الزمن الذي أفسد ولع دافنشي بالتجريب
من خمس عشرة لوحة بقيت من إرث ليوناردو دافنشي الصغير تمكّنت «ناشينال غاليري» من جمع تسع لتعرضها مع أكثر من خمسين رسماً بين التاسع من تشرين الثاني ( نوفمبر) 2011 والخامس من شباط ( فبراير) 2012. لوحة واحدة في معرض «ليوناردو دافنشي: فنان في بلاط ميلانو» يملكها المتحف الإنكليزي. بدأ برسم النسخة الثانية من «عذراء الصخور» في 1491، أي بعد ثمانية عشر عاماً من النسخة الأولى التي سلّمها لـ «أخوية الحمل بلا دنس» بعد ربع قرن من تكليفها إياه المهمة.
لم يفسد الزمن وحده أعمال ليوناردو دافنشي بل أيضاً ولع الفنان نفسه بالتجريب. اختبر طريقة جديدة في الرسم فلم يعمّر أفضل عملين له، «العشاء الأخير» الهشّة و «معركة أنغياري» التي تلِفت وهو لا يزال حيّاً. يعتقد أنه بدأ بعشرين لوحة فقط في نصف قرن من العمل، ولم يكن شغفه بالكمال وحده ما حدّ تركته بل انهماك عقله الفائق بالتشريح والرياضيات والميتافيزيقا والسلاح والآلات والاختراعات المتنوعة ونظريات الفن. تبدأ الغاليري المعرض بإحدى رسومه الآسرة. يرسم النصف الخارجي لجانب الوجه من أنف معقوف وفم ممتلئ وشعر متموّج، ويكمل بما تحت الجلد ليكشف رؤيته لعمل العقل. اعتبر العين باب المعرفة التي أرسلتها الغرفة الأولى في الدماغ إلى تلك الثانية، الروح، ففهمتها ونقلتها إلى الغرفة الثالثة التي خزنتها.
قال إنه يريد أن يقوم بالمعجزات، ولئن قلّ إنتاجه وتباطأت وتيرة عمله عوّض الإجلال التقدير الذي يواكب الغزارة. نقاد كثر رأوا مجرّد قيام المعرض معجزة تحدث مرة واحدة في العمر. صحافيون بحثوا عن نجمة جديدة في غياب الموناليزا، ووجدوها في «السيدة مع القندلفت» التي رسمها في آخر القرن الخامس عشر. كانت سيسيليا غاليراني، ابنة الخامسة عشرة، عشيقة لودوفيتشو سفورزا، حاكم ميلانو، ولفتت المشاهدين الذين قارنها بعضهم آلياً بالموناليزا التي لا تشملها حقبة المعرض (1482 - 1499). لم يخترع دافنشي رسم ثلاثة أرباع مواضيعه، إذ سبقه فنانون بينهم فان آيك وبوتيتشيلي وميسينا إلى ذلك، لكنه يرسم الفتاة وهي تلتفت عكس اتجاه جسدها. سئمنا الموناليزا والإصرار على تفسير بسمتها والحشد أمامها في متحف اللوفر والسياح الذين يقفزون لالتقاط صورتها تعويضاً عن العجز عن رؤيتها. سرقت في 1911، وكان بيكاسو بين الذين استدعوا للتحقيق، ثم تبين أن اللص موظف في المتحف شاء إعادتها إلى إيطاليا. كان على «السيدة مع القندلفت» ربما أن تسرق لتحقّق النجومية، لكن تاريخها مثير ما يكفي للمنافسة. بقي مكانها مجهولاً حتى عام 1800، ثم ظهرت في البندقية حيث اشتراها أمير بولندي ليعرضها في متحف خاص. في الحرب العالمية الثانية استولى عليها هانز فرانك، الحاكم النازي، وقبض عليه وهو يحاول تهريبها. صادرها النظام الشيوعي بعد الحرب، وظهرت للمرة الأولى في الغرب في معرض في أوائل التسعينات حيث أثارت فضولاً مماثلاً لما تخبره لندن.
نظرة الى البعيد
نرى السمات الدافنشية المألوفة في «السيدة مع القندلفت» من فم صغير غامض وظلال حول الجفنين وكتفين هابطين وصدر صغير مرتفع. تنظر الفتاة بعيداً كأنها تراقب شيئاً طارئاً، أو تصغي إليه. تعصب جبينها بشريط يشد شعرها من دون أن يبدو أثره عليه، وفوق حاجبيها شريط آخر أشقر، مجدول يتوقف عند طرفيهما. كان حيوان القندلفت الذي اصطيد لفروه رمز البراءة، وقيل إنه ذعر حتى الموت من تلوثه. تحمل اللوحات رموزاً كثيرة، فهل تمتد الطهارة من الحيوان إلى الفتاة؟ علّقت اللوحة إلى جانب «الفلورنسية الجميلة» التي لحقت بها إلى سرير سفورزا، وتبدو هذه كأنها تتفحّص الفتاة التي تعرض عنها. تقدّم المرأة الممتلئة نفسها وحيدة، وتظهر الحرص المألوف على كمال الخطوط والتوازن وسط خلفية قاتمة. نظرة الفتاة أكثر ثقة واكتفاء بالذات من نظرة المرأة التي توحي بالتساؤل وربما القلق. شكّ عالم الفن في نسبة اللوحة إلى ليوناردو، وبيعت في 2005 بمليون ونصف المليون فقط. فهل يشكّل ضمّها إلى المعرض تنازلاً وتهاوناً أم إن أدلة جديدة أكّدت رسم دافنشي لها؟
ربما كانت لوحتا «عذراء الصخور» المتطابقتان، المختلفتان، تجتمعان للمرة الأولى. اهتم الرسام بالأمانة للطبيعة حين عاش في فلورنسا حيث حقّق اللوحة التي يملكها متحف اللوفر الفرنسي، التزم الدقة العلمية في رسم الزهور والصخور، وقال إن «الحواس من الأرض بينما يقف العقل بعيداً في تأمل أرقى». أظهرت محاكاة الطبيعة في اللوحة الأولى (1483 - 1485) عجائب الخالق، وأدّت إلى حبه، في حين تجاوزت الثانية التي رسمها بين 1491 و1499 ثم عاد إليها بين 1506 و1508 الطبيعة إلى المزاج والروح. باتت الصخور أقل حدّة ولم تلتزم الأزهار ما ينبت من تلك التربة، فاكتسبت اللوحة ما دعاه الرسام ومؤرخ الفن فاساري «نعمة إلهية». تركع العذراء وسط اللوحة وتحيط الطفل يوحنا المعمدان بيمناها فيما ترفع يسراها فوق الطفل يسوع الذي يجلس قرب ملاك. يقود هذا الناظر بإصبعه إلى يوحنا الذي يضم يديه باتجاه يسوع، ليباركه بالإصبعين المعهودتين ويختتم الحركة الدائرية. حاكى ليوناردو الصخور على ضفة نهر آرنو قرب فلورنسا، فمنحت المشهد غرائبية وروحية تكثّفتا في النسخة الثانية. غاب النور الدافئ والاحمرار اللذان صبغا الشخصيات بالحياة، وحلّ برود قاتم متوجّس يحيط شخصيات منذورة للموت والغياب. يضيف الفنان هالتين فوق رأسي العذراء والمسيح وعصا يوحنا المعمدان، وينظرالملاك بحزن إلى الأخير. تصفّى الحال من الحياة لتطل من خلف العالم، وتصبح أكثر روحانية تحت الصخور المهدّدة.
عينان زائغتان
عينا «الموسيقي» العميقتان وشعره المتموّج اللامع يخالفان بطاقتهما الكبيرة جمود اليد التي تمسك ورقة فيها مقطوعة، وتبدو كأنها أضيفت للتعريف بالشخص. القديس جيروم يبدو بطلاً رياضياً بعضلاته البارزة، ويعكس الصورة النمطية للقديسين الذين ينبغي أن تصادر أرواحهم الأجساد. «سلفاتوري موندي» أو «مخلّص العالم» التي اشتراها بضعة أميركيين عرف واحد منهم فقط تعرض بعد عملية ترميم مكثّفة وتأكيد خبراء في عصر النهضة أنها من دافنشي حقاً. يبدو الناصري فيها وهو يبارك بإصبعيه وينظر مباشرة إلى الناظر بعينين زائغتين. أحسّ البعض أنه يباركهم شخصياً في حين نفر آخرون منها، ووجدوها غريبة ومخيفة. في «العذراء المرضعة» بصمات الفنان المعروفة من استدارات دقيقة وشعر شفاف ملتف، لكن ذقن العذراء يكاد يلامس ثديها، وفوق رأس الطفل الرضيع نافذة تبدو السماء منها إشارة إلى دعوته. تلفت الرسوم بدقتها وحرصها على التفاصيل، وكثير منها يضاهي بعض اللوحات جمالاً.
ولد ليوناردو (1452 - 1519) ابناً غير شرعي لموظف وفلاحة من فلورنسا. عاش في بلدة فنشي التوسكانية، وانتقل في مراهقته إلى فلورنسا حيث تتلمذ على أندريا دل فيروكيو، صاحب أحد ستديوات الفن البارزة هناك. أنهى الدراسة في ست سنوات، أي نصف المدة العادية، وحين أضاف ملاكاً جميلاً إلى لوحة لفيروكيو قرّر هذا هجر الرسم وفق جورجيو فاساري لأن طفلاً بزّه. رغب في رسم كل أشكال الطبيعة ومعرفتها، واستطاع وصف لسان نقّار الخشب وفك التمساح فتراجع إنتاجه. كان مفكراً بصرياً بخلاف زملائه الذين لم يبالوا بالفلسفة الطبيعية وتركوها للعلماء. كتب في يومياته عن يأسه وحب من طرف واحد ولهفته إلى حياة مختلفة. حين طلب البابا من الحاكم لورنزو دي ميديتشي اختيار بضعة فنانين للمساعدة في رسم كنيسة سيستين في روما كان طبيعياً أن يكون ليوناردو بينهم. لكن الحاكم أوفد بوتيتشيلي وغرلاندايو، وحين طلب منه الذهاب إلى ميلانو كمبعوث موسيقي قرّر العيش هناك بدلاً من الزيارة. حين وصلها وهو يحمل قيثارة في شكل رأس حصان صمّمها بنفسه، أدرك الحاكم سفورزا المفتون بالنابغين أنه أمام نابغة. كان طاغية أحب الفن واهتم بالتغيير الثقافي، وأُسر ليوناردو بالمدينة ذات الطابع القرن أوسطي التي عارضت فلورنسا الحديثة.
مودي بيطار
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد