النيوليبرالية: الإيديولوجيا القابعة خلف كل مشاكلنا
تخيل لو أن شعب الاتحاد السوفيتي لم يسمع يوما عن الشيوعية. على نفس الشاكلة لا تمتلك الإيديولوجيا التي تسيطر على تفاصيل حياتنا إسما بالنسبة للأغلبية منا. اذكر اسمها في محادثة مع الأخلاء وستثير سخريتهم منك, وحتى إن سمع أحد منهم عنها سابقا، فسيجدون صعوبة بالغة في تعريفها. إنها النيوليبرالية، هل تعرفون ما تعني؟
إن الغموض الذي يلف كلمة النيوليبرالية عارض ودافع يقف خلف سيطرتها. لقد لعبت دورا محوريا في أزمات عديدة: في الأزمة المالية سنتي 2007- 2008، في تصدير الإنتاج والثروة إلى دول العالم الثالث، والتي قدمت تسريبات بّانامَا نظرة موجزة عن حجمها، في الانهيار المتواصل لخدمات الصحة العمومية والتعليم، وفي عودة شبح فقر العائلات، وفي أمراض التوحد، وفي انهيار التوازن البيئي، وفي صعود دونالد ترامب إلى السلطة. مشكلتنا أننا ننظر إلى الأزمات المذكورة آنفا على أنها منفصلة، غير واعين كما يبدو على أنها تفاقمت جراء تكامل أجزاء فلسفة كاملة، فلسفة كان لها اسم واندثر، هل هناك قوة أكثر فتكا من قوة العمل دون اسم أو هوية؟
لقد اكتملت سيطرة النيوليبرالية إلى حد أننا نادرا ما نلحظ وجودها كإيديولوجيا. يبدو أننا لا نشكك في الطرح الذي يقول بأن هذه اليوتوبيا أو المعتقد الذي يقيم بيننا لزمن ليس بالقصير على أنه يصف قوة اجتماعية واقتصادية وسياسية محايدة، كقانون بيولوجي على شاكلة نظرية التطور لدى داروين. لكن النيوليبرالية كفلسفة قامت على شكل محاولة واعية لإعادة تشكيل الحياة الإنسانية وتغيير نواة السلطة التي تنظم هذه الحياة.
تعتَبر النيوليبرالية بأن المنافسة هي عصب العلاقات الإنسانية. فالمواطن حسب هذه الفسلفة أصبح مستهلكا يمارس خياراته الديمقراطية حسب قوانين البيع والشراء، وهذا مسار يكافئ الجدارة ويعاقب التهاون واللافعالية، ويحاجج في الدفاع عن موقفه بأن «السوق» تنتج فوائد تتعدى قيمتها عائدات التخطيط المحكم.
وتُعتبر محاولة الحد من المنافسة، حسب هذه الفلسفة دائما، مُعيقات تقف في وجه حرية الأفراد، كما ترى على أن الضرائب والقوانين المنظمة للعمل الاقتصادي والتجاري والمالي يجب أن يقتصر وجودها على مواد منظمة مخففة، وتعتبر أن الخدمات العمومية يجب أن تدخل حيز الخوصصة، كما أنها تعتبر تنظيم العمال والجلوس إلى طاولات المفاوضات مع اتحادات العمال عراقيل تقف في وجه تشكل تراتبية طبيعية يشكلها الناجحون والفاشلون. أما اللامساواة فتُعتبر أقصى الفضائل: فهي المنفعة العظمى ومعينا لإنتاج الثروة يغتني منه الغني والفقير على السواء. وتُعتبر كل محاولات خلق مجتمع متساو مُثبّطة للإنتاج واقتراف لأقصى أنواع القرف الأخلاقي. فالسوق وحدها تضمن من سيجني منها ما يستحق.
ونحن نستدمج ونُعيد إنتاج هذه المعتقدات، بحيث يُقنع الأغنياء منا أنفسهم بأنهم يجمعون الثراوت لأنهم يستحقونها، ويتجاهلون الامتيازات كالتعليم الذي يتلقونه، والميراث الذي يرثونه إضافة إلى الامتيازات الطبقية الأخرى، والتي تعتبر حقا مصدرا لثرواتهم. بينما يأخذ الفقراء في لوم أنفسهم على الفشل الذي يُلازمهم، حتى وهم يعلمون أن بإمكانهم فعل القليل بهذا الشأن.
فالبطالة البنيوية، والتي تنتج عن تعويض العمال بالتكنولوجيا الفائقة لا تهم، فإن كنت لا تمتلك وظيفة فالأمر يعود إلى رذيلة الكسل في شخصك، كما لا تهم أثمنة اقتناء المنزل القاهرة، فإن جف حسابك البنكي فالأمر يعود إلى إسرافك وإفلاسك، كما لا يهم إن لم يكن لدى أطفالك ميدان لممارسة الرياضة في المدرسة، فإن زادت بدانتهم فالسبب أنت، ففي عالم تُسيطر المنافسة على مفاصله، يُعتبر من يُتركون في الخلف حسب الآخرين وحسب أنفسهم على أنهم فاشلون.
ومن ضمن مُخرجات هذا الوضع كما يُعدّدها بُول فيرهايغ في كتابه ماذا عني؟[1] تنتشر أوبئة أذية الذات كاضطرابات الأكل, والكآبة، والتوحد، وقلق الأداء في العمل وفي البيت، والرهاب الاجتماعي بأنواعه. ولعله من غير المفاجئ أن بريطانيا، والتي شهدت التطبيق الأشد وقعا للفلسفة النيوليبرالية تُعتبر عاصمة التوحد الأوروربية، فكلنا اليوم نيوليبراليين.
استُعمل لفظ النيوليبرالية لأول مرة في اجتماع في باريس سنة 1938، ومن ضمن وفود الاجتماع حضر شخصان بغرض تحديد معالم الإيديولوجيا وهما لوفيغ فو ميسيس وفريدريك هايك، وكانا منْفييْن نمساويين. لقد كان فون ميسي وهايك شاهدان على الديمقراطية الاجتماعية كما مثلتها الصفقة الجديدة التي كان بطلها فرانكلين روزفلت، وشهدا أيضا التطور المتدرج لتشكل دولة الرفاه في بريطانيا كتمظهرات لحراك جماعي لا يختلف في شيء عن النازية والشيوعية.
ففي كتابه الطريق إلى العبودية[2] الذي صدر سنة 1944 يقول هايك بأن التخطيط الحكومي الذي يهدم أسس الفردانية سيقود حتما إلى السيطرة الكليانية، وعلى شاكلة كتاب البيروقراطية: الطريق الحتمي إلى العبودية[3] لزميله فون ميسيس حظي كتاب هايك بنسب قراءة مرتفعة. وحصل أن وصلت نُسخ منه إلى أيدي بعض الأثرياء الذين رأوا في فلسفتي ميسيس وهايك فرصة لتحرير ثروتهم من قوانين السوق والضرائب. وعندما أسس هايك المنظمة الأولى التي هدفت إلى نشر شعار النيوليبرالية سنة 1947 وكان اسمها جمعية مونت بيليرين Mont Pelerin Society، حظيت بالدعم المالي من قبل عدد من الأثرياء والمؤسسات التابعة لهم. وبمساعدتهم خاض هايك تجربة خلق من سماهم دانييل ستيدما جونز في كتابه «سادة الكون» «صنف من الأممية النيوليبرالية»، أي شبكة عابرة للأطلسي وتتشكل من أكاديميين ورجال أعمال وصحافيين وناشطين. وعلى إثر ذلك تلقت عدة مراكز للبحث دعما ماليا مهما من طرف الأثرياء الداعمين للحركة، وكان الهدف تحديد معالم الإيديولوجيا النيوليبرالية ونشرها. ومن ضمن مؤسسات البحث المذكورة نجد the American Enterprise Institute ، و the Heritage Foundation، و the Cato Institute، و the Institute of Economic Affairs، و the Centre for Policy Studies، و the Adam Smith Institute.
كما حصلت مناصب وشُعب أكاديمية على الدعم المالي وخاصة في جامعتي شيكاغو وفيريجينيا.
تقوت النيوليبرالية وتطورت إلى الوضع الذي نراها عليه اليوم. وفي مسار تطورها ذاك وُضعت تعليمات هايك التي تقول بأن على الدولة أن تُقنن المنافسة تفاديا للاحتكار جانبا لتعوضها تعليمات أكثر حدة وشراسة ومعظمها صدر عن أكاديميين أمريكيين كميلتون فريدمان، وعُوضت تعليماته بهذا الشأن بالدعوة إلى تقدير الاحتكار على أنه مكافأة للجدارة والفعالية.
كما حصل تطور آخر خلال هذا المسار. لقد أضاعت الحركة اسمها خلال كل هذا. فخلال سنة 1951 أقر فريدمان بفخر بأنه نيوليبرالي، لكن ومباشرة بعد ذلك، بدأ اسم الإيديولوجية في الاختفاء، والأغرب أنه وبعد أن بدت هشاشة الإيديولوجيا، أصبحت الحركة أكثر التحاما، بينما لم يعرف اختفاء الإسم ظهور لاسم بديل.
ففي البداية وعلى الرغم من التمويل السخي الذي حظيت به إلا أن النيوليبرالية بقيت على الهامش، فالإجماع على فلسفة ماينارد كينيز الاقتصادية الذي تلا الحرب العالمية الثانية كان كونيا، لقد تم تطبيق تعليمات جون ماينارد كينيس الاقتصادية على نحو واسع، فالتشغيل الشامل والقضاء على الفقر كانت أهداف مشتركة بين قوى أوروبا الغربية. لقد كانت نسب معدلات الضريبة مرتفعة وكانت الحكومات تبحث عن أقل المخرجات الاجتماعية ضررا بصورتها، وذلك عبر تطوير خدمات اجتماعية جديدة وشبكات الأمان الاجتماعي.
لكن وخلال السبعينات التي شهدت بداية ظهور أعراض الفشل على تعليمات كينيس والتي تزامنت مع الأزمات التي ضربت واجهتي الأطلسي، شرعت النيوليبرالية في الظهور إلى العلن وبدأت تحتل بالتدريج مكانا لها ضمن الفكر الاقتصادي والسياسي. لقد علق فريدمان على الوضع بقوله: « عندما يأتي وقت التغيير…يجب أن يتوافر لديك بديل لتبدأ به.» وعلى إثر ذلك وبدعم من صحفيين ومستشارين سياسيين متعاطفين مع الإيديولوجيا تم تبني عناصر أولية من الفلسفة النيوليبرالية وخاصة تلك التي تتعلق بالسياسات المالية من قبل إدارة جيمي كارتر في الولايات المتحدة وحكومة جيم كالاغان في بريطانيا.
وبعد تولي مارغاريت تاتشر ورونالد ريغان السلطة شرعت إدارتيهما في تطبيق حزمة التعليمات النيوليبرالية المُتبقية: ومنها التخفيضات الضريبية الهامة لصالح الأثرياء، والقضاء على اتحادات العمال، تحرير السوق، والخوصصة، وتصدير الإنتاج إلى الخارج وتشجيع المنافسة في قطاعات الخدمة العمومية. لقد تم فرض التعليمات النيوليبرالية عبر صندوق النقد الدولي والبنك الدولي ومعاهدة ماستريخت ومنظمة التجارة الدولية على معظم دول العالم وغالبا دون العودة إلى مبدأ الإجماع الديمقراطي. ومن أكثر ما يُثير الغرابة في المرء تبني النيوليبرالية من قبل مجموعة أحزاب تنتمي إلى اليسار، ومن ضمنها الحزب الديمقراطي في أمريكا وحزب العمل في بريطانيا. يقول ستيدمان جونز تعليقا على هذا: «من الصعب تخيل يوتوبيا حصلت على نفس القدر من الإجماع والتطبيق.»
قد يبدو من الغريب أن مبدأً يعِد بالحق في الاختيار والحرية يتم التسويق له تحت شعار «لا يوجد بديل آخر»، لكن وكما لاحظ هايك خلال زيارة له إلى الشيلي التي كانت تحت حكم الجنرال بينوشيه، والتي تعتبر أول حقل تجارب لمبادئ النيوليبرالية يقول: « أنا أفضل الديكتاتورية الليبرالية أكثر من حكمٍ ديمقراطي غير ليبرالي.» إن الحرية التي تقدمها النيوليبرالية، وهذا أمر مثير للسخرية، هي حرية مطلقة لصالح رأس المال المفترس وليس للمستضعفين.
فالتحرر من اتحادات العمال ومن مساوماتهم الاجتماعية يعني الحرية في تجميد الأجور والاقتطاع منها. والتحرر من قوانين السوق يعني الحرية في تسميم الأنهار، وتعريض العمال للخطر، وفرض نسب أرباح غير عادلة وتصميم وسائل عمل مالية مُجحفة، بينما يعني التحرر من الضرائب الحصانة ضد برامج إعادة توزيع الثروة التي تتكفل بالقضاء على الفقر.
لقد قام المُنظرون النيوليبراليون كما توضح نايومي كلاين في كتابها مبدأ الصدمة[4] بالدعوة إلى استغلال أزمات لفرض سياسات معادية لرفاه الشعوب بحيث تنشغل الشعوب بالأزمات بينما يستغل رأس المال فراغ القرار الشعبي من أي قدرة على المعارضة لفرض سياسات جائرة عليه، ومن الأمثلة على هذا نجد انقلاب بينوشي في الشيلي على الرئيس سالفادور آلينيدي، وحرب العراق وإعصار كاترينا، والأخير كما رآه ميلتون فريدمان «فرصة للإصلاح الجذري للنظام التعليمي» في نيو أورليانز.
وحيث لا يمكن فرض السياسات النيوليبرالية محليا يتم فرضها دوليا عبر معاهدات التجارة والتي تشمل مبدأ «تسوية النزاعات بين المستثمر والدولة» في محاكم خارج الحدود حيث تتمكن الشركات العملاقة من فرض تحييد القوانيين التي تحمي العمال و المحيط البيئي. وعندما صوتت البرلمانات لصالح تقنين بيع السجائر أوحماية مخزونات الماء من شركات المناجم، أو تجميد فواتير الطاقة، أو لصالح منع شركات الدواء من سرقة الدولة قامت الشركات المعنية بمقاضاتها ونجحت في أغلب الأحيان في اغتصاب تعويضات عن خسائرها. لقد أصبحت الديمقراطية مسرحية سخيفة.
هناك تناقض آخر في الإيديولوجيا النيوليبرالية وهو أن المنافسة الكونية تعتمد على مقاييس ومعايير كونية. والنتيجة هي أن العمال والباحثين عن العمل وكل أنواع الخدمات العمومية تخضع لنظام خانق مهووس بتفاصيل المراقبة، ومصمَمٍ على تحديد الناجحين ومعاقبة الفاشلين. فالشعار الذي دعا إليه فون ميسيس على أساس أنه سيحررنا من كوابيس التخطيط المركزي البيروقراطية قد خلق لنا كابوسا لا يُتصوّر.
لم يتصور يوما من يقفون وراء ظهور النيوليبرالية أنها ستتحول إلى أداة في خدمة نفسها، لكنها أصبحت كذلك اليوم. فالنمو الاقتصادي أصبح أبطأ في عصر النيوليبرالية (منذ1980 في الولايات المتحدة وبريطانيا) مما كان عقودا قبلها، لكن هذا التحصيص لا يخص فاحشي الثراء. فاللامساواة في توزيع الثروة والدخل انتشرت في هذه الفترة بعد 60 سنة من انخفاضها المتواصل، ويعود ذلك إلى قمع اتحادات العمال، وتخفيض الضرائب على الأغنياء، وارتفاع نسب الإيجار، والخوصصة وتحرير السوق.
لقد مكنت عمليات خوصصة وتسويق الخدمات العمومية كالطاقة والماء والقطارات والصحة والتعليم والطرق والسجون، مكنت الشركات من إقامة أكشاك لاستدرار المداخيل على واجهات المؤسسات العمومية وفرض رسوم إضافية على المواطنين وعلى الدولة كشرط لاستعمال هذه الخدمات، وأصبح الإيجار بموجب ذلك لفظا آخر يدل على مداخيل غير مُستحقة. فعندما تدفع ثمنا مرتفعا للحصول على تذكرة قطار، يذهب جزء منها فقط لتغطية نفقات العاملين فيها وتشمل الوقود والأجور وسهم الشركة المتداول في السوق وغيرها من النفقات، أما الباقي فيُسرق علنا.
فالأفراد الذين يمتلكون ويُسيّرون مرافق المملكة المتحدة المُخوصصة أو التي يمتلكون أسهما مع الدولة فيها يجنون فوائد خيالية عبر استثمار القليل وفرض أثمنة مرتفعة، أي أرباح على المستفيدين من هذه الخدمات. ففي روسيا والهند مثلا استولت طبقة أوليغارشية على المرافق العمومية مقابل أسعار بخسة جدا. وفي المكسيك مُنح كارلوس سْليم ملكية خدمات الهاتف الخطي والمحمول, وأصبح على إثر ذلك من أغنياء العالم.
فتزايد سيطرة الشق المالي كما يقول آندرو سايّر في كتابه لماذا لا نستطيع تحمل الأغنياء[5] كان لها نفس التأثير. يقول سايّر «فعلى شاكلة الإيجارـ تزداد الفائدة المالية التي تُعتبر دخلا غير مُستحق دون بذل أدنى جهد.» فبينما يزداد الفقراء فقرا والأغنياء غنى، يستولي الأغنياء باطراد على ملكية عمومية أخرى، وهي المال. فدفوعات الفوائد البنكية لا تعدو عن كونها تحويلات مالية من المُعدمين إلى الأثرياء. فبينما تزداد أسعار المِلكيّات وترفع الدول دعمها عنها ويُثقل كاهل الفقراء بالديون، تجمع البنوك ومدراؤها التنفيديون الفوائد الفاحشة، وكمثال على ذلك أسوق تحول منح طلبة الجامعات إلى ديون يدفعونها بعد انتهاء فترة تمدرسهم.
يقول سايّر بأن الأربعة عقود الماضية كانت شاهدة على تحويلات مالية خيالية من الفقراء إلى الأغنياء وبين الأغنياء والأكثر غنى: أي بين من يجنون الفوائد عبر إنتاج منتوجات جديدة وبين من يملكون مؤسسات إنتاج قائمة وعبر التحكم في أسعار الإيجار والأسهم والفوائد المالية. فالفائدة المستحقة تكتمل بالفوائد غير المستحقة.
إن السياسات النيوليبرالية محاطة من كل جانب بخطر انهيار السوق. لكن الواقع هو أن البنوك أصبحت أكبر من أن تُفلس، وعلى نفس المنوال تُعتبر الشركات المسيطرة على الخدمات العمومية أكبر من أن تُفلس. كما يقول تـوني جوت، لقد نسي هايك أن الخدمات الوطنية الأساسية لا يُمكن أن يُسمح لها بالفشل أو الإفلاس، وهو ما يعني بأن المنافسة لا يمكن أن تأخذ مجراها الصحيح. فرجال الأعمال يجنون الفوائد، بينما تحتفظ الدولة بالمسؤولية.
وكلما فشلت الشركات أو أفلست صارت الإيديولوجيا أكثر تطرفا. فالحكومات تستعمل الأزمات النيوليبرالية كعذر وكفرصة لخصم نسب الضرائب على الأغنياء، وخوصصة باقي الخدمات العمومية وخلق ثقوب في شبكات الأمان الاجتماعي وتحرير السوق للشركات الكبرى واضطهاد الفقراء بمزيد من التضييق التشريعي والقانوني. لقد أصبحت الدولة تمقت نفسها إلى حد أن أنيابها أصبحت مغروسة في كل مفاصل القطاع العمومي.
لعل التأثير الأخطر للنيوليبرالية ليس الأزمة المالية التي خلقتها، بل الأزمة السياسية التي أنتجتها سياساتها. فبينما تتراجع سيطرة الدولة على الخدمات العمومية، تتراجع قدرة الشعوب على التأثير في مسار الأمور عبر صناديق الاقتراع. وتعوضنا النيوليبرالية عن هذا النقص بالقول بأن المواطن يمارس حقه في الاختيار عبر الإنفاق. لكن البعض لديه ما يُنفق أكثر من غيره. ففي ديمقراطية المستهلك أو المالك للأسهم العظمى لا يوجد توزيع عادل للصوت في صناديق الاقتراع. والنتيجة هي إضعاف صوت الفقراء والطبقة المتوسطة. وبينما تتبنى أحزاب اليمين واليسار سابقا السياسات النيوليبرالية يُصبح إضعاف الصوت حرمانا من المشاركة الديمقراطية. فقد أصبحت السايسة حكرا على القليلين.
يقول كريس هيدجز بأن «الحركات الفاشية تبني أسسها البشرية من العاطلين سياسيا، وليس من الناشطين سياسيا، أي من (الفاشلين) الذين يشعرون، ولهم الحق في ذلك، بأن لا صوت أو دور لهم في النظام السياسي القائم.» فعندما لا يشملنا النقاش السياسي ولا يُسمع منا، يُصبح الناس أكثر عرضة للتأثر بالشعارات والرموز والمشاعر الزائفة. فالبنسبة لمحبي ترامب تبدو الحقائق والحجج المنطقية غير مثيرة إطلاقا.
يقول جوت بأنه في حال امتلأت شبكة تفاعل الشعوب مع دولها بالقوة من جهة و الطاعة من جهة أخرى، فإن ما يجمع هذه الشعوب بدولها ينحسر إلى سلطة القمع والقهر. فالخوف من التوتاليتارية الذي حمل هايك على تطوير فلسفة النيوليبرالية يمكن أن تظهر عندما تفلت السلطة الأخلاقية للحكومات التي تنجم عن تنفيذها لوعودها بربط الشعوب بالخدمات العمومية، «تتحول الدول إلى سلطة الوعد والوعيد والقهر لضمان الطاعة الكاملة.»
فعلى شاكلة الشيوعية سابقا، تعتبر النيوليبرالية اليوم الإله الذي فشل. لكن الشعار الجاثوم لا زال يترنح، ويعتبر غموضه أحد أسباب بقائه اليوم. إن شعار اليد الشبح الغير مرئية يتلقى الدعم من داعمين غير مرئيين. لكن وبالتدريج فقد تمكنا من تحديد بعضهم. لقد وجدنا بأن مؤسسة الأعمال الاقتصادية the Institute of Economic Affairs، والتي دافعت بشراسة عن مطلب إضافة قوانين جديدة على صناعة التبغ كانت تتلقى التمويل المالي من شركة التبغ البريطانية الأمريكية منذ سنة 1963. واكتشفنا بأن شارلز وديفيد كوش، وهما اثنان من أغنياء العالم أسسا المؤسسة التي أقامت حركة حزب الشاي Tea Party Movement، ووجدنا كذلك أن شارلز كوش، وخلال تأسيسه لمركز بحث يعود تمويله إلية شخصيا قال: « فلأجل ألا تتعرض المؤسسة لنقد غير مرغوب فيه، يجب أن تبقى كيفية ملكيتها وإدارتها في سرية تامة.»
إن الألفاظ التي تستعملها النيوليبرالية غالبا ما تُضمر أكثر مما تُبيح به. ف «السوق» لفظ يبدوا كنظام طبيعي يشملنا تأثيره العادل علينا جميعا مثل الجاذبية أو الضغط الجوي. لكنه لفظ مُثقل بعلاقات السلطة. ف «ما يريد السوق» مثلا يعني ما تريده الشركات ومدراؤها. و «الاستثمار» كما يوضح ساير يعني شيئين مختلفين تماما: أحدها تمويل الأنشطة المنتجة وذات الفائدة الاجتماعية، والمعنى الآخر يعني شراء خدمات اجتماعية لجمع فوائد الإيجار أو الفائدة أو عائدات السهم أو فوائد رأس المال. إن استعمال اللفظ للإحالة على أنشطة مختلفة «يسم مصادر الثروة بالغموض،» ويقودنا إلى الارتباك في التفريق بين اغتصاب الثروة وخلقها.
منذ قرن قبل اليوم، كان الأغنياء الجدد يمتعضون من هؤلاء الذين ورثوا ثروتهم, فقد بحث المقاولون عن معايير التقبل الاجتماعي بين النخبة عبر تقديم أنفسهم على أساس أنهم مُستأجِرين. أما اليوم فقد أصبح العكس باديا. فالمستأجِرين وورثة الثروة يُقدمون أنفسهم على أساس أنهم مقاولون. إنهم يدّعون استحقاقهم لدخل غير مستحق.
إن أشكال الغموض والإرباك التي تُحيط بلفظ النيوليبرالية تزداد غموضا وإرباكا كلما ارتبط اسمها بغموض ولا مكانية الرأسمالية المعاصرة: فهناك نموذج الامتياز الذي يضمن بأن العمال لا يعرفون لأجل من يتحملون الشقاء، والشركات التي تُسجل عبر أنظمة شبكات سرية خارج الحدود، وهي من التعقيد بحيث يصعب حتى على الشرطة أن تحدد المستفيدين منها، وصفقات الضرائب التي تخدع الحكومات، والمنتوجات او الوسائل المالية التي لا يُفهم معظمها، كلها مصدر غموض وقوة النيوليبرالية.
إن الغموض الذي ذكرناه آنفا محفوظ ومحاط بسرية تامة. فهؤلاء المتأثرين بفون ميسيس وهايك وميلتون فريدمان يميلون إلى رفض الإسم مطلقا لأن استعماله يقتصر اليوم على الإحالة على وضع شاذ غير مرغوب فيه. لكنهم لا يقدمون بديلا عنه. بينما يصف آخرون أنفسهم بأنهم ليبراليين كلاسيكيين أوليبرتاريين، لكن أقل ما يقال عن هذين الإسمين هو أنهما مضللِّيْن، لأنهما يقترحان بأنه لا يوجد جديد في كتب فون ميسيس وهايك وفريدمان وهي بالتتالي الطريق إلى العبودية، والبيروقراطية، والرأسمالية والحرية[6].
ورغم كل هذا، فهنالك شيء محبب في مشروع النيوليبرالية، أو على الأقل في مراحلها الأولى. فقد كانت فلسفة مميزة ومبدعة وذات مشروع محدد المعالم بدقة استفادت من دعم شبكة منسجمة من المفكرين والنشطاء. وتميزت أيضا بالصبر والإصرار. كان الطريق إلى العبودية طريقا إلى السلطة.
إن انتصار النيوليبرالية يُعتبر فشلا آخر لليسار. فعندما قادت فلسفة «دعه يعمل» الاقتصادية إلى كارثة سنة 1929، قام الاقتصادي جون ماينارد كينيز بتطوير نظرية اقتصادية متكاملة لتعويضها، وعندما ضربت أزمة السبعينات إدارة الطلب التي طورها كينيز كانت النيوليبرالية مستعدة لأخذ مكان نظرية كينيز. لكن عندما تداعت النيوليبرالية سنة 2008 لم يكن هناك شيء. لهذا يمشي الأموات الأحياء. فلم يُقدم اليسار ولا المركز شيئا يُذكر لمدة 80 عاما. إن أي استعادة لذكر اسم جون كينيز اعتراف بالفشل. فأن تقدم حلولا كينيزية (نسبة إلى كينيز) لأزمات القرن الواحد والعشرين معناه أن تتغاضى عن ثلاثة مشاكل واضحة. أولا من الصعب تعبئة الشعوب حول أفكار قديمة، فالهفوات التي أبانت عنها أزمة السبعينات لا زالت قائمة، بل ليس لديها أي شيء لتضيفه إلى وضعنا الصعب، أي وضع الخطر البيئي. فالفلسفة الكينيزية تعمل عبر إثارة طلب المستهلك لتحريك الدورة الاقتصادية. والزيادة في طلب المستهلك ثانيا والنمو الاقتصادي ثالثا هما مُحركي الدمار البيئي.
فما يُظهره تاريخ الفلسفة الكينيزية والنيوليبرالية هو أنه ليس من الكافي معارضة نظام فاشل. يجب الدفع ببديل متكامل. فعلى أحزاب العمل والديمقراطيين واليسار بجل مكوناته أن تطور برنامجا اقتصاديا بالغ الضخامة، أي أن تعي ضرورة تصميم برنامج جديد يستجيب لتطلعات القرن الجديد.
جورج مونبيو / ترجمة: منادي إدريسي عبد الباسط
هوامش:
[1]- Verhaeghe, Paul. Trs. Jane Hedley-Prole. What About Me? The Struggle for identity in Market-Based Society. London: Scribe. 2014.[2]– Hayek, freidrich. The Road to Serfdom. London: Routledge. 1944.
[3]– Ludwig Von Mises. Bureaucracy. New York: Yale University Press.1944.
[4]– Klein Naomi. The Shock Doctrine: the Rise of Disaster Capitalism. New York: Metropolitan Book. 2007.
[5]– Sayer Andrew. Why We Cannot Afford the Rich?. London: Policy Press. 2014.
[6]– Friedman Milton. Capitalism and Freedom. Chicago: University of Chicago Press. 1962.
إضافة تعليق جديد