الفرعون الأخير: السيرة الكاملة لمحمد علي باشا
ولد جيلبير سنيويه في القاهرة عام 1947، وحاز على جائزة باعة الكتب، وفي عام 1966 على كتاب «الياقوت الأزرق»، ثم نشر عام 1987 كتاب «الأرجوان وشجرة الزيتون»، وفي عام 1989 نشر كتاب «ابن سينا أو طريق أصفهان» كما نشر عام 1991 كتاب «المصرية» ثم عام 1993 كتاب «بنت النيل».
وصل تاجر تبغ تركي من أصل ألباني، ولد في كافلا في مكدونيا، الى شواطئ النيل، وأصبح ضابطاً في جيش السلطان العثماني، وأرسل الى القطر المصري على رأس ثلاثمئة من المرتزقة الألبانيين، لكي يشارك في النضال ضد جيش بونابرت، وبعد كارثة «أبو قير» 1801، نراه يتولى رئاسة المجموعة المقاتلة القادمة من ألبانيا، ومنذ عام 1803، كانت السلطة في مصر متقاسمة بين المماليك والألبانيين ذاك الذي قد أصبح بنباشي، يعتمد في قوته على الاستناد الى الشعب المصري.
كان هناك عاملان ثبتا سلطة الباشا الجديد، أولاهما وجود عساكر الفرنسيين الذين كان يخشاهم الباب العالي، والثاني وجود القوى البريطانية، هذان الجيشان موجودان داخل مصر، ولولاهما لما تمكن أن يغدو فرعونها الحقيقي. ويضاف الى هذه الأحداث، إعجاب أساسي بالامبراطور نابليون، وجاذبية خاصة لحضارة فرنسا. وقد جعلته هذه الاستعدادات يستند الى فرنسا في كل المجالات تقريباً، لكي يحول أرضاً طالما استعبدت الى مصر جديدة منتجة، تشعر بهويتها الوطنية.
يجسد محمد علي، أعجوبة مصر أو معجزتها، بمساعدة أبنائه، وعلى رأسهم ابراهيم أكثرهم تميزاً، فيقود المعركة من السودان حتى جبال طوروس ويفتح سورية والحجاز، ويضعف بأمر من السلطان من شأن الوهابيين، ولما كان مراقباً رقابة عنيفة، لاسيما من انكلترا وروسيا أيضاً، فإنه لم يستطع النظر الى الوضع المتردي للفلاح، إلا أنه استطاع أن يجعله يرفع رأسه، من خلال يقظة بلده، ويخطط له إصلاحاً زراعياً، وجدّد ما لديه على كل المستويات العسكرية والعلمية على حدّ سواء، ولم ينسَ القضايا الزراعية والقانوية والصحية والمالية والتجارية، خدمة لهذا البلد.
إن الامبراطورية التي أسسها من الخليج حتى صحراء ليبيا، ومن السودان الى البحر المتوسط، تعادل عشرة أضعاف مساحة فرنسا، ونصف أوروبا، عندما أوشك على الموت، كانت هذه الامبراطورية تتسلل من بين يديه. كما يقول جيلبير سينويه، وهذا ما جعله يتابع حتى الموت تلك المغامرة اللامعقولة، لرجل كافالا، الذي ذهب ورثته الى حدّ الادعاء بأن مصر لهم بحكم الوراثة.
يقدّم لنا سينويه بطله، كما لو أنه في آن واحد يملك هيبة الأسد، إنه يملك الحيلة والمهارة العظيمة التي يملكها الثعلب، وكان شديد الاحترام والانتباه لزوجته الأولى أمينة خانم المثالية، وأباً حريصاً على أولاده الثلاثين، وكان سيداً حسن المجاملة وفيّاً لوعوده رغم كونه مفعماً بظمأ السيطرة والحذر، ولكنه متسامح، فقد كان المسيحيون في عهده يُعاملون معاملة المسلمين، ومع أنه شديد التأثر فقد استطاع أن يتحمل آلام مذبحة المماليك، وأن يستنكر خلع ملك صديق، كما جرى للملك لويس فيليب.
وكانت لديه صراعات كثيرة في الخارج والداخل، تملأ أوقاته، ولكنها لم تقف دون حماسته لإصلاحاته، وكان المختصون بالآثار يشددون اللوم على اختفاء جدران قديمة، كان من بينها كنيسة إيلغانتين الصغيرة التي دفنت تحت قواعد مصنع للسكر، كان إنشاؤه صناعة جديدة أدخلها هو حديثاً الى مصر.
وكذلك فإنهم يشعرون بأعمق الأسى، بسبب الكارثة التي يفترض أنها أنقذت في آخر لحظة، وهي تدمير أهرامات الجيزة الضخمة لاستخدامها في إنشاء سد القاهرة.
ويستمد من أرض لا غابات فيها، بحرية كبيرة، ويؤسس مدارس ومشافي وصناعات وترسانة وجيشاً هو من أكبر جيوش الشرق¾ ويستورد أوائل المكنات البخارية، ويهب مصر، فوق ذلك ما طوله 77كم من الأقنية، يدخل البرق الهوائي، ويقوم بزراعة أكثر من مئة ألف شجرة زيتون، وعشرة ملايين شجرة توت على حدود الصحراء، وفي قمة حكم دام ما يقرب من خمسين سنة، يكون قد أنشأ الخرطوم ووصل الى أبواب استنبول، وهز السلطنة العثمانية في أسسها، ووقفت أوروبا كلها تنظر الى ما يفعل.
إن محمد علي عرف كيف يحسن استقبال شامبليون ويحمي له حملته النوبية، وكان إعجابه الشديد بذلك الإنسان الذي عرف كيف يكتشف طريقة قراءة الخط الهيروغليفي، سبب تكليفه بكتابة التاريخ الأول لمصر الفرعونية، عندما أقنعه هذا بضرورة حماية الآثار القديمة التي قد تصاب بأخطار التدمير.
فبالاعتماد على مسلات فرعون مصر العظيم، رعمسيس الثاني، حرص محمد علي، على الاعتراف بالجميل للبلد الذي أتاح له أبناؤه أن ينشئ مصر الحديثة، وهكذا فإن مساحة ساحة الكونكورد استطاعت أن تحيي في باريس الذكرى المتوءمة للفرعونين الكبيرين رعمسيس ومحمد علي.
وفي عام 1846 أيضاً قرر الباشا أن يستجيب لدعوة ملكه، والذهاب لزيارة الأستانة، واستقبله عبد الحميد باحترام وفخفخة، ولكنه عندما رأى هذا الرجل المكتهل الهزيل الجسم والمنحني الظهر بحكم العمر، زهد به بسرعة كبيرة وعبثاً يطيل محمد علي إقامته في البوسفور. وكان محزناً وباعثاً على خيبة الأمل أن يطل عن طريق البحر، على مرفأ طفولته، أي كافالا، في مكدونيا.
وفي 2آب 1849 ظهراً، جاء الموت يقرع الباب على الفرعون الأخير، وعندما نُقلت جثته الى القاهرة، على ظهر مركب بخاري استخدم قناة المحمودية التي شقّت بأمره، قبل ما يناهز الثلاثين سنة، ثم سارت في النيل. وفي 4آب، وضع نعش محمد علي، في مسجد القلعة حيث أراد هو أن يعين مكان قبره، وقد تم الدفن بلا موكب ولا مرافقة عسكرية: وهذا ما أمر به عباس.
ـ تأليف: جيلبير سينويه
ـ ترجمة: حافظ الجمالي
ـ منشورات وزارة الثقافة السورية 2005
ـ 624صفحة قطع كبير
فيصل خرتش
المصدر: تشرين
إضافة تعليق جديد