الفضـائيـات الإخبـاريـة العربيـة: يــا فرحـة مـا تمَّـت
عندما اجتاحت إسرائيل لبنان العام ،١٩٨٢ كانت إذاعة »لندن« تبلغ من عمر بثها العربي ٤٤ عاماً. في حين كانت سنوات عشر قد مرت على بدء البث العربي لإذاعة »مونت كارلو«. وقتها، كان على المستمع العربي في ظل غياب إعلام محلي حقيقي، أن ينتظر نشرات أخبار الإذاعتين العالميتين، وتقارير مراسليها في الحرب وتحليلاتهم، ليعرف أخبار أقرب المناطق الجغرافية إليه. وقد بدا مستسلماً لمصداقية ما تسوقه له هاتان الإذاعتان بأي شكل من الأشكال.
بعد نحو ربع قرن، وعندما بدأ العدوان الإسرائيلي على لبنان في تموز ،٢٠٠٦ كانت أمور كثيرة قد تغيرت في علاقة الإنسان العربي بإعلامه. فلم يعد شعار »مع الحدث وغالباً قبل الحدث«، والذي كانت »مونت كارلو الدولية« قد رفعته، ذا معنى كبير بعد ظهور القنوات الفضائية الإخبارية العربية. فهذه الاخيرة جعلت جمهورها جزءاً من الحدث عبر البث الفضائي الإخباري، لا سيما أسلوب النقل المباشر . الأمر الذي جعل معارك كتلك التي جرت خلال »حرب تموز« تتعدى موقعها الميداني الحربي لتصبح معركة ذات صدى لدى المشاهد والرأي العام.
وبخلاف النظر إلى نتيجة الحرب الفعلية على الأرض، كان الانطباع الذي تركته وسائل الإعلام عن حقيقة ما حدث هو الأهم. ولعل في استمرار قناة »المنار«، مثلاً، في البث رغم غارات سلاح الجو الإسرائيلي التي دمرتها، ما استدعى من الرأي العام إعادة حساباته في تقدير قوة حزب الله.
وإن كانت »المنار« جزءاً من المعركة، إلا ان الفضائيات الإخبارية العربية خاضت »معاركها« الخاصة، فأخذ بعضها على عاتقه بناء »تصورات« الرأي العام عن عدوان تموز. عبرت الفضائيات، كل واحدة بتبعيتها لجهة سياسية، عن الانشقاق اللبناني والعربي حول شرعية خطوة أسر الجنديين الإسرائيليين. فبثت قناتي »المستقبل« و»إل بي سي« خلال الأيام الأولى للحرب صوراً للقوات الإسرائيلية وهي تتقدم على أراض قيل إنها لبنانية..! ما أوحى، خلافاً للحقيقة التي اعترف بها الإسرائيليون، أن الحرب انتهت لمصلحة العدو.
وبينما كانت قناة »الجزيرة« تبث صور ما يحرزه حزب الله من انتصار على الأرض، كان المشاهد لشاشة التلفزيون السوري يعتقد أنه القناة التوأم لمحطة المنار، بسبب الصورة التي واصل بثها مدار الساعة وخلفياتها التي ازدانت بأعلام حزب الله. في حين لم يجد مراسل »العربية« في لبنان خيراً من التذكير بـ »الخسائر الكبيرة التي وقعت في لبنان، وكان من الممكن تفاديها«.
والصورتان المتناقضتان السابقتان، تستطيعان أن تعطيا فكرة عن قدرة »الإعلام« أن يربحك معركة أو يخرجك خاسراً منها. وفي كل الحالات ان يضلل المشاهد.
هكذا صار المشاهد قبلة النوايا التلفزيونية، تتلاعب به الفضائيات الإخبارية، فتصوغ توجهاته وفق مصالح أصحابها، وتمنح لنفسها الحق في تجييشه مع طرف سياسي ضد آخر! ومع تراجع أولويات المهنة لمصلحة التيارات السياسية التي تقف خلفها، كان من الطبيعي أن تستعيد عدد من القنوات اللبنانية ذكرى الحرب من بوابة »الخسائر الاقتصادية والبشرية التي تكبدها لبنان جراء العدوان«، مغفلة ذلك الصمود الأول في تاريخه والذي يلهج به العدو ككابوس، وأن يضيق »زووم« كاميراتها التلفزيونية فلا يبصر الا مشاهد الدمار، على أنها نتائج »المغامرة غير المحسوبة« لحزب الله. في حين تغيب الأصوات المحايدة عن الشاشات كلها.
ومن ينسى مراسل »العربية« في الذكرى الأولى للحرب يؤكد أنه »كان من الأجدى للبنان ألا يدخلها«. لا سيما أنه »كان يعدّ العام الماضي لحصد مئات الملايين من الدولارات من نحو مليوني سائح يفترض دخولهم مناطق الاصطياف اللبنانية«، في وقت لن تجد قناته »العربية« في مقاومة حزب الله للعدوان الإسرائيلي وصموده لثلاثة وثلاثين يوماً، سوى.. أسرى الحزب في إسرائيل. فتسارع إلى بث لقاءات معهم، خص به الإسرائيليون القناة السعودية، قبل يوم من ذكرى الحرب. اما »الرأي والرأي الآخر«، فلقد سمح لـ»العربية« ان تمنح »أولمرت« فرصة التوجه مباشرة للرأي العام العربي عبر شاشتها في لقاء مع مراسلها في القدس بمناسبة الذكرى الأولى للحرب.
بالتأكيد كانت للحرب ضريبتها المؤلمة، ولا سيما لجهة خسائرها البشرية. ولكن الضريبة الأكثر إيلاماً ربما، كانت نتيجة تلك المعركة التي دخلتها الفضائيات الإخبارية العربية من أجل كسب تأييد رأي عام عبر التلاعب بالمعلومات والأخبار الموجهة له. فقد أصرت أن تجعل من انتصار حزب الله هزيمة. وجاء تقرير »فينو غراد« ليسقط عنها ورقة التوت، ويعلن هذه المرة هزيمتين: الاولى لنفسه عسكريا، والثانية لموضوعية غالبية وسائل الإعلام العربية. وإن كانت الهزيمة الأولى تفرحنا، فإنه لا تفك مرارة الثانية إلا عودة المستمع العربي إلى إبرة المذياع بحثا عن إذاعتي »لندن« أو »مونتي كارلو«.
ماهر منصور
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد