تركيا بين خطط التاريخ والإرادة والمصالح
الجمل ـ محمد الحصني: يرسم تاريخ 1999م في تركيا اربعة احداث خطيرة في حياة الجمهورية التركية، كانت هذه الاحداث محصلة مقدمات طويلة تقاطعت في هذا العام لتعزز مصالح وخطط وتوجهات جديدة لم تكن غريبة عن مقدماتها السابقة. لنبدأ بالأحداث حسب الترتيب الزمني:
الحدث الأول (القرآن دليلنا وطوران هدفنا)
18 نيسان 1999م بدأت الانتخابات البرلمانية، دخلت فيها عشرة أحزاب استطاعت خمسة منها الدخول إلى البرلمان بعد تخطيها نسبة 10% من الأصوات (وهو شرط الدخول إلى البرلمان)، أكثر ما يلفت الانتباه في هذه الانتخابات هو حصول حزب الحركة القومية (الفاشي) على 18,2% من اصوات الناخبين، أي على 130 مقعد في البرلمان ليحتل المرتبة الثانية في الترتيب. ليس وصول هذا الحزب المتطرف إلى البرلمان - رغم أنها المرة الاولى (حيث لم يستطع هذا الحزب عبر عقود الستينات وحتى السبعينات والثمانينات تجاوز نسبة 10% من أصوات الناخبين)- هو الحدث المهم بل تفسير هذا الوصول القوي وسببه، حزب الحركة القومية الذي كان عبر تاريخه في صدام مع التيارات اليسارية والاسلامية، وبدأ من الثمانينات رفع شعار (القرآن دليلنا وطوران هدفنا) حيث حصل على دعم غير مسبوق من حزب الفضيلة الاسلامي.
وبهذا انتهى تاريخ طويل من الصراع بين التيار الإسلامي والتيار الطوراني، هذا الصراع الذي انتهى لصالح الطورانيين مع نهاية الدولة العثمانية. ليبدأ نوع جديد من التلاقي على أهداف واضحة جدا.
الخطاب الطوراني في تركيا لم يخفِ نفسه يوما، حيث يقول الطوراني الشهير نهال أدسنر لأحدى الصحف التركية عام 1975 (إن الطورانية هي هدفنا الاسمى، لأنها سامية ونبيلة ومخاطرة عجائبية. أمس عام 1939 كان الدور على هاتاي (لواء اسكندرون) واليوم على قبرص، وغدا سيأتي دور تركيا الغربية وكركوك في العراق، وفي يوم لاحق سيأتي دور أذربيجان هذه حقيقة ثابتة، ونحن نأمل أبعد من أذربيجان، لا يدفن أحد رأسه في الرمل.)
الحدث الثاني: (نحن موجودون)
في 29 تشرين الأول 1999م، وفي سابقة لها ما بعدها، يظهر الماسون الأتراك إلى العلن لأول مرة في تركيا في ذكرى استقلالها. إذ أن مجموعة منهم سارت في شارع الاستقلال في استنبول إلى نصب أتاتورك في ساحة التقسيم، في حين أن وفدا آخر قصد ضريح أتاتورك (برئاسة رئيس المحفل الماسوني ساحر طلعت أقيق) مع 40 ماسوني. وكالعادة سجل كلمة في سجل الشرف، حيث احتفل الماسون الاتراك هذا العام بذكرى مرور 90 عام على تأسيس محفلهم الكبير في تركيا عام 1909م. ليفاجأ الجمهور التركي أن الحركة الماسونية التركية ليست محفل تاريخي افتتح أمام الجمهور للزيارة في نيسان من نفس العام في شارع نورضيا في (باي أوغلو) في استنبول، بل هم حركة منظمة مستمرة لها 160 فرعا في ثماني مدن و 12 ألف عضو من مختلف الاتجاهات السياسية.
الحدث الثالث (تركيا، اذربيجان، جورجيا، قازخستان)
في 18 تشرين الثاني 1999م، يحقق الحلم الذي انتظرته تركيا سبع سنوات، فقد وقع في استنبول رؤساء كل من تركيا واذربيجان وجورجيا وقازخستان، بحضور الرئيس الأمريكي بيل كلينتون والارمني روبرت فوتشاريان (بصفة مراقب) على أربع مستندات أنهت أطول الحروب السياسية والاقتصادية التي خاضتها تركيا، هذه المستندات هي:
1- اتفاق خط باكو - تبليس – جيحان: بين اذربيجان وجورجيا وتركيا
2- اعلان استنبول: بين اذربيجان وجورجيا وقازخستان، ويتعلق بتأمين التمويل اللازم واتخاذ الاجراءات الضرورية لبدء خط باكو – جيحان العمل في 2004.
3- اعلان خط انابيب الغاز الطبيعي إلى أوروبا: بين تركمانستان وتركيا والمقرر إنهاؤه في أواخر 2002.
4- اتفاق تعاون بين اذربيجان وتركيا من أجل تطوير الغاز الطبيعي وتسويقه في اذربيجان.
على الصعيد الاقتصادي المباشر فإن خط باكو جيحان يضمن وصول النفط والغاز بصورة منتظمة إلى تركيا وبأسعار رخيصة، فضلا عن عوائد مرور الخط في الأراضي التركية والتي تقدر سنويا بنحو 300 إلى 400 مليون دولار، وسيتحول خليج اسكندرون، حيث ينتهي خط باكو جيحان، بالإضافة إلى ميناء طاليق ، حيث يصب في الخليج نفسه خط النفط العراقي، إلى مركز دولي للنفط، وستتحول تركيا إلى أحد المصادر الأساسية في العالم لتسويق النفط. لذلك كانت الرعاية الأمريكية مطلوبة.
الحدث الرابع: (تركيا والاتحاد الأوربي)
11 كانون الأول 1999م اعتبر يوما متميزا وحدثا تاريخيا لتركيا شعبا وحكومة، واستثنائيا بجميع المقاييس، عندما التزم بولنت أجاويد باسم الحكومة والنظام التركي في قمة هلسنكي بالشروط الثلاثة التي وضعها الاتحاد الاوربي كشرط أساسي ومسبق لترشيح تركيا لدخول الاتحاد الاوربي وهي:
1- التزام معايير كوبنهاجن حول الديمقراطية وحقوق الإنسان والأقليات.
2- تسوية الخلاف بين تركيا واليونان في بحر ايجه حتى عام 2000م بطرق سلمية وفي حال تعذر ذلك، رفع الخلاف إلى محكمة العدل الدولية في لاهاي.
3- حل المسألة القبرصية بصورة سلمية، وفي حال التعذر، لن يكون شرطا مسبقا يحول دون انضمام قبرص إلى الاتحاد الأوربي.
طبعا الالتزام بمعايير كوبنهاجن يعني إلغاء القيود المقيدة لكل أنواع الحريات، ولا سيما حرية الفكر والتعبير السياسي وغير السياسي، وإلغاء المؤسسات التي تلحظ دورا مباشرا في القرار السياسي ومنها مجلس الأمن القومي والجيش، كما يعني منح الأكراد حقوقهم الثقافية. جاء قبول تركيا كمرشح في الاتحاد الأوربي في سياق العلاقات الاستراتيجية الامريكية التركية وإيلاء واشنطن أهمية فائقة لدور تركيا في رسم خارطة للعالم في القرن الحادي والعشرين، والذي عبر عنه الرئيس كلينتون في تشرين الأول 1999م بقوله: (إن الاتجاه الذي ستتخذه تركيا سيحدد الشكل الذي سيتخذه العالم في القرن الحادي والعشرين.)
جميع النخب السياسية في تركيا أيدت الترشيح واحتفت به، الأحزاب العلمانية رأت في تركيا الدولة الاسلامية الوحيدة القادرة على دخول في علاقات متكافئة ومثمرة مع الغرب. بالمقابل التيار الاسلامي يعتبر الترشيح وما نتج عنه اتجاه ممتازا للديمقراطية والقيم العالمية وحقوق الانسان والحريات المدنية التي لم يكن ممكنا تحقيقها عبر الديناميكية الداخلية، بينما ستكون ممكنه تحت مظلة الاتحاد الأوربي، وفي هذا الفهم اعتراض على تدخل الجيش التركي الدائم (1960\1971\1980\1997) عند ظهور حكومات عاجزة وفاشلة في حل أزمات داخلية وصلت لمرحلة الخطر.
وحده الجيش، رئاسة الأركان، أصدرت كتيبا في أقل من شهر على قبول الترشيح بعنوان (الموضوعات الراهنة) وقد شعرت فيه بالخطر الماثل وفيه (إن عدم السماح، في بلدنا، لتشكيل سياسي يسعى لإلغاء العلمانية وتصفية الديمقراطية (الكلام موجه للأحزاب الاسلامية) ليس مخالفا للديمقراطية، بل يقوي هذه الديمقراطية، كما أن نظام الوصاية (أي تدخل الجيش في الشؤون السياسية) سيستمر، والذين يريدون إلغاء هذا النظام هم ذوو النوايا الخبيثة. وفي ظل ظروف بلدنا، فإن الديمقراطية هي بهذا المقدار فقط.)
أربعة احداث في عام واحد تحمل معها وجها سياسيا واقتصاديا واجتماعيا عالميا لتركيا، فتحت لها في منطقتنا أدوار وسياسات ومصالح جديدة. أربعة أحداث تجلت فيها كل إشكاليات الوضع الجغرافي التركي وعلاقته بالمشرق العربي.
مع تفكك الاتحاد السوفيتي 1990 وبروز الولايات المتحدة (الحليف الأوثق لتركيا) كمالك وحيد للعالم، بدأ طموح تركيا لتحتل مركز اقليمي في الشرق الأوسط، خاصة أن تفكك الكيان السوفيتي أدى إلى ظهور ست دول إسلامية معظم سكانها يتكلم التركية ويدين بالإسلام، لتبدأ القيادات التركية وبمختلف أطيافها تولي التوجه الطوراني والإسلامي اهتماما كبيرا.
تفكك الاتحاد السوفيتي كان بداية لرسم خطط جديدة في تركيا، طالما تغنت بها الطورانية التركية، ولم يكن دخول التيار الإسلامي واندماجه فيها سوى قضية وقت.
يبين ماهر قانيان، المدير السابق للاستخبارات التركية ذلك بوضوح عندما قال في جريدة الحياة 28\4\1990: ( إن خريطة للعالم ترسم الآن، ويحضر لتركيا دور طليعي بين الدول الإسلامية في الشرق الاوسط، وهذا يختلف عن الدور الذي رسم لها في لوزان، ومع ذلك فإن الأصوليين الإسلاميين في تركيا لا علاقة لهم بذلك، هناك سيناريو يتجاوزهم، فيمكن أن يستفيدوا منه.)
الطريقة المثلى لفهم السياسة التركية وارتباطاتها بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، تنطلق مع الحدث المخرب للمنطقة (حرب الخليج والدخول العراقي إلى الكويت)، حيث ظهر تلهف الرئيس التركي، تورغت أوزل في ذلك الوقت، للخلاص من القوة العسكرية العراقية الضخمة بعد الحرب الإيرانية العراقية وفي الوقت نفسه كانت الفرصة المناسبة للتخلي عن مبدأ الحياد الإيجابي إزاء قضايا الشرق الأوسط، فقال في جريدة Meillitet بتاريخ 26\10\1992 ( لولا الحرب العراقية، الإيرانية لما كان لمشروع الغاب، وخصوصا سد يد أتاتورك أن يبصر النور) ثم يتابع قائلا: (إن ضرب العراق، بعد احتلاله الكويت، كان بمثابة عناية إلهية ساعدتنا). بينما قال وزير الخارجية التركي وقتها، ممتاز سويسال: ( إن الخطر الخارجي على تركيا مبالغ فيه من قبل الذين يريدون أن يروا تركيا شرطي الشرق الأوسط.) لذلك كان موقف قيادة الأركان التركية واضحا في معارضة طلب تورغوت أوزال لإرسال قوات تركية إلى السعودية، وبلغت المعارضة العسكرية ذروتها في كانون الأول 1990 حين استقال رئيس الأركان التركي نسيب تورمطاي، على إثر إهانة شخصية من تورغوت أوزال له ولنسيبه وزير الدفاع، على خلفية موضوع إرسال قوات تركية إلى السعودية.
لكن (مشروع الغاب ؟؟ يد أتاتورك ؟؟ عناية إلهية ؟؟)
مشروع الغاب (GAP) باختصار، يشمل 13 مشروعا لتوليد الطاقة الكهربائية، سبعة منها على الفرات، وسته على دجلة، تروي السدود على الفرات مساحة تقدر بـ (1083458) هكتار، أما سدود دجلة فتروي مساحة تقدر بـ (557834) هكتار. كان المشروع مستترا تحت شعار (تطوير المناطق الكردية) لكنه تم لهدف سياسي بامتياز، شرحه أوزال بشكل مستتر في خطاب افتتاح أحد السدود في 13\1\1990 عندما قال: (إن هذا المشروع لن يغطي حاجات تركيا فحسب، بل إنه يسد جميع حاجات منطقة الشرق الأوسط من المواد الغذائية والمنتوجات الصناعية.)
إنه الاستعداد الواضح لانحلال أنظمة الكتل والزعامات الكبرى، نتيجة التطورات الحاصلة في ذلك الوقت في العالم وأوروبا الشرقية بالتحديد، حيث سيثار بالتأكيد مستقبل أنظمة الزعامة الإقليمية، وتركيا تطمح وتستعد لتصبح زعيمة الشرق الاوسط في المستقبل.
لتبدأ تركيا بمحاولة الدخول إلى المنطقة من بوابة المصالح الغربية التي يمكن أن تخدم أطماعها، البابان الأفضل هما اسرائيل والاتحاد الأوربي، خاصة في حال توفر الرعاية الأمريكية المخططة والمشرفة على نتائج هذا الدخول والمحددة لآفاقه.
منذ عام 1990 خطت تركيا في هذين البابين خطوات جبارة، على صعيد العلاقة مع اسرائيل أو الاتحاد الأوربي في نفس الوقت. صحيح أن العلاقات الدبلوماسية بين الدولتين انخفضت في الثمانينات إلى مستوى السكرتير الثاني، إلا أنها وفي بداية التسعينات عادت إلى مستوى السفير، لتصل في عام 1996 إلى إقامة الحلف العسكري الاستراتيجي. وبدأ من منتصف التسعينات بدأ تركيا تستعين بإسرائيل في علاقاتها الخارجية مع الولايات المتحدة والاتحاد الأوربي حيث أصدر شمعون بيريز في النصف الثاني من عام 1995م تعليماته إلى جميع سفرائه في أوروبا بالتركيز على شرح مدى أهمية الاتفاق الجمركي بين الاتحاد الأوربي وتركيا، وفي تقريب أنقرة من الغرب. ولم يتردد شمعون بيريز في استخدام علاقاته الشخصية مع النواب الاشتراكيين في البرلمان الأوروبي لإقناعهم بالتصويت في 9 كانون الأول 1995 إلى جانب قرار إقامة اتحاد جمركي مع تركيا، ولا يجب أن يمر علينا الوعد الاسرائيلي لتركيا على لسان سفير اسرائيل في واشنطن بتاريخ كانون الثاني 1996: بدمج المصالح التركية في معادلة الشرق الأوسط. لتدخل العلاقات التركية الاسرائيلية مرحلة جديدة في 23\2\ 1996م حيث وقع البلدين على اتفاق للتعاون العسكري وما تلاه من اتفاقيات مكملة لهذا التعاون. عدد هذه الاتفاقيات 24 اتفاق ومشروع للتعاون العسكري مع تركيا، أهمها:
- مشروع تحديث طائرات إف 4. المسؤولة عنه شركة (اسرائيلي إيروسبيس إند ستريز) لتحديث 54 مقاتلة بتزويدها بمعدات الحرب الألكترونية بتكلقة 600 مليون دولار من خلال قرض بضمان الحكومة الإسرائيلية.
- مشروع تحديث طائرات إف 5.
- تصنيع طائرة تدريب مشتركة دون طيار، وأخرى بطيار، بهدف المراقبة.
- مشروع مشترك مع اسرائيل وأمريكا لتطوير صواريخ مضادة للصواريخ (باتريوت).
- تطوير الدبابة (إم 60) والحصول على 600 دبابة جديدة (ميركوري).
- تغيير بنادق الجيش التركي بالبنادق الاسرائيلية (رايفال).
- توريد إسرائيل لتركيا أجهزة إلكترونية خاصة لمراقبة الحدود، ورادارات لطائرات إف 4.
- تقدير مشترك للمخاطر كل 3 شهور على مستوى الفنيين، وكل 6 شهور على مستوى وزراء الدفاع ورؤساء الأركان. تم الاتفاق حوله عندما زار وزير الخارجية الاسرائيلي ديفيد ليفي أنقرة في إبريل 1997م وهي خطة أطلق عليها اسم (تقدير المخاطر) لتقدير المخاطر المحتملة من ايران وسوريا ضد تركيا واسرائيل.
- تبادل المعلومات الاستخبارية والاتفاق على (كود) سري.
- التصنيع المشترك لطائرات إف 16.
طبعا تستثمر في تركيا 43 شركة اسرائيلية في مختلف المجالات بعد مصادقة البرلمان التركي على مشروع تشجيع وحماية الاستثمار بين تركيا واسرائيل في آب 1996.
هناك اتفاقية آذار 1996 للتجارة الحرة بين البلدين، واتفاقية لمنع الازدواج الضريبي واتفاقية لتنظيم إجراءات الجمارك بين البلدين. وربما الأكثر خطورة هو اتفاق 9\4\1997م بين البلدين للنقل البري؟ نعم، النقل البري، على أن يتم تنفيذه في حال تطبيع العلاقات في الشرق الأوسط، بالنظر إلى وقوع الكيان الشامي بين البلدين.
كما وصلت ذروة التعاون بين البلدين مع قيام المناورات العسكرية المشتركة بتاريخ 15-17 كانون الأول 1999م (حورية البحر 99) الاسرائيلية التركية الأمريكية. بالإضافة إلى التعاون الاستخباري (التركي - الاسرائيلي - الأمريكي) الذي بلغ ذروته مع اعتقال عبد الله أوجلان في كينيا بتاريخ 16\2\1999م.
ما الذي يجمع التجربتين نجم الدين أربكان – رجب طيب أردوغان؟ وانقلاب 1997
نجم الدين أربكان مؤسس حزب الرفاه (حزب اسلامي التوجه) الذي خرج منه حزب العدالة والتنمية بقيادة عبد الله غول ورجب طيب أردوغان، وهما كانا في حزب الفضيلة بقيادة أربكان.
وصل نجم الدين أربكان إلى منصب رئيس الوزراء بانتخابات 24 كانون الأول 1995م (حيث فاز حزبه بالمركز الأول بنسبة 21% من الأصوات وبعدد 158نائب من مجموع 450 نائب) حيث أعتبر أول رئيس وزراء تركي من حزب اسلامي يستلم هذا المنصب. كلف بتاريخ 7 حزيران 1996م من قبل الرئيس سليمان ديميريل بتشكيل الحكومة (طبعا بعد فشل حكومة ائتلافية) ليقوم أربكان بتشكيل حكومة ائتلافية بين حزبه (الرفاه) وحزب الطريق المستقيم بقيادة تانسو تشيللر في 29 حزيران 1996، على أن يرأس الحكومة لمدة عامين، حتى 29 حزيران 1998م، لتعقبه في العامين التاليين تشيللر في رئاسة الحكومة، حصل حزبه على 19 حقيبة وزارية مقابل 17 للطريق القويم تخلى في هذه الوزارة عن الوزارات المهمة، الخارجية والدفاع والداخلية والتجارة والصناعة والشؤون الدينية. طبعا لا تهمنا المشكلات الداخلية التي واجهها أربكان، إنما البرنامج الانتخابي الذي وصل على أساسه وخاصة ما يتعلق بالسياسة الخارجية، تحدث في برنامجه عن إقامة منظمة الأمم المتحدة الإسلامية، ومنظمة التعاون الإسلامي، ومنظمة التعاون الدفاعي المشترك للدول الإسلامية، والانتقال إلى وحدة نقد مشتركة (الدينار الإسلامي)، ومنظمة التعاون الثقافي للدول الإسلامية (اليونيسكو الإسلامية).
بمجرد إعلان أربكان للحكومة الجديدة أبدت أوربا قلقها بينما اتبعت الولايات المتحدة سياسة الترقب، فشعارات أربكان عكست معاداة للغرب والسامية والمطالبة بتكوين أمم متحدة إسلامية، واتحاد جمركي إسلامي وحلف عسكري إسلامي على غرار الناتو. كما كانت أول تصريحات له بعد تولي رئاسة الحكومة الجديدة، أنه سيبدأ بتحسين علاقاته مع الدول الإسلامية خاصة سورية وايران، وسيقوم بمراجعة الاتفاق العسكري التركي الاسرائيلي، وبإجراء تعديلات في اتفاق الاتحاد الجمركي مع اوروبا، وسيطالب برفع العقوبات الاقتصادية المفروضة على العراق، وإنهاء عمل قوات المطرقة الأمريكية البريطانية الفرنسية في شمال العراق معتبرا أنها (قوات صليبية).
إذا جئنا للتطبيق كان عمل قوات المطرقة في شمال العراق أول الاختبارات لأربكان في السلطة، فالرجل ظل لخمس سنوات يعارض تمديد هذه المهمة في البرلمان ولما جاء للسلطة قام بتمديدها لمدة أطول مثلما طالبت أمريكا والمؤسسة العسكرية، ليس هذا فحسب إنما معظم الاتفاقيات سابقة الذكر مع دولة اسرائيل خاصة في المجال العسكري والأمني تمت في عهده، وبالرغم من الانتقادات الأمريكية لزيارتي أربكان إلى ايران وليبيا فإن السياسة التركية لم تشهد انقلابا.
إذا أربكان المجاهد غير أربكان الباشبكان (رئيس الحكومة) أربكان المجاهد الذي نظم عام 1980 اجتماعا شعبيا تحت شعار (انقذوا القدس) ونودي فيه بدولة اسلامية لينتج عنه اعتقال أربكان وحل البرلمان وإعلان الأحكام العسكرية. أربكان الباشبكان المخضرم لم تغب عنه حقيقة موازين القوى داخليا وخارجيا.
داخليا، أصبح ميزان القوى في السياسة التركية لصالح العسكريين. إقليميا، تبدو إسرائيل القوة المسيطرة في الشرق الأوسط والمفتاح القوي العلاقات التركية مع الغرب. عالميا، تحولت أمريكا لأن تصبح القطب الأوحد في النظام الدولي.
وجاء حادث 4 شباط 1997 ليؤكد قناعات الباشبكان، حيث عقد رئيس بلدية ضاحية سنجان في انقرة اجتماعا شعبيا للاحتجاج على ممارسات اسرائيل في القدس، فتدخل الجيش واعتقل رئيس البلدية، وسكت أربكان وبلع الإهانة. كما ان خطة تقدير المخاطر التي تحدثنا عنها بين تركيا واسرائيل وجرى التوقيع عليها أثناء زيارة وزير الخارجية الاسرائيلي، جرت بدون علم رئيس الحكومة. ما وعد به أربكان وهو في المعارضة، مختلف تماما عن سياسته بعد توليه رئاسة الحكومة، فهل من تفسير؟
المؤيدون البسطاء لحزب أربكان يقولون عن اسرائيل: (نلعنها .. ولكنها تحقق مصالح تركيا). أعضاء الحزب البارزين يقولون: (الحزب أصبح في السلطة دون أن يكون مستعدا لها). أما الحقيقة فهي أن الولايات المتحدة والمؤسسة العسكرية في تركيا رسمتا خطوطا حمراء لأربكان، وتحديه لأمريكا والجيش كان معناه تقويض اللعبة السياسية وحدوث انقلاب عسكريِ. حدث الانقلاب كما هو متوقع لكنه لم يكن عسكريا بل مدنيا، فعندما قدم أربكان استقالته المتفق عليها، قام الرئيس سليمان ديميريل بتعيين مسعود يلماظ رئيس للحكومة ليشكل حكومة ائتلافية مع تشيللر، طبعا كان الموضوع مخطط له مع الأركان العسكرية في المجلس القومي التي قدمت تقريرا طويلا عن خطر أربكان الذي يهدد الجمهورية والعلمانية التركية، ليحل حزب الرفاه، كما كان متوقعا من قبل أربكان، الذي أوعز إلى رجائي قطان بتأسيس حزب الفضيلة. أما حكومة يلماظ - تشيللر فتم تأمين الثقة لها من خلال ضغوط العسكريين على نواب حزب أربكان وحزب تشيللر والمغريات والوعود، حيث تقلصت أحجام كتلهما النيابية. لكم ان تتخيلوا جلسة الثقة التي عقدت في 12 يوليو كم كانت حافلة بالشتائم والعراك بالأيدي بين النواب العلمانيين والاسلاميين ليصل الموقف أن سحب أحد النواب الاسلاميين مسدسا، مما تسبب في توقف التصويت عدة مرات. لتحصل حكومة يلماظ على ثقة البرلمان بـ 281 صوت مقابل 256 صوت معارض من أصل 550 صوت، طبعا أمتنع نائبان عن التصويت، وتغيب ثمانية عن الحضور وأغلبهم منشقون عن حزب الطريق القويم.
ماذا نستفيد من تجربة أربكان المؤقتة لننطلق منها في فهم تجربة أردوغان المستقرة والملفتة للنظر بعدد دورات نجاحه في الوصول إلى رئاسة الحكومة؟
إذا وضعنا النسبة الهشة التي وصل فيها أربكان إلى رئاسة الحكومة (21%) وهي نسبة تجاوزها أردوغان، نجد أن السلطة العسكرية (التي بالمناسبة تكلمت في تقريرها المرفوع إلى مجلس الأمن القومي أن وصول أربكان إلى السلطة بالدورات الانتخابية القادمة بنسب أكبر هي مسألة وقت في حال لم يوضع لنشاط حزبه حد واضح) كانت قوية وقادرة مع أربكان، هي مستسلمة لقدرها مع أردوغان. من جهة أخرى ربما من الحق القول أن أربكان كان يبحث عن زعامة اقليمية لتركيا في وسط اسلامي، لكن للحقيقة أربكان كان أكثر استقلالا وجذريا جدا، بينما بحث أردوغان عن هذه الزعامة ينطلق من باب التقرب إلى الغرب الذي منذ عام 1990 يعلم أن غياب قوة عالمية عن المشهد الدولي يسمح بظهور قوى اقليمية، ولم يكن ما تقدم من عرض تاريخي مبسط للمشهد التركي من التسعينات ،خاصة طبيعة العلاقة مع اسرائيل وهي أقدم من 1990 والاتحاد الأوروبي، سوى فسح طريق محدد الاتجاه والمعنى لشكل العلاقة التركية مع العالم العربي، تركيا تريد التحول مع أردوغان إلى قوة اقليمية على حساب تفتيت دول المشرق العربي بالتحديد.
أردوغان هو أربكان نفسه، الفارق الحقيقي هو أن الأحداث الأربعة التي ذكرتها في مقدمة المقال، كانت خلاصة لاستراتيجية موجودة قبل عام 1990 وهي جزء من تاريخ الجمهورية التركية ونشأتها، لكنها كانت خفية عن قدرة الفعل والتصرف، اتضحت المعالم بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، قام الغرب بتوجيهها بأساليبه الناعمة من معاهدات لها مفاعيل ونتائج محددة، تحدد شكل القادم من إدارة المصالح والنفوذ.
القرآن دليلنا وطوران هدفنا! الرعاية الماسونية المحققة المكشوفة! تركيا أحد المصادر الأساسية لتسويق مصادر الطاقة في العالم! وأخيرا تهذيب الجيش التركي في دولة من دول العالم الثالث لتعزيز ديمقراطية يريدها الغرب في تركيا!
إن أردوغان هو أربكان لكنه بمخالب مقدمة بمعظمها من القوى العظمى في العالم، لصناعة شرق أوسط جديد (رسم خارطة جديدة للمشرق العربي بالتحديد ومسائله المعلقة منذ انهيار الدولة العثمانية).
ملامح هذا الشرق الأوسط الجديد، تتحدث عن نفسها بما يسمى الربيع العربي وصعود حركات اسلامية تحت شعار (الانتخابات الديمقراطية بعد رحيل الدكتاتور) لتنتج هذه الشعوب بأسباب تخلفها وبأسباب طغيان الدكتاتوريات العسكرية عبر تاريخها، دكتاتوريات اسلامية جديدة حاكمة بشرع الله، ربيع مدعوم بالأموال من مشيخات بائدة تريد انتاج أشكالها المتخلفة حضاريا في أعرق الأمم. كل هذا يعني وصول الاسلام الساسي إلى الحكم في المناطق الملتهبة في العالم، ليتحول مفهوم الصراع القادم إلى مفاهيم دينية استخدمها مرسي مخاطبا (صديقه) رئيس الكيان الاسرائيلي، ربما هي قضية وقت قبل أن نسمع بأن أصدقائه هم أبناء عمومته.
تتعلق مصالح تركيا أمام الغرب بالمسؤولية والمساهمة في صعود الاسلاميين إلى الحكم، باختصار ليعود مجد طوران الذي دليله القرآن.
تركيا تقصف ليبيا؟ نعم. ولو اضطر الأمر أن تقصف مصر مبارك لكان الأمر وكذلك تونس زين العابدين، لفعلت.
تبقى أسئلة جوهرية علينا أن نجيب عليها لأنها تساوي وجودنا.
هل تركيا قادرة حقا على أن تكون جزء من مشروع البحار الخمسة؟ أم أن هناك مشروع بديل في خططها؟
إلى أي حد يمكن لنا أن نعتبر تركيا كانت وسيطا نزيها في مباحثات السلام مع اسرائيل؟ وهي تتأبط كل معاهدات التعاون العسكري الاقتصادي مع كيان العدو؟
هل سيشكل رحيل شخص أردوغان عن الحكم فرقا في السياسة التركية تجاهنا؟
تركيا تتحدث عن القومية الطورانية، عن أي قومية نتحدث نحن؟ من نحن؟
إضافة تعليق جديد