الغلاء في سوريا: لعبة التجار
تقترب سيارة الخضار والفواكه من مكان توقفها المعتاد، كما هي الحال مرتين أو ثلاثا في الأسبوع. خطوات الراغبين بالشراء، من سيدات ورجال وأطفال، ليست مستعجلة، وتعاين حمولة الشاحنة الصغيرة المصفوفة بصناديق تظهر محتوياتها من الرمان والبرتقال والبندورة والخيار والكزبرة والجرجير وغيرها من المنتجات الخريفية.
أولاً السؤال: كم هي الأسعار المتفرقة؟ وغالبا ما يتبع السؤال جدل تتراوح حدته بين يوم وآخر، وذلك تبعا لحجم الارتفاع الحاصل في السعر. يدافع صاحب الشاحنة عن كونه وسيطاً في هذه العملية، فهو يحصل على المنتج من بائع الجملة في سوق الخضار الرئيسي، لا من المزارع. بعض المزارعين هم أيضاً من بين زبائنه حين يسألونه كيف وصل إليه كيلو البندورة بـ200 ليرة سورية و «نحن نبيعه بـ80 مثلاً».
يدفع البائع كتفيه، «لعبة التجار.. جديدة عليك؟».
امرأة تغير رأيها بطبخة اليوم المقترحة، بعد مشاهدة سعر الباذنجان بـ170 ليرة، وهو ما يعني حاجتها لما يقارب 800 ليرة لانجاز وجبة غداء اليوم. يعترف كثيرون بأن وجبة واحدة تتصدر طاولة الغداء اليومي. لم يعد تنويع صحون المائدة ممكناً. صحن السلطة يكلف ما يقارب 800 ليرة إذا كان لأربعة أشخاص. وهذا يعني غداءً منزليا تقارب تكلفته 1600 ليرة بمعدل وسطي، بما يعني أن متوسط دخل الوالدين معاً، في حال كانا من موظفي الدرجة الأولى، وهو 60 ألفاً، يذهب 80 في المئة منه لوجبات الغداء من دون النظر إلى المصاريف الأخرى. والتي لا تقل قسوة وبينها النقل، الذي تضاعفت أجوره عشرات المرات. ومن أمثلته أن رحلة كانت تستهلك من المواطن 10 ليرات في العام 2010 باتت تستلزم مئة الآن. أوقف الموظفون سياراتهم، وغطوها بأشدرة مشتراة من مؤسسات الإغاثة الأممية وانتقلوا لركب الحافلات العامة أو الخاصة، بغية توفير 20 في المئة من تكلفة النقل اليومي. ويشبه المشهد مشهداً كنا نراه في الثمانينيات يتذكر أحد الموظفين، حين كان امتلاك سيارة أمراً نادراً، بل وتعيقه الدولة لاعتبارات حزبية وسياسية. كانت الناس تنتظر «فلان ابن فلان» لكي يستيقظ ويحلق ذقنه ويدير محرك سيارته ليستأذنوه بإيصالهم «على طريقه» إلى وجهتهم.
وبات المشهد يتكرر، أمام منزل من لا زالت مقدرته المادية تسمح له برحلة يومية في السيارة لمكان عمله. كما لم تعد اللحوم تستهلك كما كانت سابقاً، والكثير من العائلات باتت تركز على استهلاكها في المناسبات، ولا سيما الأعياد التي لا تتكرر كثيراً، الأمر ذاته ينطبق على الفواكه، التي لم تعد طبق ضيافة أساسيا في المنازل كما هي العادة الاجتماعية. «الناس ضيفت الاكيدنيا الصيف الماضي. لأنها تنمو في دار البيت ومجانية». وسابقاً كان وضع الاكيدنيا وحيدة إلى جانب فنجان قهوة الضيف، يعتبر مخجلاً إلى حد ما.
وأجبر الوضع الذي لم يزدد إلا سوءا، الناس على محاولة تأمين بدائل. فلجأ من يمتلك سبيلاً، ولا سيما أهل القرى إلى زراعة حدائق بيوتهم، وذلك بما هو ممكن من المنتجات التي توفر عليهم الإنفاق على شرائها،، ومحاولة إنتاجها وتخزينها للشتاء.
إلا أن هذا ليس سهلاً هو الآخر، إذ واجهت الناس الصيف الماضي أزمة الكهرباء، وصلت فيها ساعات التقنين في بعض المناطق إلى 18 ساعة، وهو ما يعني في ظل موجة الحر العالية التي واكبته رمي ما في الثلاجات في سلل القمامة أو استهلاكه فوراً.
القمامة بدورها، وللمفارقة لم تقل بل زادت، فبالرغم من قلة الاستهلاك، ظلت القمامة تنمو، وأصبحت المكبات تشكل مشكلة بالنسبة للمناطق المأهولة القريبة منها. والسبب وفقاً لمبررات البلديات، عدم توفر مادة المازوت التي تسمح بنقل القمامة من أمام المنازل إلى المكبات المؤقتة ومن ثم إلى أماكن أخرى. وكما هو معروف لا تقتصر أهمية المازوت على النقل، في سوريا.
وهو كان يشكل السند الرئيسي في قطاع التدفئة قبل الحرب، إلا أن عدم توفره شتاءً وارتفاع سعره بما يزيد عن 100 في المئة، دفع الغالبية العظمى من المواطنين للجوء لبدائل أخرى بين أبرزها التدفئة على الحطب، وهو ما قاد إلى أزمة أخرى تمثلت في تحطيب البساتين والأشجار المثمرة وحتى أشجار الحدائق في بعض المناطق، وبالطبع ارتفع سعر طن الحطب بسبب زيادة الطلب.
والحديث هنا يجري عن مناطق سيطرة الحكومة، لا تلك التي تقع تحت الحصار في عمق البلاد أو وسطها، أو تحت إدارة معارضة تمتلك منافذ حدودية كما مع تركيا. وبالنسبة للأولى تصل أسعار المواد إلى أرقام خيالية. ويعادل أحيانا سعر المادة عشرة أضعاف سعرها الموجود في السوق الطبيعية، فتصل قنينة الزيت إلى 4500 ليرة في بعض المناطق، وكيلو الأرز والسكر إلى خمسة آلاف ليرة، واللحمة إلى سبعة آلاف. وهذا المثال من مدينة دير الزور التي يحاصرها تنظيم «داعش»، لكنه ينطبق تماماً على المناطق التي تحاصرها القوات الحكومية أيضا، كما في دوما في الغوطة الشرقية على سبيل المثال، ويصبح أكثر درامية في مناطق حامية كمضايا التي وصل سعر كيلو الأرز فيها إلى 15 ألف ليرة، وفق ما يتداوله ناشطون.
وبالنسبة لتلك المناطق، يتمثل الحل بفك الحصار، والذي يسمح بحركة طبيعية للمنتجات والبضائع، والتي يمكن لأسعارها أن تنخفض نسبيا أيضا مع تقليل عدد الحواجز العسكرية التي تربط بين المناطق المختلفة، لكن من دون أن يعني هذا أن السوريين سيتمكنون من الزهو مجدداً بأن بلادهم التي كانت من أرخص بلدان العالم، ستعود كما كانت. على الأقل بالنسبة للمواطن الذي يتقاضى راتباً محلياً لن يكون هذا منظوراً.
زياد حيدر
المصدر: الأخبار
إضافة تعليق جديد