اليوم العالمي للغة العربية
في بدايات القرن الماضي شُكل مجلسٌ لتبسيط الإملاء في مدينة نيويورك، هدفه إزالة بعض القواعد الشاذة في اللغة الإنكليزية، لكي تُكتب الكلمات في المستقبل بنفس الطريقة التي تُلفظ بها. قال القائمون عليه أنهم بذلك يحمون اللغة الانكليزية من الاندثار، ويخرجونها “من المتاحف” إلى الحياة اليومية، لتكون عابرة للأجيال.
وجد المجلس، المدعوم يومها من قبل الرئيس الأميركي ثيودور روزفيلت، ضرورة تبسيط 700 كلمة، مثل كلمة island (جزيرة) التي قرروا أن تكتب iland ، وكلمة cat (قطة) التي أوصوا بأن تصبح kat .
نُشرت القائمة الأولية من المفردات في أذار 1906، وصادق عليها عدد كبير من الجهابذة، مثل رئيس جامعة كولومبيا العريقة، ورئيس تحرير معجم “ويبستر” المعروف، والكاتب الشهير مارك توين. أُعجب الرئيس روزفيلت بمقترحاتهم لدرجة أنه أمر كافة الجهات الحكومية بتطبيقها، مما اعتبره الكثير من التقليدين، وتحديداً في بريطانيا العظمى، “حرباً شرسة على اللغة الإنكليزية.”
زوجة الرئيس الأميركي سخرت من مشروعه، وعلّقت ممازحة أن روزفيلت أقرّ تلك التعديلات لأنه كان يجد صعوبة شخصية في الإملاء، ويبحث عن مخرج لنفسه من هذا المأزق. رفضت المحكمة العليا الأميركية تطبيق التعديلات، وطالب الكونغرس بطي توصيات الرئيس، مما أدى إلى حل المجلس وانهاء التجربة.
ومن هنا نصل إلى محاولات مماثلة حصلت في سورية، باءت كلها بالفشل، كان هدفها تمكين اللغة العربية بنفس الطريقة التي طالب بها روزفيلت.
في عام 1944 مثلاً، أوصى “العلامة” ساطع الحصري، وهو أول وزير معارف في سورية، بإلغاء تدريس اللغات الأجنبية في الصفوف الابتدائية، لكي لا يتم التشويش على حصص اللغة العربية في المدارس الحكومية. كما طالب بأن يتم تدريس لغة أجنبية واحدة فقط، إما الفرنسية أو الانكليزية، ابتداء من الصف السادس، ومنع الطلاب من دراسة اللغتين معاً. وجاء في توصياته أن تكون حصة اللغة الأجنبية ساعة واحدة في الاسبوع فقط، انتقاماً من تاريخ الاستعمار الفرنسي في سورية.
طبعاً، كانت نتيجة هذا القرار تراجع حاد في مستوى الطلاب، وتحديداً الراغبين باكمال دراستهم الجامعية خارج البلاد. بعد ثلاث سنوات، طوي قرار الحصري كما طوي قرار روزفيلت من قبله، واعترفت وزارة المعارف أنها أخطأت التقدير والتصرف، ولكن هذا الاعتراف لم يمنعهم من إحراق الكتب الفرنسية، والانكليزية الموجودة في مدارس دمشق، من روايات ومعاجم ومؤلفات علمية، يوم خروج أخر جندي فرنسي من سورية عام 1946.
أمسكوا اللغة العربية من ذيلها، بدلاً من جذورها وأساساتها، وحاربوا القشور بدلاً من تمكين الجوهر. فعلى سبيل المثال: عندما كتب نزار قباني وقال: “حتى فساتيني التي أهمتلها…” جن جنون التقليديين، معتبرين أن في كلامه تشويهاً للشعر العربي وتطاولاً على اللغة العربية. لم يقبلوه مجدداً ثائراً، بل اعتبروه مخرباً، علماً أن التجديد مطلوب وصحي، والدليل أن شعر نزار وصل إلى أقاصي المعمورة، وتحول، بحسب تعبيره، إلى “رغيف خبز ساخن يتخاطفه الناس على الأفران”. لم يهدد نزار قباني اللغة العربية يوماً بل أطال عمرها، ما هددها في الأمس وما زال يتهددها اليوم هو ذلك الكسل والإهمال، والفلتان العلمي، والتراخي في الحفاظ على هويتها.
تتالت المحاولات السورية البائسة للحفاظ على اللغة، دون الاعتراف بأن المشكلة ليست باللغات الأجنبية، ولا في اللغة العربية بحد ذاتها، بل بمستوى التعليم وسوية المدرسين، ورواتبهم المزرية.
منذ قرابة العشرين سنة، أُجبرت المتاجر في دمشق على عدم استخدام أي اسم اجنبي دون تعريبه، ظناً بأن ذلك سوف يحمي لغة القرآن الكريم، وطُرح موضوع فرض اللغة العربية الفصحى على المسلسلات الدرامية، حتى غير التاريخية منها. والنتيجة كانت، أنه وبالرغم من كل “التوصيات” والاحتفالات بيوم اللغة العربية، صارت اللهجة العامية سائدة، ليس فقط في المسلسلات المعاصرة، بل في نشرات الأخبار أيضاً، وفي البرامج الحوارية، وحتى في خطابات الوزراء والمسؤولين.
وعندما حاول البعض منهم استخدام الفصحى، كونها “أوجه” في الخطابة، كانت النتيجة نصب الفاعل، ورفع المفعول به على رؤوس الأشهاد، دون أي رقيب، أو مساءلة من أحد.
لو صمت هؤلاء لكان أنفع لهم، كما صمت حسني الزعيم (بالرغم من كل تحفظاتنا عليه)، الذي أدرك أنه لا يجيد فن الخطابة، ولا يستطيع التحدث باللغة العربية الفصحى، فلم يخطب مباشرة طوال فترة حكمه القصيرة في دمشق، بل فضل أن تذاع خاطاباته كافة عبر المذياع، بصوت أحد المذيعين.
تجارب عربية
الحال من بعضه، ليس فقط في سورية وحدها بل في معظم الدول العربية. أجبر ذلك البعض منها على سن قوانين لحماية اللغة العربية، كما حصل في مصر عام 2008، الأردن عام 2015، وقطر عام 2019. بقي معظم تلك القوانين حبراً على ورق، مع العلم أن القانون الاردني مثلاً، يعاقب المخالفين بغرامة مالية تتراوح ما بين ألف وثلاثة الأف دينار، وكذلك الأمر في قطر، حيث تصل الغرامة إلى 50 ألف ريال، أو ما يعادل 14 الف دولار.
في سورية، “قلب العروبة النابض،” لم يصدر أي قرار مماثل، على الرغم من محاولات حثيثة قام بها مدرسون قديرون في السنوات القليلة الماضية، وإلحاح شخصيات نافذة مثل وزيرة الثقافة في حينها، الدكتورة نجاح العطار، وجميع رؤساء مجمع اللغة العربية، من محمد كرد علي إلى الدكتور مروان محاسني.
مع ذلك، وحتى يومنا هذا، لا يوجد قانون يحمي اللغة العربية في سورية وليس هناك غرامة على من يشوهها، عامداً كان أو جاهلاً، لا في دوائر الحكومة ولا في أروقة الإعلام الرسمي أو الخاص. طبعاً، سيقول كثيرون بأن هذا الأمر لا يعدو كونه ترفاً يقع في أخر سلم “الأولويات الوطنية،” وبأن تأمين مادة الوقود أو جلب الأموال لإعادة الإعمار هما أضر بكثير من تمكين اللغة.
ثم جاءت الطامة الكبرى في وسائل التواصل الاجتماعي، وتحديداً “الفيسبوك”، والذي قضى على ما تبقى من احترام ومكانة كانتا موجودتين للغة العربية، فأصبح الناس، حتى كبار المثقفين والشخصيات “القدوة”، يتجنبون الفصحى في كتاباتهم، ولا يهتمون قط لأي خطأ نحوي أو إملائي، إمعاناً بالحداثة، ومتطلبات عصر السرعة اللتين رافقتا هذا الزمان.
وكلما مرت الأيام، كبرت المصيبة، وكان أخرها بعض الإعلانات التي ظهرت عبر الأثير في دمشق، وأما جريمتها فهي مضاعفة: أولاً؛ لإفراطها في استخدام اللهجة العامية، وثانياً؛ لأنها قُدمت باللهجة اللبنانية “الكول” للترويج لمطاعم، ومقاهي، لا في بيروت أو جونية، بل في “الباشكاتب” و”شارع أبو رمانة!”.
أما آن الأوان لأن نعترف بأننا فشلنا في الحداثة تماماً كما فشلنا في الحفاظ على اللغة أو “عصرنتها”؟ وماذا كانت النتيجة؟ مجتمعاً غريب الأشكال والأطوار، فاقداً الروح، مخترقاً ثقافياً ولغوياً، وهو الذي كان ذات يوم مصدر فخر لكل العرب، لحفاظه على لغته وأصالته.
نحن لسنا معقدين، ولا متتطرفين، ولا نطالب بإلزام الناس بكلمة “الرائي” بدلاً من التلفزيون، ولا بالحاسوب بدلاً من “الكومبيوتر”. ولكن علينا أن نذكّر أننا دخلنا في مرحلة الخطر، وأن نرفع راياتنا الحمراء، تحذيراً وتنبيهاً من مستقبل ثقافي بشع، لا نتمناه لأولادنا.
سامي مروان مبيّض
إضافة تعليق جديد