بدوي الجبل في ذكراه السادسة والعشرين

15-08-2007

بدوي الجبل في ذكراه السادسة والعشرين

تصادف في يوم 19/8/2007 الذكرى السادسة والعشرون لرحيل الشاعر العربي الكبير (بدوي الجبل) محمد سليمان الأحمد، من قريته (السلاطة) -جبلة، ومن مثلث الابداع: سلاطة البدوي، وقصابين أدونيس، وعين شقاق نديم محمد..من تلك الربوع ومن بين أفيائها وأندائها وظلالها ومن بيت عبق بالعلم، والمعرفة، والتلاوة والخلق.
خرج/البدوي/ ليقرأ العربية وأسرارها،ليقرأ قرآنها، وكل جيد في تراثها الأدبي، والفكري وليحفظ ويعي وعياً معرفياً وفلسفياً شعر العربية من امرىء القيس الى المتنبي وشوقي وما بعد.
بدأ بدوي الجبل/ شاعراً في عشرينيات القرن العشرين...حمل شعره خصائص التمكن اللغوي والالمام القاموسي وجزالة التركيب، والجملة ودوي إيقاعها واستراحة المتن الشعري، وفضاء الشاعرية الغني بجديد الصور، وتكويناتها ودقة رسم مشهديتها الى الحكم والخلاصات الفلسفية والاجتماعية...الأكثر من ذلك كان الشاعر المترع بالمنظومات القيمية، والأخلاقية والانسانية المرتبطة بالأرض والتراب والأصالة والوطن كثوابت قيمية، وأخلاقية.
غنى الوطن والاستقلال وأبطال الاستقلال وذهبت قصائده في الجلاء، وأبطال الجلاء معلقات كبيرة على جدار المجد والحرية..حملت إيقاعات شعره الغنائية الأصيلة وعذوبة الجرس، والانسياب الذي يذهب عميقاً في الداخل والوجدان.
مقاربتي اليوم هي للمنظومات القيمية الأخلاقية والوطنية في شعره يقول:
من قصيدة (ابتهالات -ص72 من ديوانه) وقد نظمها في مغتربه في جنيف 1964م:
لا الغوطتان ..ولا الشباب..أدعو هواي..فلا أجاب
أين الشآم من البحيرة..والمآذن ..والقباب
وقبور إخواني..وما أبقى من السيف...الضراب
الصامتات .. وللطيور... على مشارفها...اصطخاب
تحنو الدموع على القبور فتورق الصم الصلاب
يا شام يالدة الخلود وضم مجدكما انتساب
الشاعر في مغتربه بعيد عن الأهل والأحبة والديار بعيد عن الوطن وترابه..عن دمشق التي عشقها عشقاً صوفياً، وغناها أعذب ألحانه وقوافيه..بهذا تكون الغوطتان أولى استحضاراته المطلعية في قصيدة/ابتهالات/ ويكون الابتهال الأول فاتحته الغوطتان(الشرقية والغربية) ..الماء والظل والثمر والفلاح والهواء وسواقي بردى العذبة، وبالمحصلة كل جهات الوطن.
هذا في ايقاع جغرافية المكان، لكن في الأبعد والأشمل /دمشق/ عاصمة الدنيا، وعبق التاريخ ومجد الآراميين، وعاصمة حطين، كل ذلك ويزيد ينادي الشاعر شبابه وقد أمضى زهو شبابه في ربوع دمشق ..شاعراً ونائباً ووزيراً...لكن أين شبابه، وقد بدأ الأفول؟!
 خطاب المكان استحضر كل أصيل وجوهري: الغوطتان..المآذن المشرعة من الأموي الى ابن عربي...الى قبور الأحبة من /يوسف العظمة/ وميسلون الى كل أبطال الاستقلال الوطني ، قبورهم الصامتة يظللها الأيك، وتشدو على أغصانها البلابل، وتحلق السنونو..تحنو الدموع اجلالاً، وتقديراً، فتخضر حجارة القبور، وتورق أصالة، وندى، وتذكاراً..أنت يا شام ندّ الخلود، وصنوه...كلاكما أنت والخلود من نبعة واحدة...ونسب نعتز بالانتماء اليه، إنه الوطنية، والأصالة، وعمق التاريخ.
هكذا أحضر البدوي/دمشق/ الوطن..المآذن والقباب رمز الايمان والعروبة..قبور الأحبة رمز الوفاء والتقدير، وعهد الصدق والعطاء والتواصل معهم، ومع قيمهم الاستقلالية والوطنية..كانت الدموع تعبير الداخل والقلب، وكان اخضرار حجارة القبور عنوان التلبية والاستجابة..ما زالت هذه القبور تعطي وتنبت قيم النضال، والمروءة والعطاء ونبراس الاقتداء.
في انتقال آخر من قصيدة /ابتهالات/ يقول:
من لي بنزر من ثراك..وقد ألح بي اغتراب
هذا الأديم شمائل..غرّ...وأحلام..عِذاب
وأمومة، وطفولة ورؤى..كما عبر...الشهاب
وتحية مسكية من سالفين هووا...وغابوا
هذا الأديم أبي...وأمي...والبداية...والمآب
يطلب الشاعر حفنة من تراب وطنه...وقد ضج به الحنين، وأضنته الغربة، علّ هذا اللقاء مع بعض تراب الوطن يخفف ألم الغربة، والبعاد..هذا التراب هو القيم النبيلة، والشمائل الأصيلة وهو الأمل، والحلم العذب بوطن الخير، والجمال..إنه الأمومة وحنانها..الطفولة وبراءتها هو الرؤى والأحلام الوردية بآفاق منيرة.. هذا الأديم هو التحية، والسلام من كل الراحلين الأبطال الذين قضوا في ساحات الاستقلال والحرية...انه الأم، والأب..القدر والمصير البداية والمآل..الرجاء والإياب.
هكذا استحضر/بدوي الجبل/ تراب الوطن في ذاكرة الغربة، قيم الأمومة ووفاء القبور والشهداء، صور البداية، والأحلام الوردية..هي استحضارات المناقبية الوطنية، وتجلياتها العملية قيماً، وسلوكاً، وأخلاقاً ونضالاً من الولادة حتى القبور بداية ونهاية.
يعود الشاعر في انتقال آخر لنفسه لغربته ووحدته يقول:
في غربة أنا..والإباء المر...والأدب اللباب
كالسيف حلته الفتوح...وربما بلي القراب
طود أشم...فكيف ترشقني السهام ولا أصاب
يخفى البغاث فلا تلم به...ولا يخفى العُقاب
الكبر عندي للعظيم اذا تكبر..لا العتاب..
عندي له زهد...يدل على الكواكب واجتناب
أغلىالمروءة شيمة...طبعت وأرخصها اكتساب
الشاعر في غربته يلازمه إباؤه المر، وأدبه الرفيع...اختار المرارة مع الإباء ولم يختر المروءة مع الذل.. هو كالسيف أبلاه القراع، والمعارك.. بلي غمده..لكنه السيف في الأساس قيمة وحضوراً..هو الجبل الشامخ فكيف لا تصيبه السهام؟ يستحضر البغاث واختفاءه، والعقاب وتحليقه بالاسقاط الاجتماعي للدلالتين...الكبر والكبرياء للعظيم، والكبرياء هي الأنفة والإباء وليست التكبر والعجرفة والادعاء.
«هو الكبير الزاهد المتواضع..أفضل المروءات ما كانت طبعاً وسجية...ليست تصنعاً واكتساباً.
منظومة قيمية أخلاقية جديدة يطرحها الشاعر: الاباء المرّ، الأدب الرفيع، السيف الذي أبلاه القراع رمزاً للعراك وللجهاد...الجبل الشامخ..العقاب المحلق.. الكبر لا التكبر..مروءة الطبع سجية..لا تصنع، هذه المنظومة كلها تنتمي للجوهري، وللأصيل والمناقبي الباقي...للضمير وللشرف وللرفعة والمجد والعلا.. هكذا أحضر البدوي فلسفته وأفكاره وانتماءه.
أما في المناقبية الايمائية، والثقة بعدل الخالق فيقول في الابتهال التالي:
أنا لا أرجي غير جبار السماء..ولا أهاب
بيني، وبين الله من ثقتي...بلطف الله باب
أبداً ألوذ به...وتعرفني الأرائك والرحاب
لي عنده...من أدمعي كنز تضيق به العياب(1)
تتجلى إيمانية الشاعر وثقته بعدل الله فهو مؤمن متوكل علىربه وصدق يقينه، إيمانه كنز، هو ذخره واطمئنانه..هو متصالح مع نفسه...واثق من عدالة ربه، ولطفه لا يخشى سواه...هو الحفظ والرعاية والمجن...وكلنا في موقع الحاجة لعفو الله، ورحمته..إنها منظومة القيم الاسلامية الايمانية وتوابعها السلوكية،وهي أساس في فكرنا، وتراثنا ورسالتنا الانسانية، انها استحضارات القيم الايمانية وتمثلها في النفس  والروح..
يختم الشاعر قصيدة ابتهالات:
يا شام عطر سريرتي..حب لجمرته التهاب
أنت اللبانة في الجوارح لا النّوار ولا الرباب
لك مهجتي...وقبولها منك الهدية والثواب
أنا طيرك الشادي وللأنغام من كبدي انسراب
أنا والربيع مشردان وللشذا معنا ذهاب
والنور يسأل والخمائل والجمال متى الإياب؟!
يعود الشاعر الى الشام فهي عطر السريرة، والوجدان.. هي جمرة الحب الملتهبة التي لا تطفأ هي الحاجة، والغاية في الجوارح هي الأماني العذاب.. مهجتي فداك يا شام، وقبول هذه الفدية هو المنى، والطلب...أنا طير غوطتك الغنّاء..أنا والربيع في حالة الغربة، وعطرنا يحن إليك..الى رباك يا شام...كل ما فيك من نور السماء الى خمائل الغوطة يسألان متى العودة والإياب؟!..
هكذا قدّم البدوي قصيدة/ ابتهالات/ ..تجاوزت القصيدة مئتين وثلاثة عشر بيتاً..كان رويها الباني روياً غنائياً حنوناً رائعاً..كانت بكل مقاطع ابتهالاتها اناشيد محبة، ووفاء وصدق، واستحضار لكل أصيل وجوهري، التراب، الوطن، الأحبة، الخمائل، القبور، القباب، المآذن، الدموع، الخلود، الأديم، الأمومة، الطفولة، الإباء، السيف، الكبر، الزهد، الشيم الخ..
كلها عناوين قيمية تنتمي للانساني، وللقومي، وللوطني وللأخلاقي، تستحضر الوفاء للتراب عنواناً مركزياً ولقبور الشهداء الذين ضحوا نبراساً واقتداء.
هكذا يقرأ (البدوي) الحياة، والوطن، والانسان والقيم، والالتزام..صدق العاطفة، وحنين المهاجر، واحساس الغربة، ونبل الوفاء والومض الفلسفي الحكمي والمعرفي والإيماني.
كلها في حنايا هذه القصيدة...النداء الصادق، والنفس الملتهبة، والحنين الجواني الداخلي الضميري في نبض ايقاعها.
ابتهالات بدوي الجبل هي أناشيد العبقرية الشعرية، وفضاؤها الشاعري الثري.
بهذا نستحضر القيم ومنظوماتها دروساً في البناء، والعمل والسلوك والاقتداء..ما أحوجنا لهذه الاحيائية القيمية في عملنا وسلوكنا كل يوم.
رحم الله بدوي الجبل وله التحية في ذكرى الرحيل.

يوسف مصطفى

المصدر: البعث 

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...