بشر احتفظوا بعقولهم وسط الهستيريا العامة (1)

08-02-2010

بشر احتفظوا بعقولهم وسط الهستيريا العامة (1)

الجمل- مازن كم الماز:

منشقون 1

 إنهم منشقون , أو بالأصح بشر احتفظوا بعقولهم في وقت سيطرت فيها هستيريا جامحة على عقول الآخرين , احتفظوا بقدرتهم على قول الحقيقة في وقت أصبح فيه قول الحقيقة مستحيلا في مواجهة القمع الهمجي للسلطة أو سيطرة ثقافة القطيع أو "تخريفا" بالنسبة للحقيقة السائدة المفروضة , يقول جورج أورويل "كلاب السيرك تقفز عندما يفرقع سوط المدرب , و لكن الكلب المدرب جيدا هو ذاك الذي يقوم بحركته البهلوانية عندما لا يكون هناك سوط" ( من كتاب أحاديث مع نعوم تشومسكي , مكتبة العبيكان , ص 142 ) .


 رودولف باهرو
منشق في الشرق و الغرب

 ولد رودولف باهرو في ألمانيا عام 1935 و انضم إلى الحزب الاشتراكي الموحد الحاكم في ألمانيا الشرقية عام 1954 و تدرج ليصبح مساعد تحرير صحيفة شبيبة ألمانيا الحرة التابعة لحزب السلطة , في عام 1967 نشر مقالة اعتبرها الحزب الحاكم افترائية و أدت إلى إبعاده عن الحزب . قضى باهرو السنوات العشرة التالية يعمل في منظمة عمالية في مصنع للمطاط و أنهى خلالها شهادة الدكتوراه ( عن تدريب الأخصائيين في مؤسسات الدولة ) . صدم باهرو لقمع ربيع براغ و بدأ يطور نظرة نقدية للنظام القائم من وجهة نظر يسارية راديكالية , و أخيرا كتب نصا نقديا ضد النظام القائم سماه "البديل عن الاشتراكية القائمة في أوروبا الشرقية" و قام بتهريب نسخة منه إلى ألمانيا الغربية حيث نشر هناك , يعتبر هذا الكتاب أحد أوائل النصوص التي ساهمت في التأسيس لما يمكن تسميته بالاشتراكية البيئية أو الخضراء . كشف باهرو في نقده أن الطريق "غير الرأسمالي" للتصنيع في أوروبا الشرقية قد اتبع نفس الأفكار و الأهداف و الأساليب الرأسمالية الغربية , و كشف كيف أن الطبقة العاملة في كل من الشرق و الغرب كانت تستغل العالم الثالث و بيئة الأرض على حد سواء , مكرسة انعدام العدالة في العالم في سبيل الحفاظ على امتيازاتها الخاصة . رأى باهرو في تقسيم العمل في البيت و المعمل أساس القمع و الاضطهاد و استعرض الوسائل الممكنة لإلغائه و إعادة بناء المجتمع من الأسفل إلى الأعلى اعتمادا على التسيير الذاتي للأحياء و المعامل , أراد باهرو تحويل اشتراكية الدولة البيروقراطية إلى شكل تشاركي من الشيوعية لا يحافظ فقط على البيئة بل يستبدل ثقافة الاستهلاك الرائجة بثقافة أكثر إنسانية و حرية تقوم على تحقق الذات الإنسانية من خلال مؤسسات اقتصادية و سياسية تشاركية و حرة و عبر انتقال روحي ضروري لتغيير مفهوم الذات الإنسانية نفسه .
بعد نشر الكتاب قامت السلطات الألمانية الشرقية باعتقال باهرو في آب أغسطس 1977 و حكم عليه في الثلاثين من يونيو حزيران 1978 بالسجن 8 سنوات بتهمة الخيانة و إفشاء أسرار الدولة , دافع عنه يومها المحامي غريغور غيسي عضو الحزب الحاكم الذي كان يدعو لمزيد من الانفتاح السياسي و الذي سيصبح قائدا بارزا في حزب الاشتراكية الديمقراطية الذي نشأ بعد انهيار الحزب الاشتراكي الموحد الحاكم و الذي ما زال حتى اليوم من أبرز قادة حزب اليسار الألماني . أصبح رودولف باهرو لبعض الوقت شاغل الصحافة الليبرالية في الغرب , لكن هذا الاحتفال المنافق سرعان ما انفض من حول هذا المنشق الألماني الشرقي , عندما اكتشفت هذه الصحافة الليبرالية حقيقة هذا المنشق الراديكالي الذي لم يمارس التصفيق للنظام الرأسمالي في الغرب كما رفض أن يمارس ذات التهليل للنظام القمعي في بلاده ألمانيا الشرقية , الذي رفض شرور الرأسمالية الغربية بقدر ما رفض شرور النموذج الأوروبي الشرقي من الاشتراكية و تطلع إلى بديل مختلف , فانفضت من حوله لتنتهي إلى حصاره كالعادة بالصمت و التجاهل . شكل باهرو بالنسبة لليساريين في الغرب و المنشقين اليساريين في الشرق احتمالا جديا لاتخاذ الحركة الماركسية و العمالية أبعادا جديدة . بعد تصاعد الاحتجاجات على اعتقاله قامت السلطات الألمانية الشرقية بإطلاق سراحه في أكتوبر تشرين الأول 1979 و أبعدته إلى ألمانيا الغربية . في ألمانيا الغربية انضم باهرو إلى حزب الخضر الوليد و اعتبر ناطقا بلسان التيار الجذري في الحزب الذي كان يتراجع لصالح التيار الإصلاحي الذي هيمن أخيرا على الحزب , كان باهرو يسعى إلى تعاون الحمر ( اليساريين ) مع الخضر , لتشكيل حركة جديدة خارج نطاق الإيديولوجيات السائدة , و انتقد لهاث الخضر وراء السلطة و رغبتهم في تحقيق برنامجهم عن طريق الانضمام إلى السلطة أو النظام القائم , كانت قضية التغيير عنده تقوم على تطوير وعي الناس لا التنافس على أصواتهم مع السياسيين التقليديين لكسب موقع ما في مؤسسة السلطة القائمة . كانت الممارسة السياسية لليسار الراديكالي , وفقا لباهرو , تقتصر حتى ذلك الوقت على النضال في سبيل السلطة , محكومة بالتالي بمنطق العدو و الصديق , نحن و الآخر , لكن بالنسبة لباهرو كان التغيير يشترط ثورة ثقافية لا سياسية فحسب , لذا كان يجب تغيير الممارسة السياسية الراديكالية , القضية لم تكن السلطة بل الإجماع , الذي ما زال يميل لصالح الحفاظ على الوضع القائم , و الذي يلهث خلف وعود و تصورات النظام الصناعي الرأسمالي , الذي يجب استبداله بإجماع جديد في سبيل اقتصاد تشاركي جديد , أراد باهرو من اليسار الراديكالي أن يوسع و يعزز و ينظم هذا الوعي المعارض ليتحول إلى حركة ثورية ثقافية تقوم بالتغيير . أخيرا ترك باهرو الحزب عام 1985 قائلا "الخضر أسوأ من مجرد كونهم بلا فائدة , لقد أصبحوا جزءا من النظام لدرجة أنه على الرأسمالية أن تخترعهم إذا لم يفعلوا هم ذلك" . أصبح بعدها باهرو محاضرا في العلم البديل الذي اعتبره ضرورة لمواجهة ثقافة الاستهلاك السائدة .
في عام 1990 عاد باهرو إلى ألمانيا الشرقية و شارك في تأسيس حزب الاشتراكية الديمقراطية الذي حل مكان الحزب الاشتراكي الموحد الحاكم سابقا و عاد لمهنة التدريس في جامعة هامبولدت ليحاضر عن المخاطر التي تهدد النظام البيئي , و شارك في المبادرات الجماعية للحفاظ على البيئة مثل القرية البيئية قرب دريسدن و في تأسيس المعهد الاجتماعي البيئي في برلين .
في عام 1994 شخصت إصابة باهرو باللوكيميا , عاش بعدها لثلاثة سنوات . توفي باهرو في الخامس من ديسمبر 1997 .
كان باهرو من أوائل من انتقدوا الآثار المدمرة لبيئة الأرض للنظامين الصناعيين الحديثين : اشتراكية الدولة البيروقراطية و الرأسمالية , و اعتبر أن كلا من النظامين يقومان على سياسات تطور غير محدودة تعتمد على موارد كوكبنا المحدودة مما يعني تدميرا مؤكدا لهذا الكوكب و لبيئته .
تشير بعض الإحصائيات اليوم إلى أنه لو قام سكان الأرض بالاستهلاك بذات معدل استهلاك كبار المليارديرات أو أكثر أثرياء الأرض غنى لانتهت موارد الأرض خلال فترة تتجاوز بالكاد العشرة دقائق , هذه الحقيقة المفزعة لا تشير فقط إلى فداحة انعدام العدالة في النظام القائم بل إلى الطابع التدميري لهذا النظام , عندما يقوم سادة هذا النظام و المنتفعين منه بدفعه دون توقف نحو نهايته و نحو دماره النهائي , عوضا عن أن يفعل ذلك ضحاياه الذين لا يفتقرون فقط لامتيازات أولئك السادة بل و يضطرهم هذا النظام للعيش في حالة فقر مادي و معنوي للحفاظ على امتيازات السادة , هذا يجعل قضية الانعتاق من الظلم الاجتماعي و السياسي للنظام الرأسمالي أو لاشتراكية الدولة البيروقراطية هي في ذات الوقت , كما قال ذلك باهرو منذ وقت طويل , قضية بقاء البشرية ذاتها....


المصادر
1 ) Rudolf Bahro ( 1935 – 1997 ) : A Tribute , //home.ca.inter.net/~greenweb/Rudolf_Bahro.html
2 ) The way forward : red or green ?
www.iol.ie/~mazzoldi/toolsforchange/zine/imb96/toc.htm
3 ) Rudolf Bahro on Wikipedia
4 ) www.democracynature.org/dn/vol4/hart_melle_bahro.htm#_ednref1

التعليقات

شكرا على جهودك ياأخ مازن من اهم اشكال الهستيريا الجماعية في وقتنا الحالي هو التطرف والمبالغة والمغالاة سواء في التدين او التحرر

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...