأثر كثيرا هذا الواقع الزاهر بانتقال مركز الخلافة إلى الكوفة ثم إلى الشام وبعدها إلى بغداد، وذلك قبل أن يدخل التاريخ العربي فيما وصفه المؤرخون بعصر الدول والإمارات. وفي هذا الإطار كان للتجربة القرمطية لمساتها البعيدة المدى على الحياة الثقافية في المنطقة.
ونحن هنا لسنا بصدد إطلاق حكم قيمي على الإرث القرمطي، وما نريد قوله فقط هو أن هذا الإرث يعد كبيرا وواسعا، ولا تزال لمساته قائمة.
وفي الفترة اللاحقة لسقوط الدولة القرمطية برز الشاعر علي بن المقرب العيوني، كإحدى الشخصيات المؤثرة في البيئة الثقافية (واستتباعا اللغوية) في المنطقة. وقد أخذ لقبه من أسرته العيونية، التي حكمت المنطقة الممتدة من الكويت إلى عمان مئات من السنين، وكانت وارثة الدولة القرمطية.
ومع القرن السادس عشر الميلادي، طرأ متغير كبير في مسار هذه المنطقة، تمثل في بداية وفود قوى الاستعمار الأوروبي بدءًا بالهولنديين والبرتغاليين.وكان ذلك القرن بداية حروب كبرى بين القوى الاستعمارية المتنافسة في الخليج، وبينها وبين القوى الإقليمية، ولاحقا بين القوى الإقليمية ذاتها.
وهذا المتغير الكبير في البيئة السياسية للمنطقة رمى بتداعياته البعيدة المدى على كافة جوانب الحياة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وأثر في وضع اللغة العربية على النحو الذي سبق بيانه.
وإذا كان هذا هو مسار التاريخ فإن الحاضر بدا هو الآخر مفعما بالتحديات، وبدت اللغة والثقافة العربية مرة أخرى في وجه العاصفة.
ومبدئيا يمكن تشخيص ثلاثة عوامل رئيسية ساهمت في تشكيل ما يمكننا أن نطلق عليه الإطار الراهن لأزمة اللغة العربية في الخليج.تمثل العامل الأول في التحول التاريخي للبنى الديمغرافية باتجاه سيطرة العنصر غير العربي، إذ بدا حجم العمالة الآسيوية في ارتفاع مستمر منذ مطلع سبعينيات القرن الماضي، وبات المواطنون الخليجيون أقلية في عدد من دولهم.
وقد أحضرت العمالة الآسيوية تقاليدها الثقافية والاجتماعية، ورمت بها دفعة واحدة على بناء اجتماعي محافظ من جهة، ومحدود في عوامل مناعته من جهته أخرى، فكانت النتيجة هجينا ثقافيا امتدت مفاعيله لتصيب كل شي.إن فجائية وقوة المتغير الديمغرافي قد دفعت سكان المنطقة إلى التنازل غير الإرادي، أو لنقل غير المحسوس عن الكثير من مخزونهم اللغوي، واستبدال مصطلحات وأمثلة وافدة به. وغير مفصول عن هذا السياق تجسد العامل الثاني لأزمة اللغة العربية في الخليج في الانتشار الكثيف والمبالغ فيه لظاهرة خدم المنازل، حيث أضحى كثير من أطفال المنطقة يتعلمون نطقهم الأول من لسان لا صلة له بلغة الضاد، كان قبل عقدين من الزمن هنديا وسريلانكيا، وبات اليوم فلبينيا وإندونيسيا، مع حضور أقل للعنصر الإثيوبي.
وقد تزاوجت هذه المعضلة مع معضلة أخرى تمثلت في ضعف التعليم في مرحلة ما قبل المدرسين في دول المنطقة، وأخذه في الغالب طابعا ترفيهيا لا تعليميا، هذا إن وجد أصلا. إذ إن ثقافة التعليم في مرحلة ما قبل المدرسة شبه غائبة، ولا ينظر إليها على أنها من الأمور الضرورية التي تشكل لبنة أولية في مسيرة الطفل التعليمية.وبالطبع تتحمل المؤسسات الرسمية جزءاً من المسؤولية عن هذه الظاهرة، فأنظمة قبول الأطفال في التعليم الابتدائي يجب أن تتضمن امتحان تحديد مستوى، يشمل بصفة أساسية ضرورة إلمام الطفل بالحروف والأرقام العربية كتابة ونطقا.ويتمثل العامل الثالث لأزمة اللغة العربية بالخليج في ضعف الإنتاج المعرفي بصفة عامة، والأدبي واللغوي منه بوجه خاص. وربما لا يحتاج إلى كثير عناء من يريد تلمس هذا الضعف كما ونوعا.
وضمن حيثيات عديدة يجد هذا الضعف خلفياته في هيمنة الثقافة الاستهلاكية على جيل ما بعد الطفرة النفطية، وضمور روح الإبداع لدى عدد من أفراده، وضعف مناهج التعليم وسيطرة اتجاهات الحفظ والتلقين عليها. ويمكن القول على صعيد آخر إن التيار القومي في المنطقة يتحمل جزءاً من مسؤولية هذا الإخفاق المديد لواقع اللغة والثقافة العربية، فهذا التيار لم يبادر في أوج حضوره الجماهيري للاعتناء بصون وتعزيز اللغة والأدب العربي، على الرغم من وضعه ذلك في صلب شعاراته. وما يمكن قوله بوجه مجمل هو أنه فيما يتعلق بصون وتطوير اللغة والأدب العربي وعلم اجتماع الثقافة العربية فإن تجربة التيار القومي في الخليج قد تباينت عن نظيراتها في كل من وادي النيل والمشرق العربي، ومنطقة المغرب العربي الكبير.هذا على الرغم من أن الفكرة القومية التي أنبتها في هذه المنطقة فؤاد الركابي في مطلع خمسينيات القرن الماضي، قد كانت في الأصل فكرة مشرقية اللون.بيد أن هذا القول لا يعفينا من الإشادة بجهود المجمع العلمي العراقي، فهذا المجمع الذي رأسه في فترة متأخرة السياسي والمفكر العراقي سعدون حمادي، كان له الأثر الأبرز في عملية التعريب ضمن هذه المنطقة.
وخارج التيار القومي وتجربته اتجه بعض "الليبراليين الحداثيين" في المنطقة إلى طرح مقولات من قبيل القول إن الشعر (الفصيح) ليس ديوان العرب، والقول بفصل الثقافة العربية عن إطارها الأيديولوجي.وإنه لغريب حقا أن تتسرب إلى الخليج هذه العدمية الثقافية، التي باتت منبوذة في دولها. وهذه مشكلة من يكتفي بقراءة نصف الكتاب، ومن يقرأ عن ثقافة الشعوب من دون أن يلحظ متغيراتها.وما يجب قوله هنا هو أنه إذا كانت اللغة بمثابة وعاء لثقافة ما، فإن العربية ليست وعاء لثقافة العرب وحسب، بل هي أيضا حارس مؤتمن على حضارة أمة، لها عظيم فضلها على هذه البشرية.
كذلك فإن القول بثقافة لا أيديولوجيا لها يعني على الأرجح القول بأمة لا تمتلك رسالة حضارية. بل إنه حتى مفهوم الأمة يغدو هنا مفهوما هلاميا، إذ إن الأمة ليست رديفا للجماعة البشرية بل للمجموعة الثقافية.وعلى الرغم من كل هذا المسار فإن هذه المنطقة ستبقى وفية لعطاءات روادها، الذين أثروا لغة الضاد وآدابها وتاريخها، وحملوا على عاتقهم بناء جيل واثق بذاته وبرسالته.
عبد الجليل زيد المرهون
كاتب بحريني
المصدر: الجزيرة
إضافة تعليق جديد