جبّورين على خط النار.. دفاعاً عن حمص

13-11-2014

جبّورين على خط النار.. دفاعاً عن حمص

تمرّ السيارة الخارجة من مدينة حمص بمحاذاة حي الوعر، آخر معاقل المسلحين في المدينة.
يشير سائق السيارة إلى الحي الكبير المترامي الأطراف، ويقول "من هنا تنطلق القذائف على أحياء المدينة يومياً. كثيرة هي الأحاديث عن اتفاقات لإخراج المدنيين وبدء عمل عسكري، أو التوصل إلى اتفاق يقضي بإخراج المسلحين على غرار ما حصل في حمص القديمة".
ويضيف، بابتسامة ساخرة، "إخراجهم قد يبعد الموت عن المدينة، إلا أنه لن ينهي الحرب، وجبّورين خير مثال".
خلال الطريق إلى قرية جبّورين، في ريف حمص الشمالي، يشرح السائق أن "معركة حمص القديمة" انتقلت إلى هذا الريف المترامي الأطراف.مقاتل عند حاجز الغربال
ويقول "المسلحون يبحثون عن طرق إمداد دائمة. حصارهم في الداخل دفعهم إلى الخروج، إلا أنهم لم يستسلموا".
يقوم أحد المرافقين في السيارة مقاطعاً، ويضيف: "يريدون قلب الطاولة عن طريق الوصل بين قرى الريف وقطع الطريق من حمص إلى طرطوس. قريتان صغيرتان تقفان عائقاً أمامهم، جبورين وكفرنان".
ثلث ساعة وتحط السيارة رحالها في القرية.
 "معظم السكان نزحوا بعد سيطرة المسلحين على قرية أم شرشوح القريبة"، يقول أحد أبناء القرية، مؤكداً ان "الرجال والشبّان بقوا في القرية للدفاع عنها، بالإضافة إلى بضع عائلات لم تساعدهم الظروف على الانتقال إلى مكان آمن خارج القرية".
ويعمل سكان القرية البسيطة، ذات الأبنية البدائية، في الزراعة ويملك البعض أبقاراً، بينما يعمل عدد من الشبان والرجال في الدوائر الحكومية.
 "معظم الموظفين تركوا وظائفهم وعادوا إلى القرية للدفاع عنها"، يقول أحد المقاتلين المرابطين على حاجز الغربال، نقطة التماس الأولى مع المسلحين، وهو يشير بيده من فتحة في الساتر الترابي، مضيفاً "على بعد مئات الأمتار يرفرف علم جبهة النصرة".
يحيط المسلحون بقرية جبورين من معظم الجهات على شكل قوس يمتد من أقصى الجنوب إلى الشمال الغربي (من الجنوب: الغنطو، الدار الكبيرة، الحلموز، وهبوب الريح، ومن الشرق: الرستن؛ ومن الشمال: تلبيسة، أم شرشوح، مزارع الفرحانية، ومن الغرب قرية قني العاصي ونهر العاصي).
وقاوم المقاتلون منذ بداية الأحداث مئات الهجمات المسلحة "أعنفها وقع في الشهر الرابع من العام الحالي حيث سقطت على جبورين أكثر من 400 قذيفة هاون، تبعها هجوم كان يهدف الى السيطرة على القرية، إلا أن أبناءها تمكنوا من صده"، يشرح "أزدشير"، وهو موظف حكومي من أبناء القرية، ترك وظيفته والتحق بالقوات المدافعة عن قريته.
عند الحديث عن تسلّح أبناء جبورين وتحولهم للدفاع عنها، يستذكر الجميع الحادثة الشهيرة التي وقعت عند أطراف القرية في شباط العام 2012، عندما أقدمت مجموعة من المسلحين على ذبح عائلة كاملة (من آل هلال).
ويشدد كل من يتحدث عن هذه المجزرة على تفصيل أن "المغدورين هم أخوال المسلحين، حيث قام أبناء الأخت بذبح أخوالهم".
هذه الحادثة مثلت مفصلاً في طبيعة الحياة، حيث حمل أبناء القرية السلاح، ونصبوا حواجز لهم عند أطراف القرية لحمايتها.
لاحقاً، ومع استمرار الأعمال المسلحة، انضم أبناء جبورين إلى "الدفاع الوطني"، وهي قوات رديفة للجيش السوري، حيث تم تنظيم عملهم، وتوزيع الحواجز توزيعا صحيحا، بالإضافة إلى تدريب عدد من أبناء القرية ممن التحقوا بأقاربهم للدفاع عن قريتهم.
يلتف كل من تسأله عن حجم القوات في القرية، وسبب صمودها حتى الآن، برغم سقوط كل المناطق المحيطة بها، بجواب ديبلوماسي خال من الأرقام: "أبناء القرية يدافعون عن قريتهم. نحن أدرى بطبيعة القرية، كما أننا أصحاب الحق، وأصحاب الحق لا بد أن ينتصروا.. هذا سر صمودنا".
خلال التجول في القرية، يبدو أن الكثير من أبنائها خرجوا منها. "بعد سقوط أم شرشوح أصبح الوضع خطيراً، نزح معظم سكان القرية"، يشرح أحد عناصر "الدفاع الوطني" الذي كان يرافقنا في جولتنا في القرية، قبل أن يقطع حديثه بالإشارة إلى سائق السيارة بضرورة الالتفاف إلى اليمين "فالطريق هنا مكشوفة وترصدها قناصة المسلحين".
معظم الطرق في جبورين مغطاة بسواتر ترابية لحماية المارة من القناصة الذين يحيطون بالقرية.
 "استهدف القناصة ثلاثة أطفال في آخر مرة"، يشرح مقاتل من أبناء جبورين خلال حديثه عن طبيعة الحياة في القرية، مضيفاً "هناك مدرسة يرتادها الأطفال، كما مستوصف صغير يقدم الخدمات الطبية. الجميع تأقلم مع حالة الحرب، أصبح سيل الدماء هنا عادة".
على الأطراف الشمالية تقف تلة حوّل أبناء القرية قسمها السفلي إلى مقبرة. "هنا يرقد شهداؤنا"، يقول أحد المقاتلين المرابطين على التلة المطلة على قرية أم شرشوح. ويضيف "قبل سقوط أم شرشوح كانت الأوضاع أفضل، أما الآن فإن الخطر محدق بنا من كل حدب وصوب".
يراقب المقاتل من منظار صغير أم شرشوح، ويشير بيديه خلال الحديث: "لقد استهدفنا تحركاً للمسلحين. انظر إلى الدخان المتصاعد هناك"، مضيفاً "إن عملية رصد التحركات واستهدافها قبل أن تقترب عامل مهم في الدفاع عن القرية، وأحد أسباب صمودها".
جولة في مقبرة جبورين قد تشرح الواقع، فالكثير من القبور حديثة، وتحيط ببعضها الزهور، والكثير منها وضعت عليها حجارة صغيرة تحمل أسماء "شهداء القرية".
وتشير الإحصاءات إلى أن القرية الصغيرة، التي لا يتجاوز عدد سكانها ألفي نسمة، فقدت نحو 90 مقاتلا خلال معارك الدفاع عن القرية، كما أصيب منهم أكثر من 200. أحد المقاتلين، خلال حديثه عن القتلى والجرحى يكشف عن ساقه، "جميع المقاتلين هنا أصيبوا مرة ومرتين. أنا أصبت قبل ثلاثة أسابيع، وأنا الآن أقاتل من جديد".
 "طبيعة المعارك اختلفت خلال الشهور القليلة الماضية"، يقول قيادي في جبورين فضّل عدم الكشف عن اسمه.
ويضيف "منذ وصول مسلحي حمص القديمة إلى الدار الكبيرة (في أيار الماضي) بدأوا بحفر الأنفاق، كما غيّروا الكثير من طرقهم القتالية. أبناء حمص القديمة متمرسون بالقتال، جاؤوا وأحضروا معهم خبرتهم، لتنتقل معارك حمص القديمة إلى هنا، لذلك قمنا نحن أيضاً بتغيير استراتيجياتنا الدفاعية، إلا أن الأمر يبدو مرهقاً". يقاطعه أحد المقاتلين بابتسامة ساخرة "نحن هنا ندفع الضريبة بعيداً عن عدسات الكاميرات".
يدرك أبناء جبورين أهمية قريتهم الإستراتيجية، فقريتهم وقرية كفرنان المجاورة هما آخر ما تسيطر عليه الحكومة في الريف الشمالي.
ولبقاء القريتين أهمية استراتيجية، إذ انهما تفصلان مسلحي ريف حمص، وسقوطهما يعني وصل المسلحين الموجودين في الحولة بمسلحي الغنطو، بالإضافة إلى فتح طرق إمداد إلى الوعر، وقطع طريق مصياف، بحيث تصبح الطريق مفتوحة أمام المسلحين من تركيا وصولاً إلى حدود طرطوس.
تجوب السيارة في القرية الصغيرة، ذات الصخور السوداء الصلبة، وتحط رحالها عند مدرسة "الحوراني المناع". ويقابل المدرسة الصغيرة عدد من المنازل، أحدها فقد أحد أبنائه مؤخراً خلال المعارك التي تدور يومياً في محيط القرية.
داخل المدرسة يبدو أن عدد التلاميذ يقل تدريجيا. "مع كل هجوم جديد من المسلحين تخرج بعض العائلات، ويبقى شبانها للدفاع عنها"، يقول أحد المدرسين في القرية، قبل أن يشير بيده إلى طالبة في الصف الثالث الثانوي "هذه الطالبة فقدت زوجها، لديها طفل منه، عادت للدراسة بعد استشهاد زوجها، وتتلقى بعد المدرسة دروساً في القتال وحمل السلاح".
تجيب الطالبة، وتدعى صهباء، عن أسئلتنا ببضع كلمات خجولة. تشير إلى أنها ستدخل الجامعة، وتتغير نبرتها عند سؤالها عن سبب تدربها على حمل السلاح، فتقول: "لا بد أن أدافع عن بيتي، وعن طفلي"، قبل أن تنسحب بهدوء إلى صفها لمتابعة دراستها.
من يزور جبورين يعود محمّلاً بالتفاصيل. تلوح الشمس في الأفق فيضطر سائق السيارة لارتداء نظارة شمسية. يسير في طريق ترابية تحيط بها السواتر، ليصل إلى حاجز على طرف القرية. ينزل من السيارة عنصر كان يرافقنا، فيلقي على زملائه التحية، قبل أن تعود السيارة أدراجها إلى حمص، لتسير بداية على طريق يخترق أرضاً صخرية، فيما تطل بعض الأراضي الصالحة للزراعة بين فترة وأخرى.
في إحدى الأراضي يعمل مسن على حرث أرضه، وفي أخرى تلاحق سيدة بضع دجاجات، يبدو أنها تحاول إعادتها إلى القن.
تصل السيارة إلى الطريق السريع، وبعد ثلث ساعة تحط رحالها في مدينة حمص، التي تعيش يومياً على وقع التفجيرات والقذائف التي تطال أحياءها، في واقع يبدو أن أهل المدينة اعتادوا عليه.

علاء حلبي

المصدر: السفير

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...