الرواية الإيرانية الجديدة
ماذا يكتب الروائيون الايرانيون الآن؟ جلية هي الخصوبة التي ميزت التراث الإبداعي الفارسي من جهة اشتماله على طرائق سردية قريبة من المسلك الروائي بالمعنى السائد الآن. كان النص التراثي الإيراني ينهض دوماً على سرد حكائي تسنده رافعة روائية يتولى فيها الرواي الخوض في مجاهل الإخبار والإمتاع والقص. وليست شاهنامة الفردوسي وكلستان سعدي وخسرو وشيرين الجامي وغير ذلك سوى أمثلة قليلة على زاد كثير.
ومع هذا فقد جاءت الرواية الحديثة إلى حقل الكتابة النثرية الفارسية الحديثة متأخرة. وهي جاءت على كتف القصة القصيرة. الكتاب الذين انتبهوا إلى الرواية الغربية عبر الترجمة كانوا فعلوا ذلك بعدما استقبلوا القصة القصيرة وأنزلوها منزلة رفيعة.
رائد القصة الفارسية الحديثة هو، من دون منازع، محمد علي جمال زاده (توفي عام 1998) الذي نقل هذا الفن من سوية الحكاية البسيطة ذات النفس الوعظي إلى مقام القصة المشيدة على بنيان قوي إلى حد ما. وهو اشتهر على وجه الخصوص بمجموعته القصصية «يكي بود يكي نبود» ( كان يا ما كان). كانت لغة جمال زاده بسيطة وشعبية أراد من خلالها الوصول إلى القارئ العادي لإبلاغه رسائل اجتماعية وسياسية وأخلاقية. وقد طغت الإنشائية والإطناب في مواقع كثيرة فغرق بعض النصوص في الثرثرة المملة.
غير أن جمال زاده جرب كتابة الرواية أيضاً فنشر عام 1942 رواية بالعنوان العربي «دار المجانين» وهي سرد متداخل لمجموعة من الشخصيات تروي أحوالها انطلاقاً من مصح عقلي.
وكان لا بد من أن ينهض مبدع من طينة صادق هدايت (1903 - 1915) كي تكتمل ملامح القصة القصيرة الفارسية ومن ثم تبلغ الرواية قامة عالية وتصل مستوى النضج الأكيد. جاء صادق هدايت إلى الكتابة مدفوعاً بموهبة فذة وكان روحاً هائمة في مساحات الشقاء والعزلة والألم. كانت القصص القصيرة التي كتبها هدايت لوحات داكنة تمتلئ بعذابات الفرد الهامشي الضائع وسط المجموع. وقد تزامن نص هدايت مع انتشار النصوص الوجودية والعبثية وتسرب المناخ الكافكاوي إلى المحفل الروائي في إيران ومن حولها. واختلط هذا مع التراث الأسطوري الفارسي والتركة الصوفية والشذرات الهندوسية والبوذية الآتية من الهند.
وربما كان كل ذلك وراء كتابة روايته الأشهر «بوف كور» ( البومة العمياء) التي نشرها في بداية الأمر في الهند. وكتب هدايت قصصاً خارقة في غناها واشتمالها على ما لا يعد من الإيحاءات النفسية والروحية. ومن دون جلبة كبيرة خلق هدايت شخصيات تتمزق من داخلها وتصرخ، من دون صوت، وهي تحترق في أتون عذاب نفسي مصدره التعاسة مع الذات والمحيط.
غدت مجموعات قصصه مثل «الكلب الضال» و «المرأة التي أضاعت زوجها» و «ثلاث قطرات دم» وسواها بمثابة نقاط مضيئة في الصفحة الروائية والقصصية الفارسية، وهي حملت علامات واضحة على علو مكانة هدايت وأصالة إبداعه بحيث يمكن النظر إلى صنيعه على سوية كتابات فرانز كافكا وإدغار آلان بو.
وغدا نص هدايت نموذجاً قابلاً للاحتذاء، فسار عدد من الكتاب الإيرانيين على خطاه قبل أن يشقّوا دروباً خاصة بهم.
فعل ذلك القاص بزرك علوي (1907 - 1997) الذي كتب رواية «عيونها» التي تحكي قصة حب بين كمال الملك والمرأة ذات العيون الواسعة.
أما صادق جوبك، المتوفى عام 1998 فقد أصدر مجموعات قصصية كثيرة قبل أن يكتب روايته «آخرين صدقه» (الدعاء الأخير) التي تتوقف عند الفقر واليأس والأمل.
والكاتبة سيمين دانشور (المولودة عام 1921) أصدرت مجموعة قصصية بعنوان «شهري جون بهشت» (مدينة مثل الجنة) وترجمت نصوصاً لتشيخوف وبرنارد شو وهوثورن قبل أن تشرع في كتابة روايات رصينة. في رواياتها تخلط دانشور الواقع والخيال وتمزج المأساة بالأمل وتعالج مواضيع شتى فتتوقف عند الفقر والمرض والطفولة والخيانة والزنا والسرقة واليأس والموت.
علي محمد أفغاني (المولود عام 1925) أصدر رواية ضخمة بعنوان «شوهري آهو خانم» (زوج السيدة آهو) واعتبرت حدثاً أدبياً حتى أن بعضهم اعتبرها أعظم رواية فارسية.
ومع هذا كانت الرواية تقليدية تسير في ساقية النص الكلاسيكي الذي يتوخى احترام الصعود الكرونولوجي من دون الخوض في أية مغامرة تقنية. أما موضوع الرواية فهو تلك الثيمة الأبدية عن وقوع رجل غني في غرام فتاة جميلة وفقيرة على خلفية بانوراما من الحياة الاجتماعية البائسة والعلاقات المتوترة. الروايات الأخرى التي كتبها أفغاني في ما بعد لم تبلغ ما بلغته روايته الأولى من جهة الإتقان والاستقبال المجيد من لدن القراء والنقاد.
أما إبراهام كلستان (المولود عام 1922) فقد كتب روايات اعتبرت خارقة للمألوف وحداثية بمعايير الفترة التي كتبت فيها (الستينات والسبعينات من القرن الماضي). وقد قامت هذه الحداثة على التطرق إلى مواضيع غير مسبوقة واستعمال تقنيات سردية جديدة مأخوذة من ترسانة تيار الوعي والرواية الجديدة والتخلي عن النمط التقليدي في التتابع الزمني للحدث.
وهو لم يتردد في الاستفادة من تقنيات السينما واستلهام الأشكال الإبداعية الأخرى كالرسم والنحت والرقص. كما أنه أخذ متن الرواية نحو العوالم الأسطورية والفضاءات الفانتازية التي تتجلى في قصص الخيال. هذا حال روايته «أسراري كنجيي داراي جني» (أسرار خزينة وادي الجن)، على سبيل المثال.
تقي مدرسي، هو الآخر، اقترب من النص الروائي في سحنته الحديثة فتناول المتن والشكل من زوايا نظر مبتكرة. وهو كتب روايته الأولى «ياكلوفا وتنهايي» (ياكلوفا والعزلة) بمقاربة تدنو من المغامرة في ما يتعلق بطرق موضوعات تعد في نظر الناس محرمة وغير مألوفة.
كتب بهرام صادقي (1936-1983) القصة القصيرة والرواية في قماشة سردية جديدة وهو ألبس عوالمه الكتابية ثوباً سوريالياً كما أنه مضى للغوص في الأعماق النفسية لأبطاله تاركاً إياهم يواجهون مصائر عبثية ومدمرة تثقل أرواحهم بقدر تراجيدي فاضح.
وبدا تأثره بصادق هدايت واضحاً. شخصياته، كما هو الحال عند هدايت، كائنات ضئيلة القدرة تسحقها آلة همجية من الجهل والقسوة والحرمان.
يعد جمال مير صادقي من المنادين بالواقعية الاشتراكية، وهو بدأ حياته الأدبية بكتابة قصص قصيرة حاولت أن تعكس واقع الحال المعيشي للفئات الفقيرة من السكان. روايته الأولى التي صدرت عام 1988 بعنوان «بدها خبر از تغيير فصل ميدهند» (تبدل الفصول يجلب أخباراً سيئة) تصور حياة الطبقات الفقيرة في الأحياء المهملة من المدينة.
أما إسماعيل فصيح (المولود عام 1935) فقد زاوج التاريخ والأفكار السياسية في توليفة سردية تطغى فيها اللغة الواقعية والإيحاءات القومية وتتناثر بين جوانبها الرموز والإشارات المأخوذة من المنجم الإيديولوجي. تأخذ روايته «شراب خام» (الخمر الفج) طابع قصة بوليسية، في حين تعد روايته الثانية «دل كور» الأكثر قوة وتألقاً.
هوشنك كولشيري (1937 – 2000) هو واحد من الروائيين الإيرانيين الذين تصدوا للاستبداد السياسي على مدى أكثر من ثلاثة عقود. وهو توفي عن 63 عاماً بعدما كتب روايات وقصصاً قصيرة في تاريخ الأدب الإيراني الحديث.
أصدر كولشيري أولى مجموعاته القصصية بعنوان «كالعادة» قارب فيها الحياة الباردة والمملة للعاملين في الوظائف الحكومية في مدينة صغيرة في أواخر الستينات.
لكن أكمل رواياته نشرها عام 1968 بعنوان «الأميرة احتجاب» والتي ترجمت إلى لغات كثيرة. وهي رواية قصيرة تعتمد اسلوب تيار الوعي وتتحدث عن حياة البذخ في بلاط القاجار والانحطاط التدريجي لهذه العائلة التي حكمت إيران في القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين.
في عام 1975 جعل كولشيري من حياة السجناء السياسيين في إيران موضوعاً لقصصه القصيرة ورواياته التي ناقشت تأثير الاستبداد في الفضاء العام للمجتمع. وفي أعمال أخرى طرح قضية المثقفين الذين وضعوا أنفسهم في خدمة نظام الشاه.
غادر كولشيري إيران مرات عدة لإكمال أعماله الكتابية وآخرها «كتاب الجن» الذي نشره في الخارج. في عام 1990 قام بتهريب روايته التي حملت عنوان «ملك الذين دهمهم الظلام» إلى الولايات المتحدة الأميركية ونشرها بالإنكليزية تحت اسم مستعار ولم يكشف عن الإسم الحقيقي للمؤلف إلا بعد وفاته. منحته ألمانيا جائزة ايريك ماريا ريمارك عام 1999 لجهوده في محاربة الاضطهاد ودعم الديموقراطية وحقوق الإنسان.
محمود دولت آبادي هو الآن أشهر الروائيين الإيرانيين الأحياء. هو روائي راسخ القدم في تربة الأدب الفارسي الحديث. رواياته التقليدية، الكلاسيكية، الطويلة تترصد التطورات الاجتماعية وانعكاساتها على حياة الناس.
إنه قرين ياشار كمال ونجيب محفوظ ويرشحه كثر لنيل جائزة نوبل للآداب. روايته الشهيرة «كليدار» تعتبر «ملحمة» الأدب الفارسي الحديث. ولكنه كتب روايات كثيرة أخرى.
أما الروائي والقاص علي أشرف درويشيان فقد أصدر روايات ومجموعات قصصية عدة. وهو عالج مواضيع خاصة ورسم أحوال العيش في مسقط رأسه، مدينة كرمنشاه، كما أنه غاص في تفاصيل الطبقات المختلفة ولا سيما تلك التي تمارس الاستغلال والفساد.
نشرت شهرنوش باريسبور (مواليد 1945) رواية «سك وزمستان بلند» (الكلب والشتاء الطويل) عام 1976، أي قبل الثورة الإسلامية، وحظيت بإعجاب القراء. ويعتبرها الكثير من النقاد رائدة في ميدان الرواية الفانتازية كما أنها تنجح في إنجاز نسخة إيرانية مما يسمى الواقعية السحرية.
ظهرت أسماء روائية بارزة بعد الثورة الإسلامية أتت بفسحات سردية جديدة إلى ساحة الرواية الإيرانية وابتكرت أساليب غنية أضافت إلى المشهد الروائي الإيراني الخصوبة والدهشة والتنوع.
وينحدر هؤلاء من إثنيات إيرانية مختلفة، كما أنهم ينتمون إلى أقاليم متباعدة وهم يعكسون في رواياتهم الاختلافات المكانية ويجلبون إلى السرد أساليب ومهارات متنوعة.
نسيم خاكسار واحد من أشهر الكتاب المعاصرين لمرحلة ما بعد الثورة الإسلامية. هو قاص وشاعر وكاتب مسرحي وروائي. يخوض في أحوال الفرد المفتون بالانعتاق من كل القيود والساعي إلى التحرر من الأوهام والأحلام الخادعة. مسرحياته تحقق نجاحات باهرة في الخشبة الإيرانية وتجلب المشاهدين الذين يرون فيها مرآة تنقل آلامهم المكبوتة.
وبدوره يعتبر شهريار ماندانيبور، المولود في شيراز عام 1956، من الروائيين الجدد البارزين في إيران. أصدر حتى الآن ثلاث روايات فضلاً عن عدد كبير من المجموعات القصصية.
ويغلب على كتابته الروائية والقصصية غموض يكتنز سحراً مدفوناً في سطور اللغة القوية التي يكتب بها.
ليست ثمة أمكنة واضحة ولا شخصيات صريحة في النص الروائي. هناك ظلال وأشباح وأخيلة تتحرك وتجعل كل شيء قابلاً للهرب والانفلات من التحديد.
يكتب ماندانيبور عن اللعنة التي تلاحق الفرد أنّى كان وأياً كان سعيه.
في روايته الشهيرة «تكسير الأسنان المتحجرة» التي نشرها عام 1997 عود إلى آلاف السنين من الماضي الغابر حيث يقف البطل تائهاً بين الأعمدة شبه المتهاوية للآثار الغابرة وحيث هناك ناس يتنفسون التراب مع الهواء ويعيشون في بيوت من خيوط العنكبوت.
كتبت آناهيتا فيروز روايتها «الحدائق المسورة» بالإنكليزية، هي المقيمة في الولايات المتحدة منذ رحلت عنها في أعقاب الثورة الخمينية عام 1979. في لغة متقنة تسرد الروائية وقائع حياتية وحوادث صارخة في إيران حين كانت تحت حكم الشاه. تسلط الضوء على الصراع المزمن بين أركان الحكم والمناهضين للسلطة وما يتخلل ذلك من مؤامرات وأعمال عنف وقتل وتعذيب وملاحقات الأجهزة السرية وكذلك ما يتفشى داخل السلطة من فساد ودسائس.
يعد محسن مخملباف، المولود عام 1957، إسماً لامعاً في سماء الفن الروائي والقصصي والسينمائي الإيراني. إنه واحد من الأصوات الموهوبة التي ظهرت في المشهد الإبداعي الإيراني بعد الثورة الإسلامية. وهو كتب دزينة من الروايات حوّلها بنفسه إلى أفلام سينمائية ناجحة.
شهلا شركات، ولدت في أصفهان عام 1965، وبرزت ككاتبة روائية وصحافية وناشطة في حقوق الإنسان. وهي أصدرت مجلة «زنان» (النساء) للاهتمام بقضايا تحرر المرأة في مجتمع مغلق يقصي المرأة عن فضاءات كثيرة.
أفشان أليان، (1966)، له أسلوبه الفريد في الإتيان بصور مبتكرة ونسج علاقة خاصة بين اللغة والحالة المسرودة حتى ليظن القارئ أن الأمر يتعلق بمحضر حقيقي من أرشيف قائم في مكان ما.
رواياته تقارب موضوعة القمع الذي يتعرض له الناشط السياسي في بلاد تعتبر السياسة حقلاً للسلطة وحسب. بحكم قناعاته اليسارية اضطر إلى الهرب من إيران واللجوء إلى هولندا ليكون حراً في كتابة ما يشاء.
ولدت آزاده معاوني عام 1967، أي قبل الثورة الإسلامية بثلاث سنوات، وهي كبرت وتفتحت مداركها في ظل الجمهورية الإسلامية التي سرعان ما أدركت آزاده أنها أضيق من أن تتسع لمساحات الحرية التي تنشدها فشدت الرحال وهاجرت إلى الولايات المتحدة. هناك عملت في الصحافة.
نشرت أولى رواياتها عام 2005 تحت عنوان «أحمر شفاه الجهاد» وفيها تتحدث عن العيش في إيران والبحث عن معنى جديد للهوية والانتماء.
ناصر زرفشان روائي ومترجم وهو آثر كتابة روايات تكاد تكون بوليسية بعدما كتب سلسلة من التحقيقات حول الكتّاب والصحافيين الإيرانيين الذين تعرضوا للاغتيال.
رضا أصلان من مواليد طهران عام 1972 وأصدر روايته الأولى عام 2005. في الرواية رحلة إلى مجاهل الدين والشك والسعي في العثور على ضوء في عتمة اليأس الراسخ في دروب العيش.
غزال أوميد (مواليد عبادان 1970) هاجرت إلى كندا وهناك شرعت تعمل في الصحافة قبل أن تكتب روايتها «العيش في الجحيم» وفيها تتناول الأعباء التي تثقل كاهل الفرد في بلد تتحكم فيه قوى قاهرة ترتدي أثواباً مطرزة بلآلئ تعمي الأبصار وتمنع من رؤية الأشياء بوضوح.
رويا هاكاكيان ولدت في طهران عام 1966، وهي يهودية إيرانية انتقلت مع عائلتها إلى الولايات المتحدة وأصدرت روايتها الأولى بعنوان «من أجل الماء». الرواية تتحدث عن فتاة يهودية مراهقة تعيش في بلد إسلامي.
تفتح بستان الرواية الإيرانية وبات ميداناً واسعاً لأسماء لا تني تزداد وتجارب لا تنفك تتأصل وتزداد تنوعاً وغنى وعمقاً. وقد لا يمر وقت طويل قبل أن تظهر نصوص روائية بارعة تنقل إلى القارئ جرعة أخرى من الدهشة والمتعة والثراء.
ليس في هذا ما هو غريب. فالروائي الإيراني يكتـب وفي جعـبـته كنز يحمله عـلى ظهره منـذ ألف عـام. كنز يــحـوي أسماء الفردوسي وحافظ وسعدي والعطار. وهو حين يستدير إلى الماضي القريب أو الراهن اللصيق يفتح الصندوق العجيب الذي يخرج منه الصوت المذهل للبومة العمياء.
نزار آغري
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد