تركيا تحرّك أذرعها العسكرية شمال حلب
يتزامن اقتراب موعد الذكرى الخامسة لاندلاع الأزمة السورية، مع بروز تطورات سياسية وعسكرية مهمة قد تجعل من العام الجديد الذي تستعد الأزمة لولوج أول أيامه في الخامس عشر من آذار الحالي، مختلفاً بكل المقاييس عن الأعوام السابقة.
فهدنة وقف الأعمال العدائية ما تزال مستمرة، وتحظى بدعم دولي واضح، برغم الخروقات النسبية. كما يستعد وفدا النظام والمعارضة السوريان لاستئناف محادثات «جنيف 3» بخصوص العملية السياسية، الاثنين المقبل، أي عشية الذكرى الخامسة التي كشفت تحضيرات المعارضة لإحيائها عن وجود خلافات عميقة بين أطرافها طالت حتى النواحي الشكلية، بما فيها «علم الثورة» الذي صدر قرار من «جيش الفتح» بمنع رفعه في إدلب.
لكن هذا الجنوح نحو المسار السياسي، وما رافقه من هدوء نسبي على جبهات القتال، لم يخل من منغصات وتهديدات، خصوصاً في ريف حلب الشمالي الذي يشهد تحركات تركية مشبوهة.
ويبدو أن صمت البنادق على جبهات القتال خلق فراغاً قاتلاً لدى الفصائل المسلحة، على اختلاف انتماءاتها، دفعها إلى مراجعة حساباتها وإعادة النظر في الاصطفافات التي انخرطت بها، والتي لم تعد تتناسب مع مقتضيات المرحلة المقبلة من عمر الأزمة السورية، كما توحي المعطيات الإقليمية والدولية السائدة.
وهذه الوقفة الفصائلية مع الذات، وطبيعة التحالفات تعطي مؤشراً مؤكداً على أن الساحة السورية ستكون في القريب العاجل أمام فرز جديد لهذه الفصائل، أو بتعبير أدق أمام الفرز ما قبل الأخير، إذا نظرنا للأمر على ضوء التجربة العراقية، التي انتهت إلى انخراط معظم الفصائل في العملية السياسية والقتال ضد تنظيم «دولة العراق الإسلامية» منذ العام 2007.
وما تفجّر الخلاف حول «علم الثورة» في ادلب، إلا أحد تجليات هذا الفرز، الذي يجري على قدم وساق في مختلف المناطق السورية. وهو في حقيقته ليس خلافاً على «العلم» بقدر ما هو خلاف عميق على الايديولوجيا والانتماء، وعلى المسار الذي ينبغي اتخاذه بعد المنعطف الحالي الذي تقف عنده الأزمة السورية.
وفيما تبدو غالبية الفصائل مقتنعة بمسار العملية السياسية وتتسابق لإثبات «اعتدالها»، وبالتالي استحقاقها أن تكون جزءاً من هذه العملية، فإن العقبة التي يمكن أن تترك تأثيرات كبيرة وحاسمة، وقد تؤدي إلى انقلاب الأمور رأساً على عقب، تتمثل في موقف «حركة أحرار الشام الإسلامية» التي ما تزال منقسمة على نفسها وعاجزة عن اتخاذ موقف نهائي من الهدنة والعملية السياسية.
ويمكن القول إن المشكلة اليوم تكمن في العلاقة بين «أحرار الشام» وبين «جبهة النصرة»، لأن الانفصال المتوقع بينهما سيكون الخطوة قبل الأخيرة لتحقيق الفرز العملي والنهائي بين الإرهاب وبين العملية السياسية. ولكن متى ستتخذ الحركة هذا القرار؟ وما هي التداعيات التي يمكن أن تترتب عليه سواء بالنسبة للحركة نفسها، أو بالنسبة لمجريات الساحة ككل؟ وما سيكون رد فعل «جبهة النصرة» على ذلك؟ أسئلة أصبحت ملحة خصوصاً بعد اندلاع معركة «العلم» في محافظة إدلب.
ووقعت «أحرار الشام» في إحراج كبير، لأن ميثاق «جيش الفتح» الذي تم وضعه باتفاق الفصائل المشاركة في تأسيسه منذ آذار العام الماضي، ينص صراحة على عدم رافع أية راية في إدلب، ما عدا راية «جيش الفتح». لكن هذا البند الذي كان يتوخى تقريب الفصائل من بعضها وإعطاءها شكلاً موحداً، أصبح اليوم عاملاً للفرقة والشقاق، وربما لما هو أكثر من ذلك. وذلك لأن «جبهة النصرة»، التي اضطرت منذ بدء الهدنة، إلى إخلاء عدد كبير من مقارها في إدلب، كان آخرها مقارها في بلدة أبو الظهور، تخشى أن تكون العودة إلى موضة رفع «علم الثورة» بداية مؤامرة تستهدفها، وترمي إلى إخراجها بشكل نهائي من إدلب تحت ستار التظاهرات الشعبية. ومن هنا كان الموقف المتشنج لـ «الجبهة» من التظاهرات الأخيرة، التي خرجت في بعض قرى المحافظة حيث سارعت إلى مهاجمتها واعتقال النشطاء الإعلاميين المشاركين في تغطيتها بالإضافة إلى دوس «علم الثورة».
وبالرغم من أن «أحرار الشام» لم تعترض علناً على قرار «جيش الفتح»، القاضي بمنع رفع أي راية في إدلب إلا رايته، إلا أن بعض قادة الجناح السياسي في الحركة تعمدوا إظهار موقفهم الرافض لهذا القرار والمؤيد لرفع «علم الثورة». وكان لافتاً أن يدخل أبو عزام الأنصاري، عضو «مجلس الشورى» وعضو المكتب السياسي، من تركيا إلى مدينة إعزاز للمشاركة في تظاهرة تحمل «علم الثورة»، وكذلك فعل بعض قادة الحركة الآخرون، مثل حسام أبو بكر.
ومن الجدير بالذكر هنا، أن «جيش الفتح» لم يعد يضم في واقع الحال، سوى «أحرار الشام» و «جبهة النصرة»، لأن «جند الأقصى» و «فيلق الشام» انسحبا منه، بينما انضم «جيش السنة» إلى «أحرار الشام»، في حين اعتبر «لواء الحق» أن خروجه من «جيش الفتح» أصبح أمراً واقعاً، لذلك فإن «معركة العلم» هي في النهاية معركة كسر عظم خفية بين «الأحرار» و «النصرة».
لكن مدينة إعزاز كانت بالتزامن مع دخول الأنصاري إليها للمشاركة في رفع «العلم»، على موعد مع حدث آخر، هو دخول دفعة جديدة من مسلحي «الفرقة 31» إليها، وذلك بعد دفعة كانت دخلت في مطلع الشهر الحالي. واللافت أن محمود خلو، القيادي في «الفرقة» أطلق تصريحات نارية استهدفت بالدرجة الأولى «قوات سوريا الديموقراطية» و «داعش»، حيث تعهد بأن الفرقة «ستخوض حرباً ضد الميليشيات الكردية التي نقضت العهد مع الجيش الحر وسيطرت على عدة مواقع في شمال حلب»، واصفاً إياها بـ «الميليشيات الغدارة».
وكشف خلو أن «الفرقة 31» مدعومة من حكومة أنقرة، وتتلقى التدريبات في معسكرات داخل الأراضي التركية. وأشار إلى أن عدد عناصر «الفرقة» 661 مقاتلاً، يتواجد منهم على الأراضي السورية 270 عنصراً، فيما يواصل الآخرون تدريباتهم في المعسكرات التركية. وما يثير الاستغراب تأكيد خلو أن فرقته تحظى بدعم من تركيا ومن التحالف الدولي، لأن «قوات سوريا الديموقراطية»، التي قال إنه سيحاربها، مدعومة كذلك من التحالف الدولي وتخوض جميع معاركها تحت أجنحة طائراته. ويبلغ الاستغراب ذروته مع تأكيده أن مهمة «الفرقة 31» هي السيطرة على المنطقة الممتدة بين إعزاز وجرابلس، أي نفس الشريط الذي طالما حلمت تركيا بإقامة «منطقة آمنة» عليه، والذي يشكل في الوقت ذاته حلماً كردياً من أجل وصل «كانتونات الإدارة الذاتية» مع بعضها بعضاً.
وما يزيد من خطورة هذه المهمة، التي يبدو أنها ليست سوى الخطوة الأولى ضمن مشروع تركي جديد يرمي إلى الالتفاف على الرفض الدولي لمشاريعها السابقة، سواء «المنطقة الآمنة» أو التدخل البري كما هددت أنقرة أكثر من مرة، أنها تزامنت مع كشف وثيقة صادرة عن «أحرار الشام»، المقربة جداً من تركيا، تتحدث عن إدخال مسلحين من قوات «البشمركة» التابعة لحكومة إقليم كردستان العراق إلى شمال حلب.
وقد عثرت «قوات سوريا الديموقراطية» على هذه الوثيقة في بلدة تل رفعت، التي سيطرت عليها قبل بدء الهدنة. والوثيقة هي عبارة عن رسالة موجهة من الحركة إلى «قيادة جبهة النصرة في حلب»، جاء فيها: «بسبب الوضع الراهن نطلب من أخوتنا في جبهة النصرة الموافقة على عبور جنود من شمال العراق إلى منطقة إعزاز عبر الحدود التركية». وبغض النظر عن صحة هذه الوثيقة، فإنها تدل على وجود نية لدى الطرفين للتصعيد، ولو تطلب الأمر اختلاق ذرائع وهمية، لأن تسريب هذه الوثيقة يعني أن «قوات سوريا الديموقراطية» لن تسكت على تقدم حلفاء تركيا بين إعزاز وجرابلس، وهي تبني الذرائع للرد على ذلك، خصوصاً أن القوة المركزية التي تشكل بنية «الفرقة 31» مكونة من مقاتلين أكراد مناهضين لـ «حزب الاتحاد الديموقراطي».
إذ تتألف «الفرقة 31» من عدة كتائب، على رأسها «كتائب القدس» و «لواء أحفاد صلاح الدين» بقيادة محمود أبو حمزة. والأخير يتكون بمعظمه من مقاتلين أكراد، وكان سبق له أن هدد «قوات سوريا الديموقراطية» برد ساحق، منذ سيطرتها على بلدة منغ، في شباط الماضي.
وكانت «الفرقة 31»، بالاشتراك مع «فيلق الشام»، قد انتزعت قبل أيام قريتي دوديان وقرة كوبري الحدوديتين مع تركيا من يد تنظيم «داعش»، الذي سارع أمس إلى مهاجمة قرية يني يبان جنوب غرب دوديان للالتفاف على مهاجميه واستعادة ما خسره، وهو ما يعني أن شمال حلب قد يكون بانتظار تطورات ساخنة برغم الهدنة والعملية السياسية.
عبد الله سليمان علي
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد