حنا مينة: عصرنا لا يخيفنا.. ولسنا بالهاربين!..
وحق طفلك لم أشمت بامرأة
زلت بها قدم أو غرها ذهب
فرب أنثى يخون البؤس هيبتها
والبؤس أعمى، فتعيا ثم تنقلب
قولي لطفلك ما تستصوبين غداً
فكل أمر له في حينه خُطَبُ
ولا تخافي عذولا فالعذول مضى
والعصر سكران، يا أخت الشقا، تعب
ولأن العصر سكران، فقد سكرت مع عصري ونكاية به فتحت دكانا للحجامة والتجميل، في حارة القلعة في اللاذقية، بابه من أخشاب منخورة، مسمرة، ملعونة، وتحدياً اطلقت عليه اسم «صالون الزهور للتجميل» وانتظرت ان يأتي أيما زبون دون جدوى، الى ان نبهني درويش زاهد بالدنيا «أن التجميل «وأكل الهوا» ببنطال قصير مهزلة، وان هذه الأخشاب التي هي باب الدكان مهزلة اخرى، وتسمية الدكان «صالون الزهور» مهزلة ثالثة، وان علي أن ألبس بنطالا طويلا، ولو من «السوق العتيق» واضافة كلمة تجميل الرجال، و«إلا ضاعت الآمال يا بني فالوداع» وقد صبرت وقلت لنفسي صبرا جميلا يا نفس، يوم أخفقت في العثور على عمل، فاتخذت الدروشة عملا، وأكلت، مرغما، الخبز والماء، لأنه «مأكول العلماء» حسب قول الدرويش الذي هداني الى هذه المهنة، وكان معلمي حتى مماته رحمه الله.. ثم ما معنى تجميل الرجال؟ هذا عيب قال لي، هذا تخنيث، غيّر «أرمة» الدكان!.
لم افكر طويلا ولم «أضرب أخماساً بأسداس» غيرت الأرمة فوراً بعد ان وجدت هذا الدرويش على حق، ثم وجدته ألمعياً في فهم الحياة عندنا على حقيقتها، ولكونه يحلق رأسه كليا على حق آخر، وان منحة السماء التي استمطرها دعاء أمي على هذا «الابن الضال» الذي هو أنا بغير شك، قد أفادتني في ضلالي، فذهبت الى المرحوم وديع ياخور، زوج اختي قدسية، شارحا له ان الزهر، على لوحة دكان الحلاقة لا يفيد مع البنطال القصير، فأخذني الى جواد الخياط، وهو خطاط ايضا، حيث فصل لي بنطالا طويلا من الكتان الأصفر، هو اول بنطال طويل ألبسه في حياتي، بعد أول درس في معنى الرجولة في حياتي أيضا!
ولأنني خلوق، فقد دعيت يوما لإسعاف امرأة بالحجامة، ولما دخلت بيت المرأة الصبية والجميلة، وجدتها ممددة على الارض، وهي تصرخ: دمروني! دمروني!، فأدركت ما بها، وساعدت في نقلها الى أقرب مشفى، حيث حقنوها بابرة انعاش وعدت بها دون ان أسألها عن السبب في صراخها «دمروني! دمروني!» فالذين دمروها هم الذي تعاقبوا على جسدها الفتي، بعد ان سقوها لتستجيب الى رغباتهم الفظة.
إن الدعارة أقدم مهنة في التاريخ، ولست في صدد الكلام على مسرحية الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر «المومس الفاضلة» ففي المجتمع الطبقي، البائس، كثيرات هن المومسات الفاضلات، اللواتي علمني الدهر الاشفاق عليهن، كما أشفق السيد المسيح على المومس مريم المجدلية، وصاح بالفريسيين: «من كان منكم بلا خطيئة فليرجمها بحجر» وعلى الأثر تجمدت الأحجار في أيديهم الدنسة.
إنني لست بواعظ، ولا أرتاح الى المواعظ والواعظين، ولم أكن، أنا المزين، خريج مدرسة الدراويش الزاهدين، قد قرأ ان البؤس أعمى، وان هذا البؤس يخون هيبة الانثى، «فتعيا ثم تنقلب» وان على المرء ألا يشمت بامرأة «زلّت بها قدمٌ أو غرّها ذهب» وأن يعرف، ولو تدريجياً، ان عصره سكران، تعِب، وعلينا «ألاّ ننام، لنستيقظ بعد مئة عام»، إن العدالة الاجتماعية والسلام قد عما أرضنا الطيبة، المباركة، المجيدة والممجدة، وان عصرنا السكران هذا، كان، في بدئه، مجيداً، وفي نهايته سافلاً، فالقرن العشرون أعطانا دروساً، وأعطيناه، بكفاحنا في سبيل الحق والخير والجمال، مادة هذه الدروس، بما أضرمنا من ثورات، وما قدمنا من وقود لهذه الثورات، حيث لا سراج، ولا حباحب، ولا شمعة أو مكيالاً بل الأرجوان من جراحات شهدائنا، الذين مضوا، وقضوا، كي يكون لنا اللهب القدسي، الذي به نستنير، ويكون لنا القدوة التي بها اقتدينا، ولا نزال، وسنبقى! وقد قرأت هذين البيتين من الشعر وأحببتهما:
السامر الحلو قد مر الزمان به
ففرق الشملَ سُمّاراً وندمانا
ويل الشعوب التي تغضي على الذل
غفرنا لظالمها، تأنق الذلُّ حتى صار غفرانا!
ولم نكن، أو لسنا في المنجمين حتى نعرف آنذاك ان الشمل سيلتئم، مهما يعنت السير، ومهما يطل الزمن، ولن نغضي على الذل، أو نجعله يتأنق بنا، أو من حولنا، وبعد هذا الجزر سيكون المد، في زمن طويل أو قصير، والأرجح في زمن طويل، وهذا، في رأيي الآن هو الصحيح، إنما:
نحن أدرى وقد سألنا بنجد
أطويل طريقنا أم يطولُ؟
وفي الجواب انه طويل وأن الحياة كفاح في البر والبحر، وانها «عقيدة وجهاد وانها خطوة الى وراء، وخطوتان الى أمام».
وهذه الحقائق، تعلمتها، صدقاً، في السجون وبين الناس، يوم كنت مناضلاً في سبيل الاشتراكية، ثم تعقلت وأصبحت مناضلاً في سبيل العدالة الاجتماعية، وقد أتعقل أكثر، فأناضل بنفس طويل، لأن الأمة العربية في حالة جزر، ولن يأتي المد إلاّ بعد زمن طويل، قد يكون قرناً كاملاً، ومن تعب من النضال لا نلومه إذا أفاء الى الراحة، ومن أصابه الإحباط، نقول له: الأجيال تتابع، ولن يكون هناك انقطاع في سلسلة الكفاح، ومَن اتهمنا بالحمق، بسبب تشاؤمنا أو تفاؤلنا، لا نلومه، تاركين للأيام أن تعطيه درساً في السياسة، وعندئذ يعرف ما لا يعرف ويفهم ان السياسة ليست لعباً، وليست هواية، إنما هي جدّ لا هزل فيه، وأن القول غير الفعل، وأننا في الزمن الرديء، والناس، في كثرتهم تلوثوا برذاذ هذه الرداءة، ومن مظاهرها بيع الأقوال دون أفعال، والذين صارت مهنتهم بيع هذه الأقوال، يتكاثرون يوماً بعد يوم، فلنحذر شرهم، ونحسن صنعاً إذا تجنبنا الوقوع في فخاخهم، وكاتب هذه الأسطر، مع كل تمرسه في السياسة وفي النضال، وقع مرة ومرة في فخاخهم، لأن أصحابها لا ينقصهم الذكاء، بينما الذكاء ينقصنا نحن، ومن المفيد ألاّ نلدغ من جحر مرتين، وألا نتعزى بمقولة «لكل حصان كبوة» لأن كبوتنا، والأعداء، وضغوطهم علينا ومن حوالينا كبيرة وخطيرة، ستجعلنا ندفع الثمن غالياً!.
وحاشا أن ادعي أن الأيام، وكذلك الحكام، قد علموني بما يكفي، ففي كل يوم ثمة جديد، وفي كل يوم يحسن بنا أن نستشف هذا الجديد، وان نستبق الحدث قبل وقوعه، وأن نجيد قراءة الأحداث وما وراءها، وان نعد العدة اللازمة لدرء أخطارها، وعندئذ نستطيع القول إننا نفهم بالسياسة وأحابيلها، على النحو الذي هو أقرب الى الصواب.
حنا مينة
إضافة تعليق جديد