النص الأدبي عندما يتقاسمه الكاتب والقارئ

12-06-2008

النص الأدبي عندما يتقاسمه الكاتب والقارئ

تتمحور اشكالات القراءة والتأويل، على اختلاف مناحيها، واختلاف النظريات التي تناولتها بالتحليل حول قضيتين مركزيتين: تتعلق القضية الأولى بطبيعة المعنى في النص، أو العمل الأدبي، وتتعلق القضية الثانية بمسألة الفهم والادراك والتأويل، أو مسألة العلاقة بين الذات المؤولة والنص موضوع التأويل.

هذه الاشكالات لم تطرح بحدة مع النقد الألسني والسميولجي الذي غاص في البحث عن النص من حيث هو كيان منغلق على ذاته، ومكتف بحضوره الآن وهنا. وإنما طرحت مع التحول الذي عرفه توجه النظرية والنقد الغربيين، على أيدي منظري جمالية التلقي في نهاية الستينات.

سجّل التحول تاريخياً مع بداية طرح أسئلة من نوع: هل يمتلك النص وجوداً متحققاً وملموساً من دون تدخل الذات الواعية؟ أم أن هذه الأخيرة هي التي تخرجه الى حيز الوجود؟ وهل المعنى الناتج، جوهري ومستقل عن تدخل الذات المؤولة التي تنجزه أم أنه مشروط بمشاركتها ثم ما نوع العلاقة التي تربط بين العمل الأدبي ومؤلفه؟ هل من الممكن أن يتساوى القصد العقلي للمؤلف مع ما يثيره النص من معان وقضايا؟ أم أن النص لا يمكنه أبداً أن يتطابق مع مقصاد مؤلفه؟

هذه التساؤلات التي ترتبط بالفهم والتأويل والادراك، شكلت المسألة الاساسية للخلفية المعرفية المنبثقة من الفلسفتين المعروفتين وهما الهرمينوطيقا والفنومنولجيا التي تأسست بوحيهما نظرية التلقي، وشغلت المفكرين والباحثين في الشرق والغرب، ومن بينهم الكاتب الجزائري عبدالكريم شرفي في كتابه الصادر عن الدار العربية للعلوم بعنوان «من فلسفات التأويل الى نظريات القراءة».

يعود الفضل في اطلاق الهرمينوطيقا أو علم التأويل الى المفكر الألماني شلايرماخر الذي عمل على توجيه المنهج الهرمينوطيقي الذي كان يعمل على النصوص الدينية باتجاه النصوص الدنيوية. ذلك أن النصوص الدنيوية كالنصوص الدينية كتابات كتبها بشر من أجل البشر، ولذلك فإن تأويلها يجب ان يخضع الى مبادئ تبين فضاء المعنى الذي يمتد بين المتكلم والمستمع. هذه المبادئ في رأي شلايرماخر تنطلق من نظرة خاصة مفادها أن العملية الابداعية، في تفردها وفي ذاتيتها الجوهريين، ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالحياة الداخلية والخارجية للمبدع، ومن ثم فإن النص، باعتباره نتاجاً ابداعياً، لن يكون الا تجلياً لهذه الحياة. ويرى شلايرماخر أن النص يشير من جهة الى استخدام خاص أو منفرد للغة المشتركة، وبالتالي «فلا يمكن فهمه إلا في علاقته باللغة»، ويشير من الجهة الأخرى الى أفكار المؤلف ونفسيته وتجربته الذاتية التي تكمن وراء هذا الاستخدام المخصوص للغة وبذلك يفرض شلايرماخر توجهاً مزدوجاً لعلم التأويل أحدهما نحو اللغة، والآخر نحو الذات المفكرة أو المبدعة، وتغدو المتهمة الأساسية لهذا العلم هي فهم المؤلف وليس فهم النص، أو بالأحرى فهم النص باعتباره تعبيراً عن تجربة المؤلف الحية وعن فهمه للعالم واللغة والأشكال الأدبية.

الهرمينوطيقي الآخر الذي بحث في تاريخية الفهم ومشروطية الوعي المؤول المفكر الألماني غادامر الذي سعى الى تخليص عملية فهم النص من الطابع النفسي الذي وسمتها به رومانطيقية شلايرماخر، وتحويل الاهتمام الى عملية الفهم في حد ذاتها، في حيثياتها الخفية وفي بعدها التاريخي. ذلك أن نقطة البدء كما يرى غادامر «ليست هي ما يجب أن نفعل أو نتجنب في عملية الفهم بل الاهتمام بما يحدث بالفعل في هذه العملية. في هذه الحال لن يكون من الضروري أن نفهم النص كتعبير عن حياة المؤلف وعواطفه، بل يجب علينا، على العكس من ذلك، ان نحاول فهم ما يقوله النص في حد ذاته. بهذه الكيفية، إذاً، يصوغ غادامر أول قاعدة له في النظرية الهرمينوطيقية المعاصرة: «ليس الفهم عملية نقل نفساني، ولا يمكن لأفق معنى الفهم أن يحد لا بما كان يقصده المؤلف، ولا بأفق المرسل اليه الذي كتب النص أساساً من أجله». أما القاعدة الثانية، فمفادها أن المعنى ليس شيئاً ينتمي الى الماضي المطلق بحيث يكون بامكاننا استخلاصه كما هو دون عناء، وبموضوعية خالصة مستقلة عن وضعيتنا التاريخية الراهنة بكل معاييرها ومفاهيمها المسبقة الخاصة، بل على العكس من ذلك». فكل تأويل مرتبط بوضعية ما، وتشكله وتحدده المعايير النسبية تاريخياً في ثقافة محددة». بكلام آخر، إن المؤول لا يمكنه أبداً أن يضع ذاته جانباً وهو يحاول فهم النص وتأويله، وهذه الاستحالة هي بالضبط ما يجعل المعنى نتاجاً لمشاركة المؤول وتدخله الخاص في عملية الفهم. ويخلص غادامر من هذا كله الى أنه لا يوجد أي منهج علمي، أو غير علمي يستطيع أن يضمن الوصول الى حقيقة النص.

ما دام الفهم مندرجاً في الصيرورة التاريخية فإن المعنى سيكون وليد اللحظة التاريخية التي يتفاعل فيها أفق المفسر، وافق النص، وبالتالي فلا يمكن أن يكون ثابتاً، بل متغيراً باستمرار من جيل الى جيل ومن عصر الى عصر طبقاً لتغيير آفاق التلقي ويحارب المتلقين. وسوف يكون تاريخياً بالضرورة كما يؤكد غادامر، لأن الفهم والتأويل عملية مستمرة من الحوار تكشف لنا في كل مرة عن بعد جديد ومختلف من أبعاد الدلالة النصية.

لقد ساهمت النقاشات التي أثارها الهرمينوطيقيون الى حد كبير في بروز عنصر مهم الى ساحة البحث طالما أهملته النظرية الأدبية، إنه المؤول، أو الناقد، أو المتلقي وتفسيره للعمل الأدبي. ولكن هذه النقاشات اذا كانت قد بينت استحالة استقلال الموضوع (أي النص) عن الذات (أي المؤلف) التي تفهمه، فإنهما قد أكدت في المقابل عدم اسبقية الذات على الموضوع، وأنهما كلاهما مشروطان تاريخياً، وبالتفاعل الحاصل بينهما.في السياق نفسه تخلص الفنومنولجيا، التي اهتمت هي أيضاً بعملية فهم النص الأدبي، وتأويله الى أن الموضوعات لا تمتلك أي وجود موضوعي مستقل عن الذات، بل تتحقق دائماً كتجليات أو كظاهرات في وعي الذات المدركة، وعلى النحو الذي تتوجه به هذه الذات، بواسطة أفعالها الواعية، الى هذه الموضوعات وهذا بالضبط ما يسميه هوسرل بالقصدية.

ضمن هذا الاطار الفلسفي يبدو النص الأدبي تجسيداً محضاً لمظاهر العالم والحياة كما تجلت في وعي المؤلف. ويصبح وعي المؤلف الجوهر الموحد لكل عناصر النص وكل مستوياته الدلالية والأسلوبية والبلاغية والشعرية. ولكن لمعرفة هذا الوعي ينبغي أن لا نرجع الى أي شيء نعرفه عن المؤلف، بل نرجع كما يقول هوسرل فقط الى تلك الأوجه من وعيه التي تتجلى في العمل الأدبي ذاته، ونستخلص «البنى العميقة» لهذا الوعي من خلال الثيمات والنماذج التخييلية المتكررة في النص. وبالتقاطنا هذه البنى نلتقط الطريقة التي يحيا بها الكاتب عالمه، والعلاقات الفنومنولجية التي تربط بينه هو نفسه كذات والعالم كموضوع.

إن عالم العمل الأدبي، في نظر هوسرل ليس واقعاً موضوعياً، وإنما هو «عالم الحياة»، أي العالم كما تنتظمه وتختبره فعلياً ذات فردية معينة، ولذلك كان فهم النص يعني فهم الطريقة التي يختبر بها المؤلف المكان والزمان، أو العلاقة بينه وبين الآخرين، وكيفية ادراكه للموضوعات الخارجية.

على عكس هوسرل الذي كرس مركزية الذات الانسانية، فإن تلميذه هايدغر يقصي الذات الانسانية عن موقع الهيمنة الخيالي هذا، رافضاً في الفلسفة الغربية اعتبارها الانسان هو محور الوجود وهو العنصر الفاعل في المعرفة. ذلك ان وجود الذات الانسانية في العالم لا يمكن فهمه وادراكه بكيفية مطلقة ونهائية، بل هو دائماً مسألة امكانات جديدة ممكنة. وهذا يعني في الأخير أن الذات الانسانية ليست مطلقة ومتعالية، كما ذهب الى ذلك هوسرل، بل هي «كائن يؤسسه التاريخ أو الزمن».

إنها ليست شيئاً قد تكثف وجوده واكتمل، ولكنها امكانية مستمرة في الوجود والتحقق». وهكذا فإن الذات الانسانية لا تسبغ أي شيء من ذاتيتها على الوجود بل الوجود هو الذي يكشف لها عن نفسه، الأمر الذي ينعكس على اللغة. فاللغة بحسب هايدغر ليست مجرد أداة للتواصل، بل انها الكيان الحقيقي الذي يأتي بالعالم الى الوجود أصلاً، والمكان الذي يكشف فيه الواقع عن ذاته، وفي هذه الحال فالانسان ليس هو الذي يستعمل اللغة، بل اللغة هي التي تتكلم من خلاله. أما النص الأدبي فهو الوسيط الأنسب لحمل الحقيقة الوجودية والتعبير عنها، والمبدع ليس هو الذي يخلق اللغة والعالم ويبدعهما، بل إنه يقوم بدور الوسيط، من خلاله يتكلم الوجود.

ضمن هذا الاطار الفلسفي، ومن منطلق كون الوجود هو الذي يكشف ذاته بواسطة المبدع الذي يقوم بدور الوسيط أكبر منه بدور الخالق، علماً أن هيدغر كان يرفض التفسير النفسي والذاتي للنص الأدبي، لأن هذا النوع من التفسير يظهر اهتماماً حاداً بعملية الخلق الفني ذاتها، وبشخصية الفنان وحالته النفسية الذاتية المصاحبة لعملية الخلق، ويهمل الصلة الوجودية الأصلية التي تربط النص بالعالم أو بالوجود. أما الفيلسوف الفرنسي سارتر فيرى أن الطبيعة الانسانية تتميز بكونها كاشفة أي أن الانسان هو الوسيلة التي تتجلى بواسطتها الأشياء. ولكن اذا كنا نحن الذين نكشف عن وجود الكائن، فلسنا نحن الذين ننتجه أو نخلقه. وهذا يعني أن اشياء العالم مستقلة عنا في وجودها، وأننا اذا كنا ضروريين للكشف عنها أو عن وجودها، فإننا لسنا ضروريين لوجودها. يقول سارتر في هذا المجال: «يعتقد كانط ان العمل الفني يوجد أولاً وبالفعل ثم ينظر اليه بعد ذلك، في حين ان العمل الفني لا يوجد الا اذا نظرنا اليه، وإنه أولاً وقبل كل شيء نداء محض، والتماس محض لأن يوجد...». كتاب الجزائري عبدالكريم شرقي عمل ناجح في تقريب فكر فلسفي معقد، وأفكار مجردة، وحقل معرفي واسع من القراء العرب. إنه كتاب جدير بالقراءة.

موريس أبو ناضر

المصدر: الحياة

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...