حدث هذا في حمص: أعلام المقاومة غالية وستبقى
الجمل ـ سعاد جروس : عشية إعلان الهدنة وتحت جنح الليل, ثمة «أمر» جاء من لبنان وسرى بين النازحين اللبنانيين الموجودين في سوريا, يطلب منهم العودة الى ديارهم فور توقف إطلاق النار, بعدما وجه السيد حسن نصر الله كلمة الى النازحين طمأنهم فيها أنه سيتم تأمين مستلزماتهم العاجلة. بعدها الكثيرون لم ينتظروا بزوغ الشمس وإعلان الهدنة, وبدأوا فوراً بحزم أمتعتهم وتوجهوا نحو الحدود ليناموا هناك في انتظار الساعة الثامنة, ليعبروا الخط الفاصل في اللحظة التي سيتوقف القصف.
السيدة رانية التي استضافت وأسرتها ثلاث عائلات لبنانية تقول: رجوتهم وكدت اقبل أياديهم المكوث حتى الصباح لتتوضح الأمور, ونتأكد من استقرار الوضع, لكنهم أصروا على الرحيل وشكرونا على الاستضافة بكل تهذيب, لملموا أمتعتهم القليلة, ورحلوا ليناموا عند الحدود في انتظار بدء الهدنة. قلت لهم, بإمكانكم العودة إذا لم تتيسر الأمور. فقالوا حتى لو لم يكن هناك هدنة, سنذهب إلى بيوتنا ولن نخرج منها. تضيف رانية, كنت في غاية القلق عليهم فمعهم سيدة مسنة وأطفال صغار, إلا ان تشوقهم للعودة الى بيوتهم سبقهم الى لبنان.
صباح الاثنين وعند معبر جديدة يابوس, كان سيل السيارات المزدحم بالعائلات اللبنانية يتدفق من سوريا الى لبنان, كغيره من المعابر الأخرى مثل العريضة والدبوسية, غير آبه بحفر كبيرة خلفها العدوان الإسرائيلي الوحشي, فيما بدأ 300 ألف لبناني عبروا إلى سوريا خلال شهر, بعودة أغلبهم إلى لبنان خلال يومين, في سباق مع القلق على ما حل ببيوتهم وبمن بقي من الأهل, يحدوهم الأمل العريض والرغبة الشديدة بأن يعاد إعمار ما تهدم بسرعة تفوق سرعة التدمير الهمجي, وإن كان ذلك مستحيلاً, طبقاً لقاعدة تقول: التخريب سهل إلا أن البناء هو الصعب, لكن من يدري ماذا في وسع شعب حي وبطل كشعب لبنان الصامد أن يفعل؟ ويبدو لا شيء صعب عليه أو مستحيل, وهؤلاء العائدون, إنما عائدون للمقاومة من جديد, إنه الوجه الثاني للمعركة, مقاومة الدمار بالإعمار, كمتمم لمقاومة الاحتلال بالنار.
منذ ساعات الفجر الأولى بدأت رحلة العودة الكبيرة. السيارات حاملة اللوحات اللبنانية تصطف بالدور عند المعابر الحدودية. يتذكرون أنه لم يمض عليهم أكثر من شهر عندما حلوا في سوريا للنجاة بأطفالهم المذعورين من هول القصف والمجازر. عند حاجز العودة, تبدلت أساريرهم وهم يرفعون رايات النصر ويبتسمون للكاميرات. فاطمة تحمل معها صغيرتها التي ولدت في سوريا, شكرت الشعب السوري الذي لم يقصّر في الضيافة, وأكدت أنها تعود على الرغم من شعورها الداخلي بالخوف من مواجهة ما لحق بمنزلها من دمار, فقد علمت أنه قصف بعد مغادرتها له بيوم واحد, لكن لا بد من العودة سريعاً لاستعادة كل شيء كما كان وأحسن. أما ابنتها الصغيرة فتؤكد فاطمة, أنها ستربيها على المقاومة وكراهية إسرائيل, وستحتفظ لها بصور الدمار والمجازر لتعرف بأي زمن ولدت وأين ولدت. تمضي فاطمة مع أسرتها فيما ترفرف على السيارات أعلام «حزب الله» وصور السيد حسن نصر الله, ولافتات كتب عليها «المقاومة تعني الانتصار» و«نعود ونحن مرفوعي الرأس». فيما انصرف الموظفون السوريون في الهجرة والجوازات لتسهيل معاملات خروجهم كما كان الأمر لدى دخولهم. إلى الجوار لا تزال خيام المتطوعين من الهلال الأحمر السوري ووزارة الصحة والشؤون الاجتماعية والعمل وجمعية العلاقات العامة وبعض الجمعيات الخيرية تقوم بتوزيع الأطعمة ومياه الشرب على المغادرين. حسين نزح مع أسرته من مارون الرأس الى اللاذقية, صرخ بفخر «راجعين عامارون الرأس رافعين الراس, لنعمرها من جديد, وإذا أرادت إسرائيل تجديد الحرب فنحن لها, سنقاتل حتى آخر قطرة من دمنا». محمد من الضاحية, كان يختم أوراق السيارة وهو يقول بعزم, «قلنا من البداية ان المقاومة لا يمكن أن تهزم, لأن الله معها, كل ما دمر سيعوض وسيعود لبنان كما كان وأحلى». جميع المغادرين لم ينسوا وهم يتجهون الى بلداتهم أن يشكروا بحرارة وحب الحكومة السورية والشعب السوري على هذه الوقفة, كلازمة لا بد منها تتبع لازمة الدعاء بالظفر: «الله يخلي المقاومة والسيد حسن وبشار الأسد سوريا», ما اعتبره قاسم رغبة الشعبين في تمتين العلاقات بين البلدين ومنع محاولات التفريق بينهما, وهذا الشهر الصعب والمؤلم سيكون له نتائج طيبة على العلاقات بينهما.
المدارس, الجوامع, الأديرة, معسكرات الطلائع, المدينة الجامعية, وسائر الأبنية الحكومية والتابعة لجهات أهلية في مختلف مناطق سوريا, والتي فتحت أبوابها للبنانيين فجأة فرغت من ضيوفها, فيما كانت المساعدات لا تزال تتدفق على الهلال الأحمر والجمعيات الخيرية, ليجدوا أنفسهم أمام مشهد ظنوا أنه لن يأتي على هذا النحو من السرعة. فمفوضية الأمم المتحدة لا تزال تبحث في سبل مساعدة العائدين, والبعض في سوريا يفكر بأمكنة بديلة في حال استمرت الحرب شهراً آخر إلى ما بعد موعد افتتاح المدارس. أما خيم المتطوعين التي لا تزال منصوبة عند الحدود لتقديم المساعدات, فقد أصبحت تقدم التسهيلات للمغادرين لا للقادمين. عاد اللبنانيون بعد شهر كان الأصعب عليهم, لكنه كان المختبر الأفضل لمدى جدية وموثوقية العلاقات بين الشعب في البلدين, شعب فرقته السياسة, وجمعته المقاومة.
عند بسطة لبيع الـ CD والكاسيت في حمص, وقفت طالبة جامعية تتأمل صور السيد حسن نصر الله وأعلام المقاومة الصفراء, مدت يدها الى علم متوسط الحجم وسألت كم ثمن هذا, فرد البائع هذا بـ35 ليرة, وذاك وهو أكبر حجماً بـ75. سألت الفتاة وCD خطابات السيد وأغاني المقاومة بكم؟ أجاب البائع بـ25 ليرة, ففكرت بعقد صفقة سريعة, وسألته ما رأيك أن تعطيني علماً وأربع «سيديات» بمئة ليرة ؟ رفض البائع من دون نقاش. فقالت له: غداً سيصدر قرار بالهدنة, وتكسد بضاعتك هذه, من الأفضل لك أن تبيع الآن بأي ثمن, ولا تستبعد أن تجد نفسك غداً تستجدي الزبائن ليشتروها. ابتسم البائع اليافع وبكل ثقة واعتزاز قال لها: «أعلام المقاومة غالية, وستبقى غالية أثناء الحرب وبعدها». وتابع مازحاً: «أما أنتِ فلن أبيعك حتى لو دفعت ضعف الثمن».
حدث هذا في حمص عشية إعلان الهدنة, هدنة تبدو حسب غليان الشارع أنها موقتة مهما طالت, فالحرب مع إسرائيل ستتجدد, هذا ما اعتاده الشارع, وهو على حق, طالما هناك أراض محتلة ومشاريع استعمارية في طور التنفيذ. ما جرى كان فصلاً قصيراً في لعبة دولية طويلة.
بالاتفاق مع الكفاح العربي
إضافة تعليق جديد