العالم الكافكائي لجمع المعطيات

09-11-2013

العالم الكافكائي لجمع المعطيات

الجمل- جيلبرت ميرسيير- ترجمة: د. مالك سلمان:

في العالم السريالي الذي نعيش فيه, صار الواقع أغربَ من الخيال. كان من الممكن لممر المعلومات الضخم أن ينتج عالماً شفافاً تماماً, لكن شبكة "الإخوان الكبار" السرية الحكومية والتنفيذية قد أحاطت نفسَها بطبقات من القتامة والسرية والخداع. وفي هذه الأثناء, يتعرض المواطنون العاديون للاختراق والتعرية حيث أصبحوا كتباً مفتوحة لمنظمات مثل "وكالة الأمن القومي" الأمريكية والمؤسسات التي تدير محركات البحث في وسائط التواصل الاجتماعي. وفي إحدى الحالات, تم ذلك باسم الأمن ومنع الهجمات الإرهابية, وفي حالة أخرى باسم التجارة. أصبح الواقعي والخيالي متداخلين إلى درجة أصبحت معها بُنى الأحلام أكثرَ منطقية من الأحداث الراهنة. وكأن الواقع عالق, مثلَ ذبابة في بيت عنكبوت, في شبكة بنية افتراضية كابوسية وغرائبية. وربما تتمثل الطريقة الأفضل لفهم هذا الواقع المشكل من عدة طبقات – متصلة بشكل مفرط ومنفصلة بشكل متناقض – في الرجوع إلى الأدب التخييلي, وخاصة أعمال فرانتز كافكا.

الواقع أغرب من الخيال
يتمثل السياق العام لروايتي "المحاكمة" و "القلعة" – اللتين شرعَ كافكا في كتابتهما قبل قرن من الآن – في استكشاف القمع الناتج عن قوة غامضة وفي تغريب الأفراد. ففي كلتا الحالتين تبدو بنية القوة قاتمة و منفصلة عن ضحاياها. إن أروقة مركز اعتقال خليج غوانتانامو تتصادى مع رواية كافكا, "المحاكمة": يتم اعتقال الناس من قبل سلطة نائية لا يمكن الوصول إليها بينما لا يتم الإفصاح عن الجرائم المزعومة للشخص المعتقل, أو الجمهور, أو القارىء. ففي رواية "القلعة", يركز كافكا على الاغتراب بصفته أحد نتائج البيروقراطية. تصارع الشخصية الرئيسة, التي تتم الإشارة إليها بالحرف "ك", في مهنتها في مسح الأراضي, بهدف الوصول إلى هذه القوة الغامضة التي تقيم في قلعة تحكم القرية القابعة تحتها. يتصرف "ك" كمراسل يحاول كسرَ قتامة هذه القوة والكشف عن طبيعتها الخداعة. كتب كافكا: "كل ما فعلته السلطات هو حراسة المصالح النائية واللامرئية لأسياد نائيين ولا مرئيين." يمكن لضباب هذه القوة المنتشر أن ينطبق بسهولة على قرار "وكالة الأمن القومي" القسري – سواء كان مفوضاً من السلطات الأعلى أم لا – بالتجسس على أكثر من 35 زعيماً عالمياً. وكما يحدث في رواية "القلعة", كان بمقدور "السلطات" الغامضة التي تتكون من طبقات عديدة والتي تدير عالمنا, والتي لا تعني أولئك الدُمى الذين يتم عرضهم أمامنا على الملأ, أن تقول إن "أحد المبادىء العملية للسلطات هو أن إمكانية الخطأ لم تؤخذ بالحسبان ... هناك وكالات تحَكم, لكن الهدف منها ليس إيجاد الأخطاء, ... بما أن الأخطاء لا تحدث, وحتى في حال حدوث خطأ, ... فمن يستطيع في نهاية الأمر أن يقولَ إنه خطأ," كما كتب كافكا.

نشر الرُهاب واليأس
كتب كافكا في روايته "المحاكمة": "على المرء أن يتوخى الحذر, مهما بدا ذلك شاذاً, ويحاولَ أن يفهمَ أن هذه المنظمة الهائلة تبقى في حالة من التوازن الدقيق, وأنه إذا أخذ أحدٌ ما على عاتقه مهمة تغيير الأشياء من حوله, فإنه يجازف بتدمير مكانته ووجوده بينما تعمل المنظمة, ببساطة, على تقويم نفسها عبر بعض ردود الفعل التعويضية في جزء آخر من آلية عملها – بما أن كل شيء مترابط مع بعضه البعض – بحيث تبقى كما هي عليه دون أي تغيير إلا في حالة تصبح معها – وهذا ممكن جداً – أكثرَ تصلباً وقسوة ووحشية."
إن المنطق الذي يعبر عنه كافكا في النص أعلاه يبدو وكأنه المبدأ الحاكم لأولئك المرضى النفسيين الذين يديرون إعلامَ الحكام. فمن خلال حَلبِ قصة "وكالة الأمن القومي – سنودن" والتلاعب بها, تعمل وسائل الإعلام على الترويج للسلبية والعطالة. إذ تبث شعوراً بالعجز واليأس, وليس فكرة إمكانية فعل شيء ما. يتم تضخيم الخوف والرُهاب لجعل الناس يعتقدون أن محاربة وحش مجهول منظم ضربٌ من العبث الخالص.

الضحية بصفته بطلاً
صحيح أن مسربينَ من أمثال أسانج وسنودن ومانينغ وشوارتز ليسوا خوَنة, إلا أنه من الصعب أن ننظر إليهم على أنهم بطوليون. إذ يقبع أسانج في قفص ذهبي في سفارة الإكوادور في لندن؛ كما أن سنودن هربَ من بلاده بحثاً عن لجوء سياسي في روسيا؛ ومانينغ مدَمر نفسياً ومسجون؛ أما شوارتز فقد انتحر. يشكل هؤلاء الأربعة نوعاً من الإعلان الذي يقول: "انظروا ماذا يحدث لكم إن أنتم عارضتمونا." إن الأبطال, شريطة ألا يكونوا "كليشيهات" سينمائية, يتغلبون على الأنظمة التي يحاربونها ولا يقعون ضحايا لها. لقد كان شارل ديغول, الذي قادَ "المقاومة", آخرَ الشخصيات البطولية في فرنسا. ويمكن أن يكون نلسون مانديلا و فيديل كاسترو آخر الأبطال الموجودين في سياق الأبطال الحقيقيين في عصرنا هذا.
إضافة إلى ذلك, تتطلب هذه الأوقات نضالاً جماعياً إستراتيجياً. فعلى سبيل المثال, كانت "ويكيليكس" أكثرَ قوة قبل أن يصبحَ أسانج شخصية عامة معروفة. إذ إن هذه الشبكة المجهولة تستمد قوتها من عملها تحت الرادار. فلا يمكن مواجهة نظام منتشر على شكل واسع ومتشابك بشكل معقد وكتيم من قبل أفراد. إذ يتم إرغام الأفراد بسهولة على عقد صفقات, أو استهدافهم وتصفيتهم.

"وكالة الأمن القومي" و مراقبة وجمع المعطيات عبر محركات البحث ووسائط التواصل الاجتماعي:
هناك تناقض كبير وصارخ في هذا كله. إذ إن برامج تخزين المعطيات أو مراقبتها, سواء كانت عامة أم خاصة, تريد أن تعرف كل شيء عنكم, لكنها لا تريد أن تعرفوا أي شيء عنها. فمن جهة, تقوم بالتفتيش في أدق تفاصيل حياتنا – ضد رغبتنا, كما هي حالة "وكالة الأمن القومي", ولكن مع تعاوننا النشط في حالة وسائط التواصل الاجتماعي – ومن جهة أخرى, تريد أن تحافظ على أكبر قدر ممكن من الكتمان فيما يتعلق بسبب قيامها بذلك وكيفية القيام به. وتبعاً للمدافع المرير عن "وكالة الأمن القومي", بول روزنزفيغ, وهو الأمين المساعد السابق لشؤون السياسة في "قسم الأمن الوطني", "الكثير من الشفافية يدمر الهدف من الديمقراطية".
يكتب روزنزفيغ, الذي يؤيد تماماً العمل المزدهر للأمن الخاص ومراقبة وجمع المعطيات: "في مجال مراقبة المعطيات الجديد, يجب على شكل المراقبة أن يتنوعَ تبعاً إلى ضرورة الشفافية والتعتيم بالنسبة إلى القوى الجديدة المفوَضة. إن السماحَ بنوع من المراقبة حيوي لضمان حماية المصالح الأمريكية. أما السماح بكشف مصادرنا وطرقنا بشكل كامل فهو خطير ويمكن أن يتم استخدامه من قبل الإرهابيين". وبصفته رئيسَ "الفرع الأحمر الاستشاري" (وهي شركة استشارية أمنية-وطنية) ومستشاراً أعلى ﻠ "مجموعة تشيرتوف", يمثل بول روزنزفيغ "نخبة" الأمن الخاص وجمع المعطيات. إن تشيرتوف وروزنزفيغ وشركاءهم مخيفون, من كافة النواحي, أكثر من "وكالة الأمن القومي", لأنهم غير خاضعين للرقابة والمحاسبة العامة.
إذا كان العمل الخاص للأمن وجمع المعطيات يَشي بنكهة "الأخ الأكبر" الفاشية, إلا أن الشبكات الاجتماعية, التي تبدو ودودة و "حميمة", تقوم بالتجسس لصالحها الخاص وتتعاون مع السلطات. فقد دُهش البعض عندما تم الكشف عن تعاون الشبكات الاجتماعية مع الشرطة أو "مكتب خدمات الإيرادات الداخلية". ومن السذاجة أن يعتقد المرء أن هذه الشبكات لن تتعاون مع مثل هذه السلطات. ففي نهاية المطاف, وسائط التواصل الاجتماعي هي عبارة عن شركات, وبصفتها هذه فالمطلوب منها أن تحافظ على الوضع القائم. في يوم السبت, 26 تشرين أول/أكتوبر, تظاهرَ الآلاف في واشنطن العاصمة ضد برنامج المراقبة التابع لوكالة الأمن القومي في مهرجان تحت اسم "توقفوا عن مراقبتنا". وليس من الضروري القول إنه من السذاجة أن نتخيل أن "هؤلاء" – مجموعة لويَثان "الأخوة الكبار" المكونة من "وكالة الأمن القومي" و "مجموعة تشيرتوف" و محركات البحث وشبكات التواصل الاجتماعي – سوف يقلعون عن مراقبتنا. لن يتوقفوا عن المراقبة لأنه مطلوب منهم أن يراقبوا. ما يمكن للناشطين السياسيين أن يفعلوه هو أن يراقبوهم, ويرفعون لهم "البعصة" من وقت إلى آخر, وفيما يخص وسائط التواصل الاجتماعي يمكنهم أن يؤسسوا الشبكات الإعلامية الاجتماعية المستقلة الخاصة بهم.

http://www.counterpunch.org/2013/10/30/the-kafkaesque-world-of-data-mining/

تُرجم عن ("كاونتر بنتش", 30 تشرين أول/أكتوبر 2013)

الجمل

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...