الجحيم سيستمر
الجمل: قد يكون ملائماً هذه الأيام، أن نفهم الشرق الأوسط، باعتباره منطقة للتعبئة السياسية، وإقليماً مفكاً، يعج بالصراعات والنزاعات، وخالياً من أي تطلعات مستقبلية، وذلك على النحو الذي يدعم كل من يعملون لأجل تعميق العنف واللايقين.
إن التاريخ مليء وغني بالأمثلة والشواهد، التي يمكن أن تعزز صحة هذه الفكرة، فالعقول غير المعنية والتي فقدت اهتمامها، هي فقط التي تفشل في تقدير وإدراك الدور الهائل الذي لعبته القوى الأوروبية الكبرى، وحالياً أمريكا، في رسم هذه الصورة القاتمة والشنيعة لمنطقة الشرق الأوسط، والتي كانت لزمن طويل مهداً للحضارات الإنسانية العظيمة.
إن تصنيف الشرق الأوسط، كياناً متأصلاً بالعنف، لا ينسجم إلا مع وجهات النظر العسكرية الشوفينية المتعصبة، التي يقودها العديد من المفكرين والدبلوماسيين والعسكريين الأوروبيين، وهم يحاولون تقليل شأن منطقة تتمتع بغنى التنوع والتعدد، والتي تم إخضاعها من قبل إمبرياليي البلدان الغربية، وجشعهم اللامحدود لابتلاع البلدان والسيطرة عليها سياسياً.
إن وجهة النظر الإمبريالية هذه مفهومة بالنسبة للعالم كله. وكذلك فإن النظرة التي تقدر إقليم الشرق الأوسط، وترى فيه مكاناً وافراً بالموارد القابلة للاستثمار، هي نظرة يمكن أن تؤدي إلى مزيد من التفكر والتروي، وهو أمر لا تطيقه القوى الإمبريالية التي لا يهمها سوى النمو والتوسع، وكل ما عدا ذلك سوف يلهيها عن إشباع جشعها؛ وبالتالي فإنه سيجلب لها الخسارة.
إذاً، تبعاً لذلك، لا يصاب الإمبرياليون بالدهشة من نظرة إسرائيل للفلسطينيين، سواء تلك المتعلقة بإنكار وجودهم بالكامل، أو في أفضل الأحوال، مجرد الاعتراف بهم كضعفاء. وقد تم التعامل مع هذا الأمر من خلال عدة أمثلة عالمية: تم تصوير سكان (أمريكا الأصليين) من قبل الغزاة الأوروبيين بأنهم (غير متحضرين)، و(سكان أمريكا الوسطى الأصليون) صورهم الغزاة على أنهم "كلاب متوحشة"..إلخ. وبالطبع، فإن الفلسطينيين والأمريكيين الأصليين وشعوب المايا والسكان الأصليين في مناطق العالم التي غزاها المستوطنون الأوروبيون، لا يحملون هذه الصفات الجائرة، ولكن ما حدث، يتمثل في أن الغزاة والمحتلين، قد عمموا هذه الصفات الشائنة والوقحة، بدافع المصلحة والطمع غير المحدود بالأرض، دون الاهتمام بالبشر أصحاب الأرض الأصليين.
والآن، لماذا نجد أن هذا المفهوم عن الشرق الأوسط، أكثر بروزاً اليوم، وبشكل يفوق ما كان في الماضي؟
على الأرجح، إن بعض القوى الغربية، بقيادة الولايات المتحدة وبريطانيا، ما تزال تلح على تجاهل الدروس والعبر القيمة التي سبق وأعلنها التاريخ، وبالتالي فهي ترفض القبول بفكرة أن العالم المحيط بها، يتغير ويتبدل، وأن هذا التبدل والتغير يؤكد أن الإمبريالية الكلاسيكية، قد أظهرت المزيد من الفشل وانعدام الكفاءة والفعالية.
رغم كل الدلائل والبراهين، التي تثبت العكس، فإن القوى الاستعمارية الغربية المعاصرة، ما تزال تتحدث عن النصر الوشيك في العراق، وتتأمل أن يستسلم الشعب الفلسطيني للإملاءات الإسرائيلية، وأيضاً أن تصل إيران إلى استجداء الرحمة، عندما يتم تهديدها برفع الأمر إلى مجلس الأمن، وأن يصبح الشعب العربي ساذجاً لدرجة أن يرمي الأزهار على أقدام الغزاة..إلخ.
إن كل هذه الخيالات، ليست عصية على التحقق فقط، بل هي فانتازيا منحطة تفوح منها روائح الفاشية الكريهة.
تثبت الحالة الأمريكية مدى الاستخفاف بالمكونات العراقية والإيرانية، ومدى السذاجة التي ما زالت تفرض نفسها على العقل الأمريكي في الحرب العراقية المستمرة، وفي الصراع ضد إيران. وقد تمت تغذية الرأي العام الأمريكي بالكذب، الذي قام أصلاً على خلق روابط وهمية بين هجمات الحادي عشر من أيلول وبعض بلدان الشرق الأوسط. واستمر البنتاغون بتحفيز الدافع العسكري الدائم، وتغذية الحملة اللاعقلانية المجنونة التي رسمها المحافظون الجدد.
أصبح بعض المحافظين الجدد في هذه الأيام، ينأون بأنفسهم عن الكارثة العراقية، ويحاولون التركيز على مجالات التدريس في الجامعات الأمريكية الكبرى (وكان آخرهم دوغلاس فايث)، بينما ظل آخرون يعملون من أجل شن حملة عسكرية جديدة ضد إيران. ومن أجل تعزيز توجهاتهم المتشددة، أصبحوا يوجهون الاتهامات للعسكريين الأمريكيين بعدم القدرة على التعامل الصحيح مع الحالة العراقية، وأيضاً بتجاهل الخطر الحقيقي الداهم الذي تمثله إيران.
من الصعب أن يستثمر الخبراء الأمريكيون التجربة البريطانية الكارثية قبل قرن من الزمان في العراق، وأيضاً يبدو صعباً تصور أن الولايات المتحدة سوف تستلهم الدروس والعبر من التجربة العراقية، قبل أن تشعل حرباً أخرى باهظة الثمن ضد إيران. واستناداً إلى بعض الخبراء البارزين في معهد المسعى الأمريكي النافذ التأثير على الإدارة الأمريكية الحالية (وهو مركز نشاط المحافظين الجدد، ويمتلئ بالمفكرين المهووسين بالأفكار الجنونية)، سنجد أن النصر قد تحقق في العراق!!!
وقد أخبرتني دانييلا بليتيكا - وهي من الشخصيات الكبيرة في هذا المعهد - في أحد حواراتها معي: «إن عدداً من الإيرانيين تظلموا إليها قائلين: إن أمريكا قد حررت العراق، وليس من العدل ألا تحرر إيران»!!
يثق البعض بـ (مصداقية) بليتيكا، وذلك لأنها أحضرت المنشق العراقي أحمد جلبي، وأدخلته إلى دائرة الأضواء، بعد أن قامت بتضخيم نفوذه السياسي. وهكذا استطاع أحمد جلبي القيام بتزويد المحافظين الجدد بالأكاذيب التي يحتاجون إليها، وذلك من أجل تبرير الحرب ضد العراق. وفيما بعد، عندما ثبت أن الحرب قد أصبحت كارثية، أشارت كل الأصابع إلى أن أحمد الجلبي قد ضلل الإدارة الأمريكية!!
يمكن أن تكون حكومة الولايات المتحدة راغبة في تنفيذ فانتازيا خاصة بها، إضافة إلى أن حكومة توني بلير في بريطانيا ترغب حقاً في مسايرة ذلك.
ورغم كل هذا، تظل الحقيقة الأبرز تتمثل في أن الشرق الأوسط سوف يظل حريصاً على تعريف نفسه وفقاً لشروطه وتطلعاته. ومهما كان شرقاً أو أوسطاً، فإنه بالأساس، ليس مكاناً للعنف أو الجحيم الأبديين. وكذلك يتوجب على الغرب الإمبريالي أن يفهم تعقيدات هذه المنطقة، وقدراتها، ويتوجب عليه، بناء على كل ذلك، أن يتخلى عن وجهة النظر الإسرائيلية القديمة، التي تقول «إن العرب وحدهم هم الذين يفهمون لغة العنف»!!
إذا كانت حكومة الولايات المتحدة راغبة في الهرب من خطئها القاتل في الشرق الأوسط، فيجب عليها أن تعيد صياغة علاقتها مع الشرق الأوسط: تبديل العسكري بالدبلوماسي؛ استبدال الإكراه بالحوار؛ استبدال العنصرية بالشراكة. ومن دون ذلك، فإن الجحيم سيستمر، ولن يكون هناك تعريف لإقليم الشرق الأوسط، وسوف تبقى أمريكا وحلفاؤها الغربيون يتمتعون بالغباء المطبق وعدم فهم الشرق الأوسط.
الجمل : قسم الترجمة
المصدر : غلوبال ريسيرتش
الكاتب : رامزي بارود
إضافة تعليق جديد