الديمقراطية بين العشائرية والقومية
إن الرهان على الغرب لتحرير الجماعة من حكامها ومنحها الديمقراطية قد لا يختلف عن رهانات أخرى خاسرة في تاريخ الجماعة العربية, مثل الرهان على العثمانيين لإنقاذ العرب من المماليك والفرنجة, ثم الرهان على الغرب لتحريرهم من الأتراك ومنحهم الدولة العربية الكبرى.
فقد راهنت النخبة العربية على الغرب نفسه في بداية القرن الـ20 لإقامة دولة العرب الكبرى مكافأة لهم على ثورتهم ضد الأتراك, غير أن الغرب فتتهم بعد ذلك إلى محميات وممالك هزيلة, ثم زرع وسطها دولة للمهاجرين اليهود بعضلات تكنولوجية وقبضة نووية تعبث كما تشاء وتثير الخوف والرعب في كيانات "سايكس بيكو".
إن الديمقراطية والتعددية وحقوق الإنسان المفروضة بقوة الغرب قد لا تأتى بالنتائج المنتظرة والمأمولة، لأن التعددية التي يمد الغرب يد العون العسكري لأجل نجاحها لا ينصرف معناها إلى التنافس في فضاء السلطة بحرية من خلال التنظيمات والأحزاب السياسية, بل تعنى بالدرجة الأولى تعددية الطوائف والملل والنحل والأعراق المتصارعة.
فهذا الجانب من الديمقراطية والتعددية هو الذي يحوز الاهتمام والحرص الكبيرين من قبل الغرب، وذلك لأن هذا النوع من التعددية يمكن تسييسه بموازاة الدولة والمجتمع, باعتباره يحمل أفكارا وإمكانيات تصلح لأن تكون مشاريع لدول وكيانات جديدة في المنطقة.
وهي كذلك تفتح الباب أمام ظهور نوع من الدول القزمة ذات الأفق المسدود, أي أنها من ناحية تقوم على أساس إثني أو طائفي, وبالتالي يصبح اندماجها مع غيرها في حكم المستحيل, ومن ناحية أخرى لا تشكل قوة بشرية أو اقتصادية ترشحها لتبوء مكانة دولية تزعج مركزية الغرب أو تحدث تعديلا في مجرى نظام العلاقات الدولية الذي يتحكم فيه الغرب منذ القرن الـ17.
إن رفع شعار التعددية الثقافية المسيسة والديمقراطية قد لا يكون المقصود منه تحرير اﻹرادة السياسية العربية أو الدفاع عن حقوق الأقليات وإن أفاد منه بعضها.
بل قد يكون -والتجارب التاريخية شاهدة على ذلك- مخططا ديمقراطيا على طريقة الغرب لتفكيك التركيبة الاجتماعية للكيانات القطرية العربية التي سبق له أن أنشأها ودافع عنها في عصر ما قبل العولمة, حينما كانت تؤدى دورا في خدمة مصالحه السياسية والإستراتيجية, باعتبارها تقف في مواجهة فكرة الدولة القومية.
قد تواجه الديمقراطية التي يهديها الغرب للكيانات القطرية العربية مشكلة حقيقية في ظل اشتراطات العولمة الأميركية, لأن حكومات الدول والكيانات الهزيلة مهما بلغت شرعيتها الداخلية لا تستطيع أن تستمر في السلطة ما لم تتكيف مع اشتراطات العولمة وتثبت أنها منضبطة حسب قواعد حسن السيرة والسلوك التي تحددها الولايات المتحدة والغرب عموما.
والغرب حسب ما تشهد التجربة الاستعمارية مع بعض مستعمراته لا يقبل إلا بالديمقراطية التي تضفى الشرعية على هيمنته ومركزيته, ولهذا فإن المراهنة على الغزو الغربي لتحقيق الديمقراطية وانتظار مجيء الفرج على يديه قد يكون انتظارا في غير محله.
إن أزمة الديمقراطية لا تتمثل فقط في محاولة توليدها قيصريا على يد الغرب بالموصفات والشروط التي يضعها, بل تكمن أيضا في طبيعة النظام الدولي أحادي القطب, الذي يتنافى مع أبسط قواعد الديمقراطية.
فقوى الغرب الكبرى بقيادة الولايات المتحدة تتصرف في مجال العلاقات الدولية انطلاقا من منطق القوة، وتسخر المنظمات الدولية لخدمة مصالحها الإستراتيجية, حتى أصبح دورها هو شرعنة الغزو والاحتلال، وصارت مظلة يجرى تحتها اقتسام غنائم الحرب.
فهذه المنظمات التي يفترض أنها تقوم على أسس الديمقراطية وتخضع لقاعدة الأغلبية والمساواة تبدو في واقع الأمر مجرد أدوات في يد القوى الكبرى, تفرض ﺇرادتها فيها على بقية مجتمعات العالم ديمقراطية كانت أم دكتاتورية.
ولذا فإن انعدام الديمقراطية على مستوى النظام الدولي يفرغ الديمقراطية من معانيها الحقيقية على المستوى الوطني, لأن الشعوب التي تجد نفسها غير حرة في تقرير خياراتها ولا تستطيع أن تدافع عن مصالحها المشروعة لن يكون لديها ثمة شيء كثير تفعله بفضل ديمقراطيتها الداخلية.
إذا كانت ثمة إمكانية لتحقيق الديمقراطية في الواقع العربي, فإن هذه الديمقراطية لن تقدم حلا حقيقيا لأي من إشكاليات هذا الواقع المزمنة, ما لم يتوفر لها شرطان.
أولهما أن تكون هذه الديمقراطية ثمرة فعل جماعي, صنعته الأغلبية في مواجهة حكامها لا هبة مسمومة تقدمها فيالق الغزو.
ثانيهما أن تكون الديمقراطية في ﺇطار خطاب وحدوي ودعوة قومية, لأن الملاحظ على الخطاب الديمقراطي هو أنه في معظمه خطاب قطري عشائري أو مذهبي يتعبد في محراب الديمقراطية.
ويكاد هذا الخطاب يجعل من الديمقراطية والقطرية توأمين، وهو يوحي بأن الديمقراطية وحدها كفيلة بعلاج جميع الأمراض المزمنة وبحل المشاكل الداخلية والخارجية لأي كيان من الكيانات العشائرية والطائفية الهزيلة دونما حاجة لاتحاده مع غيره.
هذا النوع من الخطاب الديمقراطي الذي يقدم الديمقراطية على أنها جوهر مكتف بذاته وبديل عن الوحدة لحل مشاكل كل قطر على حدة هو في حقيقة الأمر الخطاب الذي يعبر عن الديمقراطية التي يتبناها الغرب ويمد لها يد العون.
وتلك الديمقراطية محملة باشتراطات ضمنية فحواها المحافظة على أوضاع التجزئة والتفتت، وذلك بتجذيرها وعقلنتها تحت مظلة ديمقراطية ينشرها الغرب على الطوائف والملل والعشائر، حسب مقاسات مصالحه الإستراتيجية.
لقد رسمت مصالح الغرب إبان المرحلة الاستعمارية خريطة ما يعرف بالعالم العربي، إذ اتفاقيات "سايكس بيكو" ووعد بلفور ومعاهدات الحماية والسلام إلى الأبد وخرائط "مستر كوكس"، كلها أملتها مصالح ومشيئة القوى الغربية التي ثبتت الحدود الجغرافية للدول القطرية ورسمت حدود نفوذها وحجم الكتلة البشرية التي تقطنها.
وظل الغرب طوال أكثر من نصف قرن يهيئ الظروف الخارجية والداخلية لتكريس ظاهرة الدولة القطرية وقومنتها، وليس من المقبول عقلا تصور أن الغرب سيقوم بإزالة الأنظمة غير الديمقراطية ليمنح هذه الشعوب الديمقراطية فتقرر مصيرها بحرية وبناء دولة الوحدة بما ينقض الدولة القطرية التي يعتبرها الغرب الضمانة الأولى لاستمرار سيطرته سياسيا واقتصاديا وعسكريا.
إن الفضاء القومي هو الذي يستطيع أن يعطي لديمقراطية الفعل الجماعي -لا المهداة من الغرب- فاعليتها الحقيقية لحل إشكاليات الواقع العربي المزمنة.
ولذا فإن الديمقراطيين العرب ينبغي أن يكونوا وحدويين في نشاطاتهم الديمقراطية, من خلال أشكال ومؤسسات قومية كالأحزاب والنقابات والمنظمات التي تمتد في نسيج الجماعة القومية, لأن النشاط الديمقراطي على المستوى القومي له زخم قد يوفر للأطراف المشاركة فيه حماية أكثر فاعلية من تلك التي يمكن أن يوفرها أي حراك ديمقراطي مقطوع عن جذوره يرى في دولة العشائر والطوائف طموحه النهائي لتحقيق حلم واحة الديمقراطية تحت رعاية الغرب.
فهذا النوع من الديمقراطية ذات الأفق الطائفي والعشائري في ظل نظام دولي دكتاتوري يسيطر عليه الغرب ليس إلا نوعا من الحكم الذاتي الذي يمنحه الغرب لهذه الجماعات كي تختار ممثليها في المجالس البلدية والمحلية لتسيير بعض شؤونها الداخلية المتعلقة بالنظافة وحماية البيئة.
إذا ما قيض للديمقراطية أن تتحقق في أي قطر عربي, فإن ذلك لا يعني أن المجتمع في هذا الكيان قد صار حرا في ممارسته للديمقراطية في ظل نظام دولي دكتاتوري، وفى مواجهة ضغوط قوى الغرب الكبرى التي تستطيع أن تحاصره وتفرض عليه قيودا اقتصادية وتهديدات عسكرية للتخلي عن خياراته التي لا يعتبرها الغرب متفقة مع مصالحه.
فلا تستطيع أي دولة عربية قطرية ديمقراطية أن تتخذ أي قرار يحمل معنى الدفاع عن مصالحها نزولا عند مشيئة برلمانها الحر المنتخب واستجابة للغالبية العظمى من شعبها في مواجهة مواقف وسياسات أميركية وغربية, لأن ذلك سيواجهه الغرب بقوته الاقتصادية والسياسية وبجبروته العسكري.
ولذا فإن محاولة ممارسة الديمقراطية في إطار الدولة القطرية في ظل نظام دولي يتميز بالتكتل والدكتاتورية وسيطرة الغرب هي في واقع الحال ديمقراطية أشبه بلعب الأطفال في حديقة المنزل الخلفية, حيث يمكنهم أن يلهوا ببراءة بقدر ما لا يسبب لهوهم ضيقا أو ﺇزعاجا للكبار.
المصدر: الجزيرة
إضافة تعليق جديد