حسين درويش والناس المستورين
كل سنة تتكرر مسألة الأحكام الجاهزة التي نطلقها على الآخرين من خلال الشاشة الصغيرة ، فقد سوّق التلفزيون منذ الستينيات مفهوما جاهزا لإطلاق الأحكام على مجتمع أو دولة بعينها، وقد تم التعميم في هذا الأمر إلى درجة أن لا أحد يكلف نفسه السؤال: هل فعلا تعكس الدراما الحياة المصرية على الواقع وهل تفعل السورية ذلك، وما هو موقع الدراما الخليجية في تسويق طرق عيش سكان الخليج ؟!
أسئلة نادرا ما أطلقها الذين يتابعون حياة الشعوب من خلال القصص المصدّرة إليهم، والتي توحي أن جميع سكان تلك المنطقة يتحدثون كأبطال الدراما التلفزيونية والسينما، ولديهم من القوة والوسامة ما يجعل إعادة النظر في العرق البشري مسألة ضرورية.
فإذا كانت أميركا تصدّر وسامة ممثليها وعضلاتهم المفتولة، فإنها لا تتوانى عن الإكثار من الرشيقات والحسناوات بثياب متقشفة في أي منتج، ولكأن الشعب الأميركي على هذه الشاكلة. إذا كيف نصدق الأخبار التي تقول إنه شعب بدين، وهو ما ينطبق على الصورة القادمة من الهند حيث الكل يغني ويتشقلب على العشب، وله إطلالة ساحرة تصيب مقتلا في القلب، ولكنها لا تعكس حقيقة شبه القارة الفقيرة إطلاقاً.
وفي المستوى ذاته كانت صورة المسلسل المكسيكي الذي يمتد ليصل إلى مئة حلقة، قد أطاحت في تسعينيات القرن الماضي بعقول وأفئدة العرب وراح الجميع يقلد تسريحة الشعر وفتح أزرار القميص، ولم توفر النساء تنورة كساندرا المشهورة بطلة مسلسل لا يعكس حقيقة الجمال والثراء في بلد لديه أعلى معدلات الفقر والمديونية.
ولأن معرفة الآخر لا تتم بشكل مباشر عبر التزاور بين الشعوب والاطلاع عن كثب على حياتهم وعاداتهم، فقد عوضت الدراما غموض الحياة في صعيد مصر أو حواري الشام، ومن خلال ما تقدمه الدراما للمشاهد العربي يجري التعميم أن جميع سكان مصر لديهم مواهب الحاج متولي النسائية أو مندور أبو الدهب الاحتيالية وينطبق ذلك على شخصية غوار الطوشة أو أبو صياح قديما في الدراما السورية وزكرتات الشام حديثا في مسلسلات رمضان.
صورة العربي في ذاكرة العربي الآخر مشوشة رغم أنه قريب منها تاريخيا وجغرافيا ويماثلها لغويا وفكريا، ولكنه يتنافر معها قبولا واحتضانا وهو ما يفسر الفجوات السياسية حيث يمكن للأوروبي أن يجوب العالم دون أن يسأله أحد عن جنسيته، بينما لا يستطيع العربي أن يذهب إلى دولة مجاورة تبعد عنها ساعة بالسيارة ودقائق بالطائرة، لذلك يتعرف العرب إلى بعضهم عبر المحطات الفضائية.
ويمكنهم أن يطلقوا الأحكام ويعمموها لأنهم شاهدوا برنامجا في تلفزيون تجاري وهذا ما حصل مع فورة المحطات الفضائية القادمة من بيروت، حيث مذيعات يكشفن عن مساحات براقة من السيقان والأذرع والصدور، مساحات كافية ليستقل المشاهد أول طائرة متجهة إلى لبنان لمعاينة هذه البضاعة عن كثب.
يا لخيبة الأمل، لقد كانت الشوارع مليئة بالناس العاديين والبسطاء.. ويمكن القول أيضا «ناس مستورين» بالمعنى الدقيق للعبارة الشعبية.
حسين درويش
المصدر: البيان
إضافة تعليق جديد