أوكرانيا: هل يكرّر بايدن خطأ أوباما في سوريا؟
ليلى نقولا:
في مؤتمر صحافي، بمناسبة مرور عام على تنصيبه رئيساً، هدّد الرئيس الأميركي جو بايدن بأن غزو أوكرانيا “سيكون كارثة لروسيا”، محذّراً موسكو من خسائر “فادحة” في الأرواح في ساحة القتال، وعقوبات “قاسية” غير مسبوقة، على الصعيد الاقتصادي.
وفي خضمّ التصعيد المتبادَل، كشفت مجلة “بوليتيكو” أنَّ وزارة الخارجية الأميركية أعطت الضوء الأخضر لثلاث دول في حلف “الناتو”، لاتفيا وإستونيا وليتوانيا، من أجل إرسال صواريخ مضادة للدروع وغيرها من الأسلحة الأميركية إلى أوكرانيا، كما أعلن وزير الحرب البريطاني، بن والاس، أنَّ بلاده ستزوّد أوكرانيا بأنظمة سلاح “دفاعية”.
إذاً، يراهن جو بايدن وعدد من أعضاء حلف “الناتو” على استنزاف الروس في حرب طويلة الأمد، تُغرق الجيش الروسي في حرب المدن في أوكرانيا، وتستنزفه مادياً وبشرياً، في الوقت الذي يقوم الأميركيون بوضع عقوبات شاملة على البنوك الروسية، علماً بأن الرهان على استراتيجية الاستنزاف سبق أن حاول الرئيس الأميركي باراك أوباما تطبيقه في سوريا، بحيث توعّد الروس بحرب استنزاف طويلة الأمد تُغرقهم في المستنقع السوري. وهو، من أجل ذلك، قام بتمويل المعارضة السورية وتزويدها بأسلحة مضادة للدروع.
كما حاول أوباما تطبيق استراتيجية الاستنزاف على الجيش السوري وحلفائه من الإيرانيين وحزب الله، فاندفع إلى خلق حالة من التوازن الميداني بين كل من الجيش السوري وحلفائه من جهة، وبين المجموعات الإرهابية من جهة أخرى، بحيث تقوم حرب الكل ضد الكل، فتكون نتيجتها خسارةً للطرفين وربحاً صافياً للأميركيين، وهو ما تجلّى في قيام التحالف الدولي بضرب الجيش السوري في جبل الثردة، بعد تقدُّمه في معارك طاحنة كان يخوضها مع تنظيم “داعش”.
لكنّ استراتيجية الاستنزاف التي توعَّد بها أوباما لم تنجح، ولم يستطع الأميركيون ردع روسيا عبر تهديدها بالاستنزاف، بل تدخَّل الروس عسكرياً في الجغرافيا السورية، وقلبوا موازين القوى في المنطقة لمصلحتهم. ومن غير المرجَّح أن تُثني تهديدات جو بايدن، اليوم، بوتين عما ينوي القيام به في أوكرانيا، وذلك لأهمية أوكرانيا بالنسبة إلى الأمن القومي الروسي.
تُعَدّ أوكرانيا إحدى “دول الحاجز”، التي تفصل جغرافياً بين أوروبا وروسيا. ولطالما كانت هذه الدول – تاريخياً – جزءاً من استراتيجية منع الحرب بين روسيا القيصرية والدول الاستعمارية الأوروبية.
تُعتبر “دول الحاجز” مهمة جداً للأمن القومي الروسي، بسبب غياب الموانع الطبيعية التي تحمي روسيا من الغزو. ويطغى على العقل الاستراتيجي الروسي الخوفُ التاريخي من الغزو. واختبر الروس وصول كل من نابليون وهتلر إلى الأراضي الروسية، ومحاولة احتلالها، الأمر الذي كبّد الروس خسائر هائلة في الأرواح، وتدمير المدن، من أجل ردّ الاحتلال.
وبسبب قلق الجغرافيا، واستناداً إلى العِبَر التاريخية، يسعى الروس دائماً للخروج من أجل قتال الأعداء استباقياً في “دول الحاجز”، قبل أن يصل العدو إلى الأراضي الروسية، ويصبح القتال أصعب وأكثر تكلفة.
تتشكّل “دول الحاجز” عادة في مناطق توجد فيها دول كبرى متنافسة. ويتم تعريفها بأنها دول صغيرة وضعيفة تفصل بين دولتين قويتين تسعى كلٌّ منهما للهيمنة على محيطها. وغالباً، ما تعاني تلك الدول انقساماً داخلياً، سببه الأساسي خياراتُ التعامل مع السياسة الخارجية.
وتكون أمام “دول الحاجز” ثلاثةُ خيارات في سياساتها الخارجية:
– الخيار الأول: الحياد بين الدولتين المتصارعتين. لكنّ هذا الأمر يشترط أن يعترف الطرفان القويان بهذا الحياد، ويَقْبَلاه.
– الخيار الثاني: أن تنحاز “الدولة الحاجز” إلى طرف من دون الآخر، وهذا يجعلها بحماية طرف قوي، الأمر الذي يجنّبها الغزو. لكن الصعوبة تكمن في قبول الطرف المتضرر من هذا الانحياز هذا الوضعَ. لذا، على “الدول الحاجز” قياس مدى تصرفاتها وقراراتها في هذا الخيار الدقيق، وإلاّ تحوّلت إلى الخيار الثالث الكارثي.
– الخيار الثالث: أن تتحوّل الدولة الحاجز” إلى ساحة حرب يتقاتل فيها الطرفان المهيمنان على النفوذ في تلك الدولة. وبالتالي، تتكبّد خسائر هائلة، وتتنازعها الأزمات، وقد تصل إلى الحرب الأهلية.
المشاكل التي تعانيها أوكرانيا، منذ عام 2014، هي بالتحديد عدم قيامها باحتساب مقوّمات الجيوبوليتيك التي تحيط بها، وتنكّرها لأسس الجغرافيا والديمغرافيا والتاريخ وسواها… إن قيام الثورة الأوكرانية عام 2014، والمدعومة من الغرب، والتي وضعت ضمن أهدافها إيصالَ نُخَب سياسية مؤيِّدة للانضمام إلى حلف “الناتو”، في خطوة تمسّ موازين القوى في منطقة استراتيجية خطرة جداً، حوّل أوكرانيا إلى ساحة حرب بالوكالة، فخسرت أجزاء من أراضيها، وباتت قدرتها على الدخول في حلف “الناتو” مستحيلة.
ما يعرضه الروس اليوم، ويرفضه الأوكرانيون وحلف “الناتو”، هو الاتفاق على الخيار الأول: حياد أوكرانيا، علماً بأن الرفض سيحوّل الساحة الأوكرانية إلى ساحة حرب بالوكالة بين “الناتو” وروسيا (الخيار الثالث). ولن تكون حرباً تقليدية بالتأكيد، إذ إن الروس يُتقنون جيداً أسس حروب الجيل الخامس (الحروب الهجينة)، والتي تعتمد على حرب المعلومات واتِّباع سياسة الغموض. وهذه تجعل من الصعب استنزاف الجيش النظامي الروسي في حرب مكلفة، كما يهدّد بايدن.
إن قيام الروس بخطوات تؤدّي إلى اقتطاع أقاليم من أوكرانيا، وضمّها إلى روسيا، أو إعلان استقلالها، كما حدث مع جورجيا عام 2008، سيعني هزيمة “الناتو”، وهزيمة بايدن شخصياً. وهو أمر من الصعب على بايدن تخطيه بعد انسحاب أميركا الفوضوي من أفغانستان، وفي سنة مفصلية على أبواب انتخابات نصفية للكونغرس، وفي ظل تدنّي شعبيته إلى أدنى درجة بين الرؤساء الأميركيين. لذا، يبقى الخيار الدبلوماسي هو الحل الأفضل، لكنه سيؤدي – عملياً – إلى إعطاء روسيا ما تريده في أوكرانيا سلمياً.
الميادين
إضافة تعليق جديد