حوار مع د. نضال الصالح حول المشاركة السورية في المؤتمر السادس والعشرين للاتحاد العام للأدباء والكتاب العرب
في أوائل ثمانينيات القرن الماضي أعلنت صحيفة “البعث” عن مسابقة أدبية شارك فيها أعلام القصة القصيرة في سورية والوطن العربي، منهم زكي قنصل، الشاعر المهجري المعروف، إضافة لأسماء مهمة يمثلون الآن قامات في الحياة الثقافية السورية، وكان من المشاركين الطالب الجامعي نضال الصالح الذي كان يخطو خطواته الجامعية الأولى، وحملت قصته عنوان: “أوراق قديمة” وكانت تتحدث عن ثورة الثامن من آذار، وشاءت المصادفة ودقة لجنة التحكيم في أن يفوز بجائزة المسابقة، وكانت أول جائزة يحصل عليها، وقد فرح بها لكونه فاز بها بين كوكبة من كبار كتّاب القصة القصيرة، وعدّ ذلك الفوز جواز مرور له إلى الحياة الثقافية السورية وشهادة اعتراف بقيمة النص الذي يكتبه نضال الصالح، ثم تتالت الجوائز بعدها، لكن جائزة صحيفة البعث حفرت في ذاكرته ما لا يستطيع أن ينساه طوال حياته.
في بداية الحوار طلبت منه أن يقدّم نفسه كإنسان وكيف يعيش يومه بعيداً عن الكتابة فأجاب:
<< لعل أكثر الأسئلة صعوبة في حياتي أن أتحدث عن نفسي، يمكن أن أتحدث عن نضال الصالح الكاتب، الأكاديمي، المشتغل بالثقافة، لا اعتقد أنني سأنجح لو أني تحدثت عن نضال الإنسان، سأصاب بخيبة أمل من نضال الكاتب والأكاديمي والمثقف عندما يريد أن يتحدث عن نضال الصالح الإنسان، لكنني أستطيع أن اختزل ذلك كله في كلمة واحدة هي أنني مجتهد فقط. أنا شخص منظم منذ وعيت الحياة أحب ترتيب وقتي والالتزام به على نحو شديد الدقة والرهافة، أنهض في السادسة صباحاً منذ ثلاثة عقود هذا طقس أدمنته طوال السنوات الثلاثين الفائتة أبدأ قراءة الصحافة اليومية، أتعرف إلى الحياة الثقافية والحراك الثقافي لسورية أولاً، ثم للمشهد الثقافي في الأقطار العربية المجاورة، وإذا ما تسنى لي بعض الوقت فإني أتابع المشهد الثقافي العربي، وخلال ذلك أقوم بعملية توثيق لكل ما أعثر عليه في الجانب الثقافي في هذا المجال، ولذلك أعتز بأن لدي أرشيفاً شديد الأهمية على جهاز الكمبيوتر، إذ أستطيع بكبسة زر أن أعثر على معلومات تخص جانبيين أساسيين في وجودي، مثقفاً وأكاديمياً، ولا سيما ما يتعلق باختصاصي وممارستي النقدية، أعني حقل السرد بشكل خاص. وقد اجتهدت طوال تلك الفترة من حياتي على إعداد بيبلوغرافيا تخص جنسين أدبيين هما القصة القصيرة والرواية.
بالنسبة لي ثمة هاجس يقلقني في حياتي أن أبدو جديراً باحترام جهتين، الجهة الأولى هم طلابي الذين أتعامل معهم في الجامعة فأخشى أن يوجه لي أحدهم سؤالاً في حقل اختصاصي فأتلعثم في الإجابة، ولذلك استطيع أن أقول بكثير من الزهو ما من كتاب في القصة والرواية والنقد الأدبي إلا ويمثل بالنسبة إلي معرفة كافية على الأقل في ما يتصل باختصاصي، ولدي ذاكرة حافظة أباهي بها، هذه حافظة لا بد أن السماء تكرمت بها علي لذلك أشعر بالزهو أمام الطلاب إذ قدم لهم نموذجاً كما أقدر للأستاذ الأكاديمي الذي يجب أن يكون لائقاً بالشهادة العلمية التي يحملها. هذه جزئية.
الجزئية الأخرى تتعلق بعملي في حقل الثقافة فلا يمكنني أن ألقي محاضرة أو أشارك في ندوة من دون أن أشعر أنني متمكن معرفياً من المحتوى الذي أريد الاشتغال عليه، لذلك أؤرشف على هذا النحو الذي يبدو أحياناً أنه إسراف في التوثيق في صناعة البيبلوغرافيا، لكنني في المحصلة استطعت أن أجد أمامي في السنوات الخمس على الأقل الأخيرة كنزاً كبيراً ربما تعجز عن صناعته مؤسسات.
تصويب البوصلة
< عدت مؤخراً من الإمارات العربية وكنت قد شاركت ممثلاً لسورية في المؤتمر السادس والعشرين للاتحاد العام للأدباء والكتاب العرب، ما الانطباع الذي خرجت به من هذا المؤتمر؟ كيف كانت مواقف الأدباء المشاركين في المؤتمر، وإلى أي مدى تجلت الموضوعية في طروحاتهم؟.
<< استطيع أن أقول لك شعرت بما يكونني كوكباً في سماء بعيدة جداً جداً، بما يمنحني زهواً باسقاً وعالياً لأنني استطعت أن أدافع عن سورية كما يليق بسورية بل كما يجب أن يليق بسورية على نحو أدق. لا أستطيع أن أقول أنني اجترحت معجزة فالمعجزة صناعة الأنبياء، لقد استطعت أن أكون ابنا باراً لسوريتي وأرجو أن أكون قد حققت صلة الرحم الحقيقية بأمي سورية، ولعلي نجحت في ذلك وأترك تقدير هذا لأبناء أمي ووطني سورية، للذين أشاركهم عذاباتهم في هذا الجرح النازف من الخاصرة السورية منذ خمس سنوات.
أستطيع أن أقول بصوت عال جداً كنت السوري الذي تليق به الهوية السورية، حقاً لا ورقاً، واقعاً لا تصوراً، حقيقة لا زيفاً وبهذا المعنى أستطيع أن أقول: إن سوريتي حملتني على أجنحتها إلى دولة الإمارات العربية، كما حملتُ سوريتي في قلبي إلى دولة الإمارات العربية. وقد تقصدت أن أكون في رحاب المؤتمر قبل أن يبدأ المؤتمر لكي استقرئ المناخ العام حول سورية فيما يعني الأدباء والكتاب العرب، ولاسيما أنهم كانوا يتتابعون في وصولهم إلى المؤتمر، وقد كنت أبدي حرصاً على معرفة توجه كل من رؤساء الوفود حتى عندما أدخل المعارك الثقافية والأدبية الخاصة بوطني سورية، أن أعرف كيف أدافع عنها أمام قوى تغوّلت في عدائها لها، وقوى وقفت على الحياد منها، وقوى استطاعت أن تناصر سورية بالكلمة ولم تستطع أن تناصرها بالموقف، فكنت أمام ثلاثة مستويات من العلاقة مع سورية من الكتاب والأدباء العرب في اليومين اللذين سبقا المؤتمر، استطعت أن أتعرف إلى المناخ العام لهذه المستويات الثلاثة ولذلك عندما بدأت الجلسة الأولى التي تلت افتتاح المؤتمر، ومُنِح أعضاء الوفود بضع دقائق ليلقوا كلماتهم كنت قد أعددت نفسي لإلقاء الكلمة التي ستكون المقدمة التي كانت مقدمة للإنجازات التي تلتها، إذ كانت الكلمة الافتتاحية إنجازاً مؤسساً لإنجازات بعدها، وقد استطعت خلال اليومين الفائتين من المؤتمر أن أوجه وعي بعض الزملاء الكتاب والأدباء العرب وأمضي بهم نحو الحقيقة بدلاً من أن تمضي بهم الفضائيات ووسائل الاتصال التي استذأبت في تشويه هذه الحقيقة، تمكنت من أن أجعل الحقيقة هي الحاضرة بيني، بوصفي موفداً لوطني سورية، وبينهم بوصفهم جزءاً من أنظمتهم السياسية التي اتخذت مواقف عدوانية من سورية. وإلى حد كبير أستطيع أن أقول أني وضعت العربة على السكة الصحيحة، واستطعت فيما تلا من أيام أن أقدم أو أصنع هذه الإنجازات لوطني سورية، وأعود وأقول الإنجازات التي قمت بها ممثلاً للكتاب والأدباء والمثقفين في سورية هي إنجازات تخص كل سوري، لأن سورية كانت حاضرة في أول كلمة ألقيتها، وكانت حاضرة في آخر كلمة قلتها عنها وأنا أغادر الإمارات العربية المتحدة.
< وماذا كان الانطباع عن مقاطعة السعودية وقطر؟.
<< هما لم يقاطعوا، هم في الأصل دول متخلفة ومستغرقة في ظلاميتها، دول لا تقر بالتعددية ولا بالتجمعات ولا بالاتحادات ولا بالأندية، دول تصادر على أبنائها حقهم في إنشاء كيانات أدبية، فليس لديها اتحادات كتاب أو روابط أدباء، ولذلك كانت غائبة بطبيعة الحال عن المؤتمر، ولعل ذلك ما ساعد الوفد السوري في أن ينجز ما أنجز، ولو كانت هاتان الدولتان اللتان أمعنتا في سفك الدم السوري حاضرتين، ربما لواجهت صعوبات أشد من الصعوبات التي واجهتها وأنا أحاول الدفاع عن الحق السوري والكرامة والحقيقة السورية في المؤتمر.
< وكم نسبة النجاح التي يكمن أن تقول أنها استطاعت تصويب البوصلة للأدباء والمشاركين في المؤتمر؟.
<< استطيع أن أقول أن البوصلة قد مضت إلى حيث تريد سورية تماماً، بل إلى حيث يجب أن تمضي بدلاً من أن تكون قد انحرفت طوال السنوات الخمس الفائتة نحو جهات لا تمت للحقيقة بصلة، عدنا فصوبنا اتجاه هذه البوصلة نحو الحقيقة فيما يعني ما يجري على الأرض السورية منذ نحو خمس سنوات.
صحيح أنه كانت هناك اتحادات وروابط وجمعيات أدبية تمثل أنظمتها السياسية بامتياز وتتبنى وجهات نظرها بامتياز أيضاً، لكننا استطعنا إلى حد كبير أن نقوم بعملية تحييد على الأقل لهؤلاء فيما يتعلق بالحقيقة السورية، وهذا ما ساعدني على انجازه عامل أساسي هو أنني ارتبط بعلاقات صداقة مع مجمل رؤساء الاتحادات والجمعيات والأسر الأدبية العربية، واعترف بأنني استثمرتها وهذا حق لي لأنني يجب أن أفعل ذلك ما دمت أدافع عن وطني سورية، ومادمت قد مضيت إلى دولة الإمارات لكي أقدم الحقيقة السورية بأبهى تجلياتها وأنصع صورها.
وفد تضامني مع سورية
< وما مدى مصداقية وجدّية خروج المؤتمر بتشكيل وفد تضامني مع سورية، وانعقاد المؤتمر في دمشق صيف هذا العام؟.
<< بعد عودتنا من المؤتمر مباشرة شكلنا اللجنة التنظيمية، ولجنة الاستقبال والمغادرة، ولجنة المرافقة للوفد، ولجنة الإعلام التي ستتابع زيارة الوفد لسورية، وقد فعلنا ذلك على ضوء اتصالاتنا مع بعض رؤساء الوفود لكي نؤكد ترجمة تضامن المؤتمر السادس والعشرين للأدباء والكتاب العرب مع سورية، ونحن نشرع الآن في إنجاز ذلك وسيكون هؤلاء في موعد أقصاه نهاية هذا الشهر هنا.
ثقافة التنوير
< مضى على تسلمك مهمة رئاسة الاتحاد ما يقارب الثلاثة أشهر، هل أستطيع أن أسألك عن إنجاز، أو خطة؟ أو مشروع؟.
<< مضى على نشأة الاتحاد 46 عاماً، وخلال هذه السنوات لم تبادر أي من الدورات الانتخابية إلى إعداد مشروع يخصها على المستوى الثقافي، وفي الدورة التاسعة التي تسلمت فيها رئاسة الاتحاد، كان أول هاجس لي أن يكون ثمة مشروع تنجزه هذه الدورة واتخذناه شعاراً للدورة التاسعة، وسنعمل على تنفيذه وترجمته في السنوات الخمس القادمة من تاريخ هذه الدورة، هو “ثقافة التنوير” ونعني بثقافة التنوير مواجهة الفكر الظلامي والتكفيري الذي تهدد ويتهدد سورية منذ نحو سنوات خمس. وإذا كان ما أستطيع أن أباهي به في مسيرتي الشخصية، فهو أني أعددت مشروعاً ثقافياً لهذه الدورة، وأعتقد بل أؤمن بأن دور الثقافة يضارع تماماً دور الرصاصة في مواجهة التكفيريين والظلاميين والقتلة، فكما يؤدي الجندي العربي السوري الباسل دوره في أرض المعركة، على المثقف في اتحاد الكتاب العرب وفي سورية أن يؤدي دوره أيضاً في مواجهة هؤلاء التكفيريين، ذاك يحمل البندقية على كتفه، ونحن نحمل الكلمة التي تصدح بالحق في حناجرنا، وإن لم نفعل ذلك فنحن لن نقل قبحاً ورداءة عن أولئك الذي يبصرون القتيل فيكتفون بالنظر إليه فقط.
< كلامك هذا يؤكد ما يشاع عن تفردك في سلوكك الأدبي والتعليمي في مقدرتك على المزاوجة بين مسؤوليتك كرئيس للاتحاد ومسؤوليتك الإبداعية هل نستطيع تأكيد ذلك؟.
<< قلت لك أنني شخص منظم وشديد الانضباط بحق نفسي أولاً، فأنا لا أهدر الوقت، ولا أعرف وقتاً ميتاً ولا أستطيع احتمال الوقت الميت، لذلك أرتب يومي على حاملين: الحامل الأكاديمي بوصفي أستاذاً جامعياً والحامل الثقافي بوصفي مشتغلاً في الثقافة، واستطعت طوال السنوات الثلاثين التي مضت من حياتي على الأقل عندما اخترت لنفسي هذين المسارين في حياتي، أن أكون منضبطاً انضباطاً رهيفاً، ولذلك استطعت أن أنجح كما أزعم، وكما يقدر من هم حولي، أنني نجحت في كليهما، استطعت أن أكون أكاديمياً متميزاً إلى حد يقدره سواي، كما استطعت أن أحفر حضوري في الحياة الثقافية العربية على نحو متميز أيضاً كما يقدر سواي، بفضل قيمة عظيمة حملتها هواء في رئتيّ طوال حياتي هي الوقت، ولولا هذه القيمة التي مثلت بالنسبة إليّ هواء يومياً ربما، لما كنت أنجزت هذا الذي أنجزت طوال حياتي.
إعادة الاعتبار لكتاب الاتحاد
< بالنسبة لمنشورات الاتحاد هل هناك إعادة نظر في معايير النشر؟ خاصة وأننا نعرف أن هناك نتاجاً متراكماً في مستودعات الاتحاد؟.
<< أحد أهم المشروعات التي أحملها في هذه الدورة هو إعادة الاعتبار إلى الكتاب الذي يصدره اتحاد الكتاب العرب بدلاً من أن ينجز الاتحاد إصدارات تتراكم في رفوف المكتبات، تتراكم بعضها فوق بعض في المستودعات. سيكون أحد أهم مشاغلي تصدير كتاب ينفد من السوق في وقت قياسي، بدلاً من أن ننتج كتباً لا تدفع القارئ إلى اللهاث وراءها، هذا أحد أهم الشواغل والهواجس بالنسبة إلي، لذلك أقدّر أنني سأرتطم بزملاء كتّاب أعضاء اتحاد لن يسعدهم هذا القرار، لأن كلاً منهم يحرص على أن يكون لكتابه مكاناً في إصدارات الاتحاد، ولذلك أتمنى عليهم أن يقدّموا الحقيقة على الامتياز الشخصي، سورية على الذات الفردية، الثقافة على الأنا، بدلاً من أن نمعن في إنتاج كتب لا ترقى إلى مستوى يمكنّها من تسويق ذاتها بذاتها، أسعى الآن إلى كتاب يحمل قدرة تسويقية في ذاته بدلاً من أن نبحث عن أسواق لهذا الكتاب، بل عن كتاب يسوّق نفسه بنفسه، هذا أحد أهم الهواجس، وسأجهر بسر أخص به صحيفتكم وأفاجئ القارئ من خلالها أن هناك في مستودعات اتحاد الكتاب العرب كتب مركونة في هذه المستودعات منذ نحو عشر سنوات وأكثر أو منذ نحو عشرين سنة، تزيد قيمتها على مئتي مليون ليرة سورية، وأنا لن أرتكب ما ارتكبه سواي من إثم بحق الكتابة والكتاب.
“درب حلب” والوجع السوري
< كتابك “درب حلب” الصادر مؤخراً تجسيد لمأساة حلب كمدينة وللوجع السوري ككل، كذلك تأكيد على الهوية الثقافية والتاريخية والحضارية لسورية وأهمية الحفاظ عليها. ماذا تحدثنا عن هذا الكتاب؟
<< سأقول لك شيئاً قد يكون خاصاً، لكن من الممكن أن يطلع عليه الآخرون في هذا الحوار، أنا أكتب منذ نحو ثلاثين عاماً وتزيد، وحصلت على جوائز أدبية خارج سورية وداخلها، ولكن لم أدع إلى الكتابة في الصحافة السورية طوال السنوات الثلاثين التي مضت، على الرغم من المكانة التي كنت حققتها لنفسي على المستوى الثقافي العربي، وفي سنة 2013 وأنا في مدينة حلب أرزح تحت وطأة الإرهاب والتكفير والقتل والتدمير، حيث لا ماء ولا كهرباء ولا خبز ولا اتصالات ولا أي شيء، تلقيت بالمصادفة اتصالاً من أحد العاملين في القسم الثقافي لصحيفة تشرين ينقل إليّ رغبة إدارة الجريدة في أن أكتب في زاوية “آفاق” فقلت له “العب غيرها” لأني لم أصدق، الآن تذكرتم نضال الصالح، فقال: أنا جاد وهناك تمنٍ حقيقي بأن تشارك في كتابة زاوية “آفاق”، قلت له لكن أنا لا أكتب إعلام، وأنا حقاً لا أكتب إعلام، لأنه بالنسبة لي الكلمة هي أدب أكثر منها إعلام، فقال: لك حرية الكتابة كما تشاء، المهم أن تكون لك مشاركة في هذه الزاوية، فوافقت، لكنني احترت كيف أكتب زاوية أسبوعية تستطيع أن تلبي جمر روحي، وتستطيع إرضاء أذواقاً مختلفة من القراء من دون أن ترتفع على سويّاتهم المختلفة، فقررت أن أكتب عما يحدث في وطني سورية، عن كل جزء من الجغرافيا السورية، بلغتي وبطريقتي وبأسلوبي، وأستطيع أن أقول أنني اجترحت جنساً أدبياً ليس مقالاً صحفياً، وليس قصة قصيرة، وليس شعراً، هو كل ذلك وسواه، وجمعت بعض هذه المقالات في كتاب سميته “درب حلب” وهو عنوان واحد من المقالات. كتبت عن حلب وعن كل المدن السورية، وعنيت بـ “درب حلب” درب سورية، وقد أفاجئك إذا قلت لك إن هذا الكتيب يساوي بالنسبة إليّ على المستوى الروحي مجمل ما أنجزت في تاريخي الثقافي، على الرغم من أني حصلت على أربع جوائز أدبية على المستوى العربي، هذا الكتاب مثّل بالنسبة إليّ طهارة حقيقية من الآلام التي كنت أكابدها وأنا في مدينتي حلب، وتابعت هذه الطهارة عندما جئت إلى دمشق، وأمضيت حياتي فيها منذ نحو ثلاث سنوات إلى الآن، كتبت عن دمشق وحلب وكل المدن السورية عاشقاً، نبشت التاريخ من رماده وأطلقته لكي يتعرف السوريون إليه من خلال هذه المقالات القصيرة، التقطت حيوات بعض الشهداء الذين قرأت عنهم، وتابعت بعض أخبارهم، تحدثت عن أمهات فقدن أبناءهن، عن عاشقات فقدن أحبائهن، ولعلي واجهت بهذا الكتاب بعض الزيف الذي حاوله بعض الكتّاب في ما كتبوا عن سورية لكي يطمسوا الحقيقة عما يجري في سورية، وأستطيع أن أقول إن “درب حلب” كما كان طهارة للروح من النزيف الذي كانت تعيشه مدينتي حلب وأعيشه أنا على المستوى الشخصي، ويعيشه معظم السوريين، كان في الوقت نفسه مواجهة أدبية –إذ شئت الدقة- لذلك الزيف الذي مضى إليه بعض الكتاب السوريين وهم يتحدثون عن ما توهموا أنه ثورة في سورية، أو ما توقعوا أنه امتداد لزيف اسمه الربيع العربي، ولذلك أتمنى أن أجد هذه النصوص مجسّدة درامياً، لأن كل نص منها هو حكاية سورية.
الرؤية الاستشرافية للمبدع
< أيضاً معروف عنك جرأتك في قول الحق في تناولك لأي موقف، وكما تابعنا نتاجك كان هناك حالة من التنبؤ أو التنبيه لما هو قادم لسورية، إلى أي مدى نستطيع الإقرار بالرؤية الاستشرافية للمبدع؟.
<< يقول المثل: “الساكت عن الحق شيطان أخرس”، فأي معنى للمثقف إذا ارتضى لنفسه أن يكون شيطاناً أخرس في قول الحقيقة والجهر بها، ومنذ المقدمات الأولى لعملي في الثقافة وضعت نفسي أمام خيارين أحلاهما مرُ، إما أن أكون شاهد عدل، أو أن أكون شاهد زور، وعلى الرغم من الأثمان الباهظة التي يدفعها شهود العدل دائماً، أنا اخترت أن أكون شاهد عدل، وقد دفعت أثماناً باهظة، إذ لم أرض أحداً، ولم أعجب أحدا، ولم يصفق لي أحد، لأنه كن مطلوباً من المشتغلين في النقد في سورية إما أن يكونوا مصفقين، أو شهود زيف على الحقيقة، أما أنا فمضيت إلى الحقيقة مهموماً بها ومخلصاً لها، لذلك أتعبتهم فيما كتبت من دراسات وأبحاث حول هذه التجربة الأدبية أو تلك، وأنا لست خجلاً ولا نادماً، ولست آثماً في الوقت نفسه إذا كنت قد اخترت ذلك لنفسي منذ ثلاثة عقود، وسأبقى أنا كما كنت دائماً، لأنني لا يمكن إلا أن أكون نضال الصالح الذي تسلّح بالحقيقة وحدها من دون أن ينظر إلى مكسب هنا، أو أعطية هناك، أو مديح مجاني هنا وآخر هناك.
< كذلك نقرأ عبر نتاجك الكثير من الأسئلة التي تطرحها ولا أدري هل تطرحها لتشارك الآخرين بها, أم تطرحها لإيجاد إجابات, أم لتتخلص من عبئها. وأسئلتك خلال الخمس سنوات الأخيرة ماذا حصل بها, هل تغيرت, هل تحولت, ما الشكل الذي تأخذه الآن؟.
<< أنا مهموم بالأسئلة دائماً لأنني لا أعتقد أن أي مثقف كاتب مهما بلغ درجة من المعرفة قادر على امتلاك الإجابة، لا إجابات مطلقة في الحياة، وعندما يصل الإنسان إلى إجابات مطلقة فهذا يعني أنه أغلق على نفسه المعرفة، لذلك أنا دائب البحث عن أسئلة، عن إنتاج الأسئلة التي تلد أسئلة، والتي تتوالد من أسئلة غيرها، لذلك لا أكف عن طرح الأسئلة في كل ما أكتب، ولذلك أيضاً لا أدّعي أنني أبحث عن إجابات بقدر ما أثير هذه الأسئلة، ويكفيني شرف إثارة هذه الأسئلة التي تبدو لي أسئلة تتجاوز الذات إلى الجماعة، ويجب أن تتجاوز الذات إلى الجماعة، لأن ما يخص الذات لا يمكن أن يكون جمعياً إلا بقدر ما يكون السؤال في الوقت نفسه يعني الجماعة عامة.
شخصية مثيرة للجدل
< تتهم أنك شخصية مثيرة للجدل في تناولك للنصوص الإبداعية، هل هذا الاتهام من منطلق تجنيك على النص الإبداعي؟ أم من الشفافية والدقة التي تتناول فيها هذه النصوص؟.
<< أن يصفني بعض المشتغلين في الثقافة أنني شخصية مثيرة للجدل، فهذا يعني أنني شخصية ليست ساكنة، وهذا شرف لي، ولا يمكن لي أن أكون شخصية ساكنة، وإذا ما صرت إلى شخصية ساكنة يعني أنني صرت إلى العطالة، وإذا ما صرت على العطالة فهذا معناه أنني صرت إلى الموت وأنا على قيد الحياة، وأنا لا أحب الموت وأنا على قيد الحياة.
< أيضاَ تقول أن لا قيمة لأي نص أدبي إن لم يحصل على متابعة نقدية مخلصة للنص لا لكاتبه، ما هي برأيك المعايير النقدية التي يجب أن يعتمدها الناقد الذي يهمه أن يكون هناك إبداع حقيقي؟ وما هي مواصفات هذا الناقد؟.
<< لدي قيمتان أساسيتان في تتبعي للأعمال الأدبية، الأولى: إيماني بأن صاحب هذا النص، أو مبدع هذا النص إنسان بحق وليس كاتباً، ولذلك لا أستطيع فصل الأدب بمعناه السلوكي عن الأدب بمعناه الإبداعي، ولذلك لم أقارب نصوصاً أو كتابات لرجال أو نساء لم أكن مقتنعاً بأنهم يجمعون بين الأدبين، وبأن في شخصيتهم هاتان السمتان. القيمة الثانية: أن النص يفرض نفسه على الناقد، وإذا لم تتوفر في النص هذه السمة فلا أمضي إليه، لأنني لا أريد أن أكبّد نفسي عناء كتابة، أو أن أنجز كتابة لنص لا يستحق. هاتان قيمتان مثلتا بالنسبة إليّ فيما كتبت وما أنجزت من دراسات وأبحاث ومؤلفات ركنين أساسيين في ممارستي النقدية، ولن أتخلى عنهما، أما ما هو النص الذي يثير الاهتمام لديّ ويدفعني إلى ملء قلمي بالحبر لكي أكتب عنه، أستطيع أن أقول: إنه النص الذي يثير في الروح أسئلة لا تكف عن التوالد.
النص مرآة صاحبه
< من وجهة نظرك أن كل نص هو مرآة صاحبه التي مهما تعددت تظل وجهه الحقيقي، إلى أي مدى ترى الحالة الإبداعية بشكل عام مطابقة للحالة الذاتية أو هي صورة لها؟.
<< أنا لا أؤمن أن ثمة انفصالاً بين النص وصاحبه، ولا أؤمن أيضاً بأن على الناقد أن يقوم بعملية الفصل هذه. بالنسبة إليّ النص هو صاحبه، بل هو مرآة صاحبه، وإن لم يكن كذلك فإن ثمة زيفاً في العلاقة بين النص وصاحبه، صحيح أن في تاريخ الأدب ثمة أدباء كبار كانوا شواذ، وكانت كتاباتهم علامات فارقة في تاريخ الأدب، لكن بالنسبة إليّ لا أعتقد أن النص يمكن أن ينفصل عن صاحبه، النص المقدس إنسانياً، هو نتاج إنسان مقدس إنسانياً، والنص الشائه إنسانياً، هو نتاج إنسان شائه إنسانياً، ولا فصل بينهما. في الأدب السوري والحياة الثقافية السورية نصوص أدبية تتجاوز حدود المقدسات، لكي ترضي وهمها أو أوهام صاحبها بأنها تجترح شيئاً مدهشاً ولافتاً للنظر، لكن الحقيقة أن هذه الأوهام تضمر وراءها أوهاماً أخرى هي أشبه ما تكون بالأقنعة التي يتخفى المبدع وراءها لكي يقول نزواته وطيشه العابر، وجنونه الطارئ.
< تنوع نتاجك الإبداعي بين القصة والرواية والنقد إلى أي منها تميل أكثر؟.
<< القصة هي حبي الأول، وقديما قيل: “نقّل فؤادك حيث شئت من الهوى/ ما الحب إلا للحبيب الأول” وبالرواية اكتمل حبيّ الأول ووجدت نفسي فيهما، وأنجزت من خلالهما جائزتين أدبيتين على المستوى العربي، حصلت عليهما لأول مجموعة قصصية لي وأول رواية لي، لكنني وجدت نفسي فيما بعد أمضي نحو النقد بإرادة مني أحياناً وبدون إرادة مني أحياناً أخرى، ففي نهاية السبعينيات كان ثمة صفحة تصدرها صحيفة الثورة بعنوان: “أدب الشباب” كان يحررها الأديب الراحل حيدر علي، ولم أكن أعرفه، وكان ينشر لنا نتاجاتنا نحن الشباب آنذاك، ويحتفي بها احتفاء شديداً، ومن عباءة هذه الصفحة خرج كثير من العلامات الفارقة في الثقافة السورية الآن، وفي يوم فوجئت بـ “حيدر” يتصل بي إلى حلب ويطلب إليّ أن أكتب دراسات نقدية عن النصوص الأدبية التي تنشرها الصفحة، وكنت حينها طالباً في الدراسات العليا، فاقترفت إثم الكتابة النقدية، ثم ما لبث هذا الإثم أن صار جزءاً من دمي، فبدأت لا أعرف الحياة من دونه، لكنه كان إثماً باهراً وخالقاً ومبدعاً لي، وعندما أنجزت دراستي في دبلوم الدراسات الأدبية العليا اخترت أن أمضي إلى النقد بكليتي، وكان من المدهش أن أول كتاب نقدي أدفع به إلى النشر يفوز بجائزة على المستوى العربي، مما أكد لي أن نضال الصالح الذي كان يكتب القصة القصيرة قد سقط تماماً في شرك الغواية النقدية، واستعذب هذه الغواية، ومضى يتقلب على جمرها وبجمرها حتى هذه اللحظة.
< تنقلت بين أمكنة ثلاثة هي: حلب- حمص- دمشق. كيف تترجم علاقتك بالمكان سواء على صعيد النص الأدبي أم على الصعيد الشخصي؟.
<< لم أكن أتوقع في يوم من الأيام أن أتزوج أنثى اخترتها لنفسي عاشقاً ولهاناً بها غير حلب، وإذ تنافسها دمشق وتصير ضرة لها، دمشق سكنتني حتى صارت جزءاً من وجودي اليومي، وجدت في حاراتها القديمة وحجارتها وأبوابها وخاناتها تعويضاً، أو مايشبه التعويض عن الحجارة التي تساقطت في مدينتي حلب بفعل التكفيريين والإرهابيين، لعل دمشق، هذه الضرة، هذه المعشوقة الثانية، هل استطاعت أن تزيح حلب من روحي، وأن تحل مكانها، أنا لا أعرف، لذلك دائماً أرتّل قوله تعالى: “وما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه فيخفقان بامرأتين” هاأنذا أتأكد أن الله يمكن أن يفعل ذلك فيجعل لي قلبين في جوفي فيخفق هذان القلبان بمعشوقتين هما حلب ودمشق.
< وبعد هذه السنوات الخمس كيف يستشرف نضال الصالح القادم من الأيام؟.
<< لم أكن في يوم من الأيام إلا محكوماً بالأمل كما قال الراحل سعد الله ونوس، حتى في تلك اللحظات الشديدة الوطأة والقسوة في مدينة حلب وأنا أعاني، بل أكابد وطأة الجوع والعطش والمطاردة لم أكن إلا متفائلاً، والآن وبعد هذه السنوات الخمس أرى ذلك الصبح بعينيّ هاتين باذخاً بالضوء ومترفاً بالدفء وفياضاً بالفرح بعد هذه الظلمة التي كادت تفترس أرواحنا وتجعلها نهباً لحياة تشبه الموت.
حاورته: سلوى عباس ـ جريدة البعث
إضافة تعليق جديد