حدائق العزل الوطني في كفرسوسة
هذا التحقيق لا يهدف إلى عرض شكوى لتصل إلى مسامع مسؤول وهو أيضا لا يبغي طرح المشكلة لايجاد حل لها أو حتى مجرد التفكير باقتراحه إنه باختصار يسعى الى الكشف عن عقلية تعمل في الخفاء ضد منطق الحياة, ضد منطق التطور والتقدم, تريد أن تفرض رؤيتها, لأنها تعتقد أن ما يدور في رأسها هو الحق, وما يجري في الحياة هو الباطل.
منذ عامين أو ثلاثة كنت أعبر الطريق من ساحة الأمويين حتى جسر الرئيس, وكنت أشاهد على اليمين منحوتات تحاذي نهر بردى, فجأة اختفت تلك المنحوتات ولم أعرف مصيرها.
أخبرني أحد الزملاء أن محافظ دمشق السابق قال له إنها نقلت الى الحدائق ليستمتع الناس برؤيتها.. وحقيقة الأمر ازداد استغرابي: هل توقف فن النحت السوري المعروف بتقدمه والمشهور في العالم على تلك المنحوتات?! ألم يكن الأجدر إبقاؤها في مكانها والاستعانة بأخرى لتزيين الحدائق?!.
لكن المسألة لم تكن بريئة, ولم تكن تتعلق ببضع منحوتات نقلت أو أزيحت من مكانها, والأهم, أن البحث في الخلفيات أعقد وأصعب بكثير من مناقشة الواقعة ذاتها.
اليوم, نحن أمام قضية أو اشكالية لا تنفصل عن سابقتها, تقدم أحد المواطنين إلينا بشكوى جاء فيها: فوجئنا بكتاب السيد المحافظ رقم 56303 تاريخ 29/4/2004 بتحويل الحديقة البالغ مساحتها 4000م2 للنساء والأطفال بناء على طلب المهندس رضوان سودان عضو المكتب التنفيذي رقم 23474 تاريخ 21/4/2004 بحجة أن هناك مشكلات يومية واساءات لا أخلاقية من قبل الشباب المستهتر. ويتساءل الشاكي: كيف يدخل نصف العائلة الحديقة ويبقى نصفها الآخر في الخارج ويطالب أخير بإعادة الحديقة عامة للجميع.
وبدوري فوجئت فور الشروع بمتابعة الشكوى أن المواطن المذكور تراجع عن شكواه, دون أي سبب, وعلمت فيما بعد أن المهندسة هالة مارديني المشرفة على الحديقة أقنعته بطريقة أو بأخرى بالانسحاب.
في أول زيارة للحديقة, بقيت أكثر من ربع ساعة أبحث عن باب الدخول, كانت جميعها مغلقة ومقفلة ما عدا واحدا.. بدت لي بقضبانها المرتفعة وحراسها الثلاثة اشبه بسجن منها بالحديقة, وهناك صادفت الطفلين عبد الله وعبد الرحمن (الصف الثامن) وأبديا لي استغرابهما لمنعهما من الدخول في وقت يوجد فيه عدد كبير من العمال في الحديقة مؤكدين أن هناك أولادا يقفزون فوق الأسوار وفي أحد المرات أمسك أحد العمال بطفل وضربه وأخذ له ساعته.
أما عن سبب منعهما فقالا: سمعنا أنها تحولت إلى حديقة للنساء بعد جريمة اغتصاب وقتل ونتمنى لو تعود حديقة للعائلات حتى نستطيع الدخول إليها ولو برفقة أهلنا.
رضوان الدوشة كان يذهب وزوجته وأولاده إليها يوميا في الصيف, لأنها المنفذ الوحيد لهم, الآن يضطر إن اراد مناولة أسرته شيئا أن ينادي عليها وينتظرها خارجا أو العودة الى المنزل والبقاء فيه وحيدا.
بينما رأى محمد الزعبي القاطن في منطقة تنظيم كفرسوسة أن القرار خاطىء لأنه يحرم شريحة واسعة من الناس من الاستفادة من الحديقة ويقسم العائلة الى قسمين حتى انه يمنع طفلا في الرابعة عشرة من عمره من الدخول مضيفا أنه إذا كان هناك أناس أساؤوا فما ذنب الاخرين ومتسائلا: ألم يكن الاجدر ضبط المشكلات ومعالجتها بدل المنع?!.
بعض القاطنين بجوار الحديقة أبدوا سعادتهم بالقرار منطلقين من أنه يحل الكثير من المشكلات, والحقيقة أنه يحل أيضا طبيعة الحديقة من حيث هي مكان للتنزه والترفيه والتسلية, فرأى المهندس سالم سعد أن الشباب كانوا يشربون الاركيلة ويلعبون الورق وأنهم كانوا يدخلون من أجل الفتيات, وأن الفلتانات بحسب تعبيره هن اللاتي كن يبقين فيها, في حين أكد د. عبد الناصر حوراني أن الحديقة أصبحت محترمة بعد منع الرجال من الدخول إليها لأن المراهقين كانوا يتسببون بمشكلات كثيرة, خاصة أنها تقع بين المنازل.
هنا لن أدخل في مناقشة منطقية المعايير الأخلاقية لدى المواطنين, أولا لأن تلك المعايير متنوعة اجتماعيا واقتصاديا وحتى جغرافيا, وثانيا لأن لها طابعا شخصيا, لكن اللافت هو أن ينطلق صانعو القرار في محافظة دمشق منها لترسيخ معايير أخلاقية في غاية الخصوصية وفرضها على الآخرين, بدل التعامل بمعايير قانونية تحتوي ضمناً أخلاق الحق والواجب.
وحتى لا يقال أنني ألقي الكلام جزافا, تابعت شائعة الطفلة التي اغتصبت في قسم شرطة كفرسوسة, فنفوا الواقعة, وأكدوا أن ما يجري في الحديقة هو مجرد تحرشات بسيطة تحدث في كل مكان وزمان في الشارع والأماكن العامة الأخرى, وأن الشرطة تعالجها بطريقة قانونية.. وهنا سأفترض أن الشائعة التي روتها لي المسؤولة عن الحديقة وبعض مسؤولي المحافظة صحيحة, فهل سنبني قراراتنا وحياتنا على واقعة خاصة جدا يمكن أن تحدث في أي مكان وزمان?.
تقول المهندسة هالة مارديني المشرفة على الحديقة أنها سمعت بحدوث مشكلات لا أخلاقية وقيل لها إن هناك فتاة اغتصبت , ومنذ أن خصصت الحديقة للسيدات والأطفال اعترض أهل كفرسوسة لكن أهل التنظيم سعدوا لأنهم اشتروا منازلهم بالملايين ولا يريدون رؤية المناظر المزعجة, وعندما حاولت لجان الأحياء مناقشتي في امكانية جعلها حديقة للعائلات, أكدت أن من الصعب ضبط الأمر, لأنه في حال دخول شاب وفتاة, هل سأطلب منهما ما يثبت وجود صلة قربى بينهما.
لنلاحظ هنا منطق مهندسة مسؤولة عن حديقة: أولا تتبنى شائعة لا أساس لها من الصحة, وثانيا بنت رؤيتها على السمع وليس على الوقائع, وثالثا تعني حديقة للعائلات برأيها وجود قرابة بين الداخلين إلى الحديقة, أي يهمها التأكد من صلة القرابة بغض النظر عما إذا كانت الممارسة أخلاقية أم لا.
على أي حال سأنقل حرفيا ما قاله أحد رجال قسم شرطة كفرسوسة: لم تحدث أي جرائم في الحديقة أو أي اعتداء أو أعمال منافية للأخلاق ولا توجد أي حوادث سير أو وفاة كما تقول بعض الشائعات وعدد الضبوط المسجلة قليلة جدا (2-3) لكن المشكلة هي وجود بعض المتعصبين في الحي وآراؤهم انعكست على باقي الناس.. فهل من المعقول ألا استطيع الدخول مع زوجتي وأنا من سكان المنطقة, خاصة أنها الوحيدة التي تخدم كفرسوسة, وفي حال جاءت زوجتي لوحدها, هل من اللائق أن انتظرها في الخارج.. بعض الأهالي أرادوا هذا الفصل والجزء الأكبر لم يقبل به.
لنلاحظ مدى التناقض في كلام حراس الحديقة ( وأعتقد أن هناك من لقنهم إياه) وهم أسامة زودة وابراهيم سويد ويوسف الغدير, يقولون: كانت الحديقة تعاني من وجود الزعران والتخريب والأعمال اللا أخلاقية ولم تتمكن الشرطة والآداب من ردعهم لأنه كان يدخلها يوميا حوالى 1200 عائلة, ويمكثون فيها حتى وقت متأخر.
الواضح أن هذا الكلام عار عن الصحة تماما, لأن وجود 1200 عائلة يوميا وحتى ساعة متأخرة من الليل, يعني وجود أمان شبه مطلق, ويعني وجود احترام فائق في التعامل داخل الحديقة, إلا إذا كانت العائلات التي تأتي هي أيضا فلتانة, ووجود هذا العدد من العائلات الفلتانة واختيارها حديقة كفرسوسة بالتحديد للتجمع فيها هو أحد الغرائب والعجائب!!.
يبلغ المنطق ذروة فجاجته في إعادة تشذيب الشائعات في محافظة دمشق, فالمهندس رضوان سودان عضو المكتب التنفيذي لقطاع الانشاء والتعمير ورئيس لجنة بناء في تنظيم كفرسوسة أكد أنه لم يوقع على طلب التحويل المقدم من الأهالي وأن أسباب التحويل هي:
1- اجتماع بعض الاشخاص في الحديقة لمراقبة الشقق وسرقتها وهذا ما ضبطته الشرطة أكثر من مرة حسب ما سمعت من الجوار.
2- البعض يجتمع ويشرب الحشيشة.
3- مشكلات تتعلق بالتحرش بالأطفال.
وعلق سودان: هذه الأمور أساءت للمنطقة ومنعت سكان التنظيم من إرسال نسائهم وأطفالهم إلى الحديقة, وقدم أهالي البنايات المجاورة عريضة بتوقيع رؤساء لجان الابنية وختمهم الى المحافظة وتمت الدراسة التفصيلية لمدة ستة أشهر قبل اتخاذ القرار.. مضيفا لو تدخلت لصدر القرار في يوم واحد.
الغريب أنني لم أستطع الحصول على نسخة من شكوى المواطنين, ومع أن المواطن الذي تراجع عن شكواه أكد -كما هو مبين في مقدمة هذا التحقيق بالرقم والتاريخ- أن المهندس رضوان هو مقدم الشكوى وأن القرار صدر خلال أسبوع من تقديمه لها!!.
على أي حال, خالد العلبي المسؤول عن قطاع الحدائق أكد لي أن كل ما قاله المهندس سودان غير صحيح, فقد حدثت تحرشات بسيطة, والمهندس سودان هو أحد الذين اقترحوا التحويل, ويمكن إعادة النظر في القرار في أي لحظة, وليس هناك نص قانوني صريح لعملية التخصيص لكن واجبنا الحفاظ على المدينة وتخفيف المشكلات.
مختار كفرسوسة أعاد طرح المشكلة بحديها الايجابي والسلبي قائلا: إن سكان الابنية المجاورة كانوا يعانون من الازعاجات وعدم الهدوء أثناء نومهم وجلساتهم بسبب وجود باعة جوالين ودراجات تدخل وتخرج وبعض التحرشات فطالبوا بالإشراف عليها,لكن المحافظة حولتها الى حديقة للسيدات والأطفال. وهذا أدى الى معاناة,فالرجال من حقهم الدخول ولا سيما أنها الحديقة الوحيدة الموجودة في منطقة تنظيم كفرسوسة,فالمتقاعدون أين سيذهبون? وبرأيي أ ن تكون مفتوحة للعائلات مع متابعة الإشراف عليها ولا سيما أن المشكلات السابقة يمكن السيطرة عليها. فليس من الضروري أن آخذ تكسي كي أذهب وزوجتي الى حديقة تشرين وأترك الحديقة القريبة مني. ويمكن للقانون أن ينظم الآداب العامة.
قلنا منذ البداية أن ما يهمنا هو العقلية التي تقف وراء هذا القرار,فمحافظة دمشق تشبه ذلك الفلاح الذي دهس ولده على إحدى الأوتسترادات,فطالب بإزالته,ظناً منه أن صدفة الحادث ماكانت لتقع لولا وجود الطريق.. لكن المحافظة ذهبت أبعد من ذلك,فبادرت الى إلغاء وجود السيارات حتى تمنع حدوث مثل هذه المصادفات المؤسفة. ونخشى أن نشهد يوماً تكتسح فيه هذه العقلية- بذريعة الأخلاق - المطاعم والشوارع والساحات وأن تحدد لنا ملابسنا الأخلاقية وطريقة مشيتنا الأخلاقية وتقضي على حرياتنا الشخصية متجاهلة حتى القوانين والأنظمة ومتجاوزة عليها.
أنوه أخيراً أن إحدى النساء أخبرتني أن ولداً في العاشرة من عمره لايستطيع الدخول.. هذا يعني أن القرار يفرق بين الذكورة والأنوثة أكثر مما يفرق بين الطفولة والرجولة.. ويعني أكثر أننا نسير بسرعة الضوء بطريقة الخطف خلفاً نحو قروننا الوسطى.
ونخشى أن يأتي يوم تتسبب فيه مصادفة سيئة بتخصيص طريق للنساء وآخر للرجال,واقتسام الأرصفة والسيارات والحافلات,بسبب أوهام قلة تعتقد نفسها وصية على الأخلاق وتسعى بجهد لمصادرة حريات وحقوق الآخرين.
لقطات
رئيس لجنة حي الميدان محمد نعيم الحبش يقول إن حديقة الميدان مخصصة للنساء منذ عشرين عاماً وجددنا هذا التخصيص منذ عام وحالياً إذا حاول فتى عمره (13)عاماً الدخول يمنع,وهذا حرصاً على عائلاتنا حتى لا تحدث مشكلة مخلة بالأخلاق إذ يمكن أن يدخل شخص مع صديقته وتحدث أمور لا نقبل بها إطلاقاً.
كل من تابع القرار وأصدره وطبقه هم من الرجال,أليس للمرأة رأي في حديقتها!!
المحامي عبد الناصر نور الدين يقول إن القانون ينظم الآداب العامة كلها ويضمن الحريات الشخصية.
أكد أحد المواطنين أن العرف هو ألا تخرج الزوجة من دون زوجها,وأن الكثيرين يمنعون زوجاتهم وبناتهم من الخروج وحدهم مما يعني أن القرار حرمهم من الاستفادة من مرفق عام.
***
من داخل الحديقة
مجموعة نساء يتنزهن داخل الحديقة قلن إن الوضع في السابق كان أفضل لأن أزواجهن كانوا يرافقونهن,الآن فقط يوصلونهن ويعودون ليأخذونهن.
ناريمان ونور مناوي كن يأتين بصحبة والدهنَّ,الآن لا يستطيع المجيء معهن.
هلا ملا: هل من المعقول أن يقف زوجي في الخارج وأنا في الداخل.
وعد منادي: كنت أتمنى لو أستطيع المجيء مع خطيبي.
م. هالة مارديني: سمعت بوجود حوادث اغتصاب
الطفلان عبد الله وعبد الرحمن: يمنعوننا من الدخول لأننا ذكور.. !!
المصدر: الثورة
إضافة تعليق جديد