تعددت المعارضات والاخفاق واحد
الاهتمام بشأن المعارضة السورية وأحوالها يكتسب الآن أهمية قصوى قياساً الى الاهتمام بشأن السلطة، التي يعتبر الكثير من المراقبين أن عمرها الافتراضي بات في حكم المنتهي. لذا صار أمر بديل السلطة الحالية هو الأكثر أهمية، خاصة أن سلامة مستقبل البلاد يتوقف على طبيعة هذا البديل. فانعدام وجود بديل قوي، بغض النظر إن كان هذا البديل من قلب النظام أم من خارجه، يكون في مقدوره استلام قيادة البلاد في لحظة افتقاد السلطة الحالية إمكانية الاستمرار، سيتسبب في تعريض وحدة البلاد وأمنها لخطر الانهيار. بل، ربما، عدم وجود مثل هذا البديل، قد يساهم في تفاقم ضعف السلطة لدرجة قد تصل إلى مرحلة الانهيار أو التداعي. فوجود بديل قوي يشكل تهديدا حقيقيا للسلطة، قد يدفعها لإصلاح حالها أو قبولها مشاركة خصومها في سلطتها. ولا يعني الانهيار أن يترك قادة السلطة مواقعهم ليذهبوا إلى بيوتهم أو ملاجئهم، بل، قد يعني فقدانهم المقدرة على السيطرة الفاعلة، ما قد يؤدي إلى انهيار أمن البلاد أو تفكك وحدتها بالرغم من استمرار وجود هذه السلطة. ورغم هذه الحال المتطلبة لوجود البديل، إلا أن واقع الحال الراهن لا يلبي هذه الحاجة. فجهات المعارضة السورية الموجودة الآن، على تعددها وتنوعها، تعاني من أزمات لبّية عدة، أهمها إخفاقها في أن تتمايز في ما بينها. فقد عجزت، كل واحدة منها، عن أن تكوّن لنفسها هوية مستقلة واضحة تُعرف وتتعرف بها. فجميع تلك القوى تتحد وتتعرف بالنظام فقط. فلا يُعرف عنها، عموماً، غير معارضتها للنظام. بل إن هذا الموقف وحده هو الذي يمايزها عن قوى سياسية أخرى معروفة بموالاتها للنظام. فضمن إطار هذه اللوحة يكفي المعارض أن يهادن السلطة في خطابه ليصبح مواليا؛ وبالمقابل يكفي الموالي، حتى لو بقي على برنامجه ومواقفه، أن يقول قولا يحرج به السلطة فيغضبها ليصبح معارضا. فالقوى المصنّفة معارضة ليست لأنها متموضعة خارج السلطة، بل لأنها مقموعة من السلطة. ففي ظل الظرف الأمني، أو في ظل النظام الاستبدادي، ليست المعارضة خيارا مقتصرا على إرادة طرف سياسي ما، بل هو خيار السلطة أساسا، إذ يكفي أن تلاحق السلطة طرفا ما، لسبب ما، حتى يصنف ضمن خانة المعارضة.
فعدم التمايز بين قوى وتنظيمات المعارضة، استنادا لبرامجها وطروحاتها وطموحاتها، هو ما جعلها، رغم عدم كثرتها، غير معروفة بتسمياتها الحزبية بل فقط بكونها من «المعارضة السورية»، إلى أن أعلنت بعض الشخصيات من أصول سورية، من المقيمين في الغرب وخاصة في الولايات المتحدة، بعيد احتلال العراق، عن تشكيل مجموعات سياسية تعارض النظام القائم في سوريا بدعم أميركي غير مؤثر، ما ولّد تسميتين: معارضة الداخل ومعارضة الخارج، من دون أن يدل ذلك على أن التمايز بينهما مأخوذ من الفضاء الجغرافي الذي تعمل به كلتا المعارضتين. فالفراق بينهما، حسب الإعلام، رفض الأولى (الداخلية) «الاستقواء بالخارج» وقبول الثانية، أو اتهامها، بمثل هذا «الاستقواء». أما جماعة الإخوان المسلمين فبقيت خارج هذا التصنيف لأسباب عديدة ليس أهمها رفضها العلني لهذا «الاستقواء» واعتمادها بدلا عنه قبولها التعاون مع «الخارج»، بل لأن هذه التسميات تعود في الأساس للمعارضة الموجودة في داخل سوريا، التي لم تجد غير مسألة التطهر من «الاستقواء بالخارج» لتمايز نفسها عن غيرها، ووجدت في الإخوان الجهة البديلة التي يمكن أن يستقووا بها على السلطة الحاكمة. غير أن الفارق الجوهري بين معارضة الداخل ومعارضة الخارج هو أن الأخيرة حاولت الاستفادة من بُعدها عن قبضة النظام الأمنية فقامت منذ البداية على القطيعة مع النظام، معتبرة أنه لا بد من استبداله. وحاولت القول إنها بديلة عنه، لهذا لم تستبعد الاستعانة بقوى الخارج لبلوغ هذه الغاية. وهذا بخلاف ما كانت تراه معارضة الداخل (قبل إعلان دمشق) بأن التغيير هو من الداخل، أي عملياً التغيير من داخل النظام. وبالتالي، لا تحتاج هذه الغاية للاستعانة بقوى خارجية أو «الاستقواء بالخارج».
لكن السلطة خذلت رهان معارضة الداخل التي ميزتها عن الأخرى ووصفتها بالوطنية. فلم تقم السلطة بأي خطوة إصلاحية، بل يمكن القول إنها فعلت العكس، ما دفع بقوى معارضة الداخل، بالتحالف مع الإخوان المسلمين، الى تشكيل ما سمي «إعلان دمشق»، الذي كان أهم ما فيه ليس اتحاد المعارضة، كما قال أهلها، بل إيحاؤه بإسقاط خيار التغيير من الداخل: أي التغيير على يد السلطة عن طريق تبنيها وقيادتها لمشروع إصلاحي مبدؤه مؤتمر وطني طالبتها به المعارضة مراراً ومراراً، ما جعل من هذا مقاطعة للسلطة من دون التصريح بذلك. غير أن إسقاط خيار كان معتمَدا لعدة سنوات كان يتطلب الجهر بخيار بديل واضح المعالم، وتدوين أن القوى التي أقامت «الإعلان» ترى بنفسها بديلا عن السلطة في حال سقوطها تحت وقع أزماتها الراهنة، كما صرح بذلك، لاحقا، بعض قادة البيان (رياض الترك في مقابلة مع قناة «الحرة»)، وكما يشي بذلك توقيت الإعلان (قبل تقرير ميليس الأول ببضعة أيام).
لكن عجْز أصحاب «الإعلان» من معارضة الداخل عن المضي قدماً باتجاه إعلان أنفسهم، أو غيرهم، بديلا عن السلطة الحالية دفع بالإخوان المسلمين، حليفهم الأقوى، للتحالف مع عبد الحليم خدام، النائب السابق لرئيس الجمهورية، ليشكلوا معاً جهة سياسية أسموها جبهة الخلاص الوطني، هدفها، حسب تصريحات خدام، استلام السلطة حين تسقط القيادة الحالية. وبإعلان أصحاب هذه الجبهة أنفسهم بديلا للسلطة الحالية، يكون الصراع السياسي في سوريا قد انتقل إلى المرحلة الأدق، وهي الصراع على السلطة. وهذا ما أدركته، فوراً، السلطة الحاكمة فباشرت بحملة تحذير وتهديد أمنية طاولت الكثير من المعارضين وغير المعارضين. وفي مقابل هذا الإجراء وجه عبد الحليم خدام تحذيرا إلى المسؤولين الأمنيين السوريين بعدم التعرض والإساءة إلى الناس بذريعة ميولهم إلى تياره، مهددا بمعاقبة لاحقة لأي مسؤول يقوم بمثل هذا العمل.
ادعاء قادة هذا التحالف (خدام والبيانوني) بأن جبهتهم مؤهلة لتكون بديلا لقيادة السلطة الحالية، يشكل خطوة مهمة في الواقع السياسي السوري المعارض. فالمعارضة السورية، خلال السنوات الأخيرة الماضية، لم تُظهر أي قدرة، أو جرأة، على أن تطرح نفسها بديلا للسلطة أو لنظام الحكم، أو حتى أن تصرح عن طموحها في السلطة أو سعيها لها. بل على العكس، فقد تباهى بعض منها غير مرة بالعزوف عن السلطة والتعفف عن المشاركة فيها. وكانت المعارضة قد تخلت عن هذا الطموح حين تخلت عن الدعوات الانقلابية التي كانت تتبناها خلال نشاطها السري، وبعد قيام أطرافها إثر ذلك بمحاولات صادقة للتحول إلى قوى ديموقراطية تعتمد التغيير بالطرق السلمية. لكنها، لأسباب عديدة، عجزت عن بلوغ ذلك. فبغض النظر عن دور الممانعة الأمنية القمعية للسلطة، التي تشكل عائقاً رئيسياً أمام أي تقدم أو تطور على كل الأصعدة في الحياة السورية، فقد أخطأت قوى المعارضة حين خلطت بين الظهور الإعلامي الذي اكتفت به وبين العمل العلني الذي لم تدرك قواعده بعد؛ لكن الأهم كان اعتقادها أن شرط العمل السلمي هو تخليها عن طموحها في السلطة. وهذا، على الأرجح، هو السبب الرئيسي والأساسي في ضعف المعارضة ووهنها وعدم نجاعتها، وليس كما تعتقد أغلب أطرافها بأن تفرّقها وعدم اتحادها واجتماعها على برنامج واحد هما ما يحول دون تمكنها من تحقيق أي فاعلية تذكر. لكن، ورغم أنه ليس صحيحا أن القوى السياسية تكتسب نجاعتها في مجتمعها من اتحادها مع غيرها، فإن أطراف المعارضة السورية تبدو متوافقة في ما بينها، وبالأخص في ما يتعلق بمواقفها من السلطة، أكثر من أي ساحة سياسية في العالم.
ومع ذلك، فإن كل تحركات وظهورات المعارضة السورية لم تسفر عن تشكل بديل فعلي مقنع وموثوق للشعب السوري أو للخارج الدولي. وهذا ليس بسبب متانة السلطة، بل يعود لعجز ذاتي عند جميع الأطراف المعارضة عن مضاهاة السلطة. فمسألة بديل السلطة لا تقتصر على ادعاء طرف ما أو رغبته في أن يكون بديلا، إذ لا بد من أن تتوافر فيه الأهلية والشرعية لذلك. فالأهلية تعتمد على القوة والقدرة الحاضرة والواضحة، وليس على تقديرات ظنية تذهب بأصحابها، وبالوطن، إلى مهاوي المغامرة. في المقابل، فإنه يبدو على قوى المعارضة السورية أنها ما زالت متأثرة بذهنية انقلابية تجعلها لا تملك، أو لا تحاول أن تملك، غير انتظار تهاوي النظام أو سقوطه بقدرة قادر (الولايات المتحدة) لتكون هي قوى الأمر الواقع، معتقدة أن الفراغ الذي سيتركه سقوط السلطة الافتراضي كفيل وحده بمنحها الشرعية والأهلية لقيادة البلاد. ولا نجدهم يبذلون في سبيل ذلك غير تقديم نصوص ووثائق وبيانات، لا يمكنها، وحدها، أن تتعدى، حالها كأي نص سياسي آخر، أن تكون أكثر من إنشاء حلول في اللغة لا أكثر. فالأهلية والشرعية تتطلبان أكثر من نص متين لوثيقة سياسية. فصاحب الأهلية ومكتسب الشرعية، انتخابية كانت أم تمثيلية، لا يُشترط عليه تمكنه من تقديم نص متين، وأحياناً لا يحتاج لتبني مثل هذا النص.
إذاً، وبالنظر إلى الواقع السياسي الراهن في سوريا، يمكن التقدير أنه ما زال من المبكر اعتبار أن قوى المعارضة السورية الحالية استطاعت امتلاك القدرة على أن تكون بديلاً فعلياً للسلطة الراهنة. لكنه ليس من المبكر، بالمقابل، أن تكرس كل عملها لتكون هذا البديل. وهذا سيتطلب أكثر من وجود النية أو الرغبة لديها لتكون كذلك، بل أكثر من إعلان هذه الرغبة أو التقدير للذات. وربما سيكون أول الأمر هو قراءة موضوعية للحالة السياسية السورية، بما تبديه من استعصاء ناجم عن عجز قيادة السلطة عن إنتاج تيار أو جناح يمكنه قيادة تحول سلمي في بنية النظام يكون هدفه الأول هو مصلحة الوطن السوري، ولو كان ذلك على حساب بقائه في السلطة. وهذه الحال قد لا يفيد معها البحث عن بديل ديموقراطي (أي انتخابي)، فربما ليس بمقدور الواقع السياسي السوري إنتاج غير بديل انقلابي، سيكون بحاجة، فقط، لإثبات أهليته ل«الخارج».
لؤي حسين
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد