الخطط الإستثمارية أسلوب متطور لهدر الملايين
تتبارى المؤسسات الإنتاجية مع بداية كل عام، بالتقارير التي تصدرها عن أداء معاملها في مجالات الإنتاج والتسويق والخطط الاستثمارية لعام فائت، ومن يطلع على هذه التقارير يشعر بالغبطة للجهود التي تبذلها الإدارات بهدف تنفيذ الخطط الاستثمارية والإنتاجية والتسويقية، والتي تبلغ في أكثر المؤسسات 100%، لكن الوقائع تقول إن الإنفاق الاستثماري يواصل تراجعه، وتشهد بذلك بيانات الموازنة العامة للدولة منذ العام 1995..
إن الذي يطالع موازنة الدولة للعام الحالي يكتشف تغييراً مهماً في التركيب الهيكلي للإنفاق العام، يتضمن تراجعاً عن الدور التنموي الاستثماري، ورافق ذلك تحرير التبادل التجاري، الأمر الذي خلق صعوبات كبيرة وتحديات أكبر بالنسبة لمؤسسات القطاعين العام والخاص، حيث واجهت وتواجه منافسة حاسمة أدت إلى إغلاق آلاف الشركات الصغيرة والمعامل في القطاع الخاص، وتحول أصحابها إلى تجار وسماسرة، وأودت بشركات القطاع العام إلى خسارات كبيرة، وتوقفت شركات ومؤسسات عديدة، والشركات التي مازالت تعمل تسير في طريقها إلى الهاوية.
- لم تسأل الجهات الوصائية أية مؤسسة عن إنفاق موازنتها الاستثمارية، ولم تسأل المؤسسة أية شركة من شركاتها عن أوجه الإنفاق ونسب الإنجاز الفعلية.
أحد الإداريين في مؤسسة عامة هامة طلب عدم ذكر اسمه، قال رداً على سؤال عن الخطة الاستثمارية في المنشأة التي يديرها: «الخطة الاستثمارية في مؤسساتنا كذبة كبرى، الهدف منها صرف الأموال للتجار والمتعهدين، وإذا كانت هناك شركة لم تنفذ خططها، فعموماً أوضاعنا بخير، فإذا لم تكن هناك خطة يعني لا توجد سرقة»، والمثير أن رئاسة الوزراء تطلب من المؤسسات صرف الأموال المخصصة دون البحث في النتائج وما يحققه هذا الصرف.
في معظم شركاتنا مشاريع خلبية، نهدم بناءً ونشيد آخر. وفي نهاية العام تتم المناقلات من بند إلى آخر. ويتابع الإداري قائلاً: «أعطني 5 مليون لإقامة خط إنتاجي ولكن اسألني ماذا حققت؟ وما جدوى هذا الخط؟، المؤسف أن أحداً لا يسأل، فالمؤسسات التي لم تنفذ خططها الاستثمارية لم تسرق الأموال».
- انطلاقاً من هنا انطلق الفساد في المؤسسات العامة، وانطلاقاً من هنا ترعرع جيل من السماسرة والوسطاء والمتعهدين في القطاع الخاص مع شركاء لهم في القطاع العام، هدروا المليارات وضيعوا الجدوى من مشاريع إستراتيجية كبيرة، وخرجت شركات ومشروعات كبرى من الخدمة وشركات ومؤسسات أخرى تحتضر وفي طريقها إلى التوقف، إفساد قطاع من المواطنين وإخراجهم من دائرة العناصر الخيرة في المجتمع إلى ممارسة أعمال غير مشروعة بهدف الإثراء على حساب مصالح المجتمع والاقتصاد الوطني، ولم تفكر الجهات الوصائية في نقل وتوطين التكنولوجيا المستوردة بمختلف مستوياتها وأنواعها، أو التفكير في إنتاج منتجات مماثلة للمنتجات الموجودة في الأسواق العالمية، انحصر العمل في تشغيل المعامل وإصدار التقارير عن نسب الإنتاج المرتفعة، وهدر الأموال في غير مكانها دون مساءلة أو محاسبة.
- تقرير المؤسسة العامة للصناعات الكيميائية لعام 2009 يقسم شركات المؤسسة من حيث تنفيذ الخطط الإنتاجية إلى ثلاث فئات، وجاءت في الفئة الأولى شركة الأحذية بنسبة تنفيذ 96%، والشركة الطبية 88%، وزجاج حلب 89%، والأسمدة 87%، وورق دير الزور 83%، بينما تفاوتت شركات الفئة الثانية بِنِسب تنفيذها بين 60% ـ 80%، وجاءت دباغة دمشق 76%، ودباغة حلب 75%، وبلاستيك حلب 70%، والفئة الثالثة الدهانات /54%/ والشركة الأهلية 52%، والإطارات 47%، والمنظفات 35%... أما تنفيذ الخطط الاستثمارية والتي بلغت 1.360 مليار ل.س، فبلغ الاستثمار في المؤسسة نسبة 95%.
تقارير خلبية وهمية لأن شركة الأحذية تتوقف لأشهر عديدة ولا تنتج إلا حين الطلب، وهي في عجز مالي، وعرضت بعض معاملها للاستثمار ولم يتقدم أحد، فالشركة إذا كانت تعمل بـ20% من مجموع طاقتها، فإن نسبة التنفيذ الـ96% هي من أصل الـ20% العاملة فقط. وكذلك شأن الشركات الأخرى.
أسلوب العمل بالطاقات الدنيا وحسب الطلب، جاء بسبب انفتاح الأسواق واستيراد مختلف المنتجات الرخيصة والسيئة، وقد انعكس هذا على الصناعة السورية بشكل عام دون حماية للإنتاج الوطني، في ظل الإغراق الممنوع في عرف منظمة التجارة العالمية، وبسبب ارتفاع الرسوم والضرائب، الجمركية والاستهلاكية، التي قد تصل إلى 20% من تكلفة الإنتاج.
- سبب ارتفاع أسعار الطاقة عن الأسعار العالمية خللاً كبيراً في المجال التنافسي في الجودة والمواصفات والمقاييس وتراجع الإقبال على منتجات القطاع العام من قبل المؤسسات التسويقية، وكانت هذه المؤسسات قد أنشئت أصلاً من أجل استجرار إنتاج القطاع العام، ولكنها تراجعت أمام إغراءات ما يقدمه القطاع الخاص، ولا نعرف الآن مبرر استمرارها.
بلغت نسبة التنفيذ في الخطة الاستثمارية العام الماضي 95%، وهنا نسأل: أين صرف مبلغ مليون و360 ألف ل.س؟!
لم يصرف على الاستبدال والتجديد والتطوير والتحديث، رغم أن المبلغ قليل قياساً إلى شركات هامة، ولكن المبلغ صرف بنسبة 95%.
مثال آخر من خلال شركة حديد حماة الإستراتيجية التنافسية، والرابحة حتى الآن، فقد بلغت نسبة تنفيذ الخطة الإنتاجية في معمل الصهر 97%، وفي معمل القضبان 69%، ومعمل الأنابيب متوقف عن الإنتاج ومعمل الباسل يقوم بتنفيذ وتصنيع الطلبيات، ونفذ من الخطة الاستثمارية نسبة 90%، ولكن أين؟! في بناء سور لقطعة أرض عائدة للشركة. نعم لقد صرف المبلغ فعلاً.
- ما يعنينا هنا هو الإنفاق الاستثماري الذي بلغ 3 مليارات و973 ألف ل.س والأرباح مع كل الضرائب بلغت 4.957 مليار ل.س. صحيح أن القطاع العام مازال رابحاً حتى الآن، ونحن مع زيادة الاستثمارات، ولكن السؤال المطروح: «أين ذهبت الاستثمارات السابقة؟ وأين ستذهب استثمارات 3 مليار ل.س؟! الاستثمارات إذا لم تضاعف الأرباح فماذا يعني ذلك بالضبط؟»
لم تسأل مؤسسة، ولم يسأل وزير، ولم يسأل رئيس مجلس الوزراء: أين صرفتم ما خُصِّص لكم؟ وما هو جدوى عملكم؟ ولكنهم يسألون: «لماذا لم تنفذوا الخطط الاستثمارية!!»
أبرمت مؤسسة كبرى عقداً بقيمة 588 ألف دولار مع شركة روسية لتنفيذ أعمال الصيانة وتأمين قطع التبديل، وكانت هذه المؤسسة خلال سنوات طويلة في حالة إهمال كامل لبرامج الصيانة ولكوادرها الفنية. وفي عام آخر أبرمت عقداً مع شركة أخرى لتنفيذ صيانة وتوريد قطع تبديل بالعقد رقم 612/22 بقيمة 520 ألف دولار، أي أقل بـ68 ألف دولار من عقد المجموعة الثامنة، وذلك بعد أن قرر مجلس الإدارة الطلب من مديرية الإمداد في المؤسسة لاستدعاء الشركات العارضة الثلاث لممارسة عملية كسر السعر، فالشركة الفائزة بالعرض قامت بكسر السعر المقدم من مليون و97 ألف دولار إلى 520 ألف دولار، وبفارق 577 ألف دولار، أي أقل من سعر العرض الأول بنسبة من 65%، ما وفر أموالاً طائلة لمصلحة المؤسسة والخزينة العامة. وتم إبرام عقد آخر مع الشركة نفسها «سبيتس انيرمونتاج» لتنفيذ صيانة وتوريد قطع تبديلية بقيمة 569 ألف دولار لإحدى المجموعات، ولمجموعات أخرى بقيمة مليون و138 ألف دولار بعد أن طلبت المؤسسة من الشركة الفائزة بالعرض تقديم سعر نهائي، لأن فوزها كان بالعرض الفني وليس المالي، فقامت الشركة بتخفيض قيمة العرض من مليون و162350 دولار إلى مليون و138 ألف دولار وبفارق قدره 24350 دولار.
- وفي عام آخر أعلنت المؤسسة عن استدراج عروض أسعار خارجي برقم /7142/ لتنفيذ أعمال صيانة وتأمين قطع تبديل وقدرت الكلفة بـ100 مليون ل.س، وقدمت شركات عروضها، فنالت إحداهن 95 علامة وقيمة عرضها 4 مليون و420 ألف دولار، وشركة أخرى نالت 70 علامة وعرضها 4 مليون و293 دولار، وفازت هذه الأخيرة بالعقد دون أن تقوم المؤسسة بدعوة الشركتين لكسر الأسعار عملاً بأحكام المرسوم التشريعي رقم 195 لعام 1974 وبلاغات رئاسة الوزراء. بل وقامت المؤسسة بوضع مادة في دفتر الشروط الحقوقية والمالية تنص على أن «الأسعار نهائية وغير قابلة للكسر»! وبذلك تم هدر المال العام بلا مبالاة، وتجري في الإدارات معارك ساخنة بين هذا الإداري وذاك، وبين هذا المتنفذ وآخر، وأعمال صيانة يتم التعاقد عليها مع شركات أجنبية، وفي هذه المؤسسة أكثر من 170 مهندساً من مختلف الاختصاصات، ويستطيعون إجراء الصيانة ولكن.. ولكن.. ولكن!!
الشركات التي لم تنفذ الخطط الاستثمارية، لم تُسرق ولم تنغمس في الفساد العام!!
نزار عادلة
المصدر: قاسيون
إضافة تعليق جديد