خليل حاوي ربع قرن على انتحار آخر «الشعراء التموزيين»
ربما ليس هناك إجماع على شعرية خليل حاوي، لكنْ ثمة، بالتأكيد، إجماع على فرادة تجربته وخصوصيتها. إذ من النادر أن نجد شاعراً تماهت حياته وأفكاره مع قصيدته إلى هذا الحد. تحوّل الشعر لدى حاوي إلى مشروع خلاص جماعي للأمة. كان شعره ترجمة لأفكار ورؤى وطموحات وأحلام كبيرة. ولأن حال الشاعر من حال الأمة، فقد راح يكتب وفق رؤيا كارثية مفتوحة على مشهديات مليئة بالرعب والفساد والانحلال والخراب.
كان حاوي شاعراً مقلّاً بالقياس إلى حضور اسمه بين مجايليه، فقد أصدر خمس مجموعات صغيرة فقط. بعض النقاد عزوا ذلك إلى التركيبة الفكرية والنفسية المعقّدة التي حصّلها من طفولته القاسية ودراسته المعمقة للفلسفة وانتمائه العقائدي لفكر أنطوان سعادة. الواقع أنّ هذه العوامل شكلت معايير صعبة وقاسية للكتابة. كان حاوي ناقداً ومفكراً بمقدار ما كان شاعراً. بل إن مطالعة متأنية لشعره قد تدفع القارئ إلى تغليب الحضور الفكري والفلسفي على المادة الشعرية. استخدم حاوي لغة حدسية تقوم على عبارة متينة وصياغات تعبيرية تبدو كأنها منحوتة نحتاً. المتانة اللغوية والنحت التعبيري والهواجس الفكرية ليست صفات ملائمة للغزارة والتلقائية وتعددية الأداء الشعري. كان حاوي صارماً مع نصه. أغلب قصائده توحي بأنها مكتوبة بحسب مخيلة تدقق في أصغر تفصيل. ربما تكون هذه الصرامة قد أطاحت جزءاً من شاعريته. إن أداءً شعرياً مرتهناً إلى كل هذه الشروط لن يكون في منأى عن التضحية بشيء ما من شعريته. وهذا ما يتبدّى في تكرار حاوي لثيمات وخصائص معينة (الرؤيا الكارثية. المناخ الجنائزي. النبرة الغاضبة. التوتر الدائم في جملته الشعرية. إكثاره من المفردات النافرة والحادة).
كان حاوي شاعراً رؤيوياً انشغل بفكرة الانبعاث الحضاري. وبدا ذلك منذ مجموعته الأولى «نهر الرماد» وفي قصيدة «الجسر» تحديداً، حيث استثمر الأسطورية التموزية كحل شعري لخروج الأمة من حال العقم والموت، فكتب: «يعبرون الجسر في الصبح خفافاً / أضلعي امتدت لهم جسراً وطيد / من كهوف الشرق / من مستنقع الشرق / إلى الشرق الجديد... من حصاد الحقل عندي ما كفاني / وكفاني أنّ لي عيد الحصاد».
رغم رؤيته الكابوسية وعذابه الشخصي، كان الشاعر يحلم بالتغيير. يفكر أن الخراب الذي تعيشه الأمة مؤقت، وأن ولادة ثانية تنتظرها في الطريق. ولكنه عاد في ديوانه الثالث «بيادر الجوع» فاقداً إيمانه بذلك: «هذي العقارب لا تدور / رباه كيف تمطّ أرجلها الدقائق / كيف تجمد تستحيل إلى عصور». وفي قصيدته الشهيرة «لعازر» يقوم لعازر من الموت، لكنّه لا يستطيع أن يقدم سوى وجه وقلب ميتين إلى الأحياء. ولعل آخر ما كتبه حاوي في قصيدة «أرض الوطن» يليق بنهايته الانتحارية: «أغمضتَ عينيك على رماد / أغمضتَ عينيك على سواد / تغوص في أرض بلا سريرة / غصاتك المريرة».
الفكرة الفلسفية والعقائدية قادت خليل حاوي إلى كتابة قصيدة تكثر فيها الرموز والاستعارات والإسقـــــــــاطات الأسطورية. بهذا المعنى، كانت القصيــــــــــدة تحدّياً لغوياً ونقدياً وفــــــــــــــكرياً. في كتابة كهذه قلما تتسرب أشياء أخرى إلى مساحة القصيدة. يُضـــــــــاف إلى ذلك أن حاوي واظب على كتابة الجملة الشعرية عينها التي بدأ بها تجربته. جملة قوامها متانة التعبير والإيقاع الصارم، ومخلصة لألم الشاعر الفردي وآلام الجماعة.
لقد غرقت قصيدة حاوي في رعب الواقع وفجائعيته، بحيث بات نهوضها هي صعباً، وليس نهوض الأمة وحدها. القصد أن القصيدة استسلمت لهاجس شعري وفكري شديد التطلب، ما جعلها تبدو رتيبة وذات موضوع واحد تقريباً. إنها تغرف من المعجم نفسه طوال الوقت. ما إن نبدأ بقراءة قصيدة حتى تهطل المفردات الجنائزية والكابوسية. في قصيدة «السندباد في رحلته الثامنة» وحدها نجد كلمات كثيرة من نوع: «سموم، حية، حمى، دم، هول، حشرجة، لعنة...». أجواء الموت والخراب واليباب تخيم على أغلب نتاجه. بعض النقاد عابوا على حاوي جملته الدائمة التوتر ومفرداته النافرة والحادة. الواقع أن إصرار حاوي على إثقال قصيدته بكل هذه الحمولة الفلسفية والرمزية والتدميرية حوّل كتابته من ممارسة شعرية عادية إلى عمل فكري. أراد حاوي أن تحلق قصيدته بجناحي الشعر والفكر معاً. الأرجح أن مبالغة الشاعر في «فكرنة» قصيدته عطّل بعضاً من شعريتها. أما مقدار هذه العطالة فهو محكوم بذائقة كل قارئ. وفي هذا السياق يمكن اقتباس ما قاله محمود درويش في أحد حواراته الأخيرة، حين سمّى خليل حاوي من بين الشعراء الذين لا يعود إلى قراءتهم.
هل معنى ذلك أن حاوي، الذي سعى إلى إحياء الأمة بشعره، قصّر في توفير حياة دائمة ومتواصلة لهذا الشعر؟ هل يتعب الشعر، ويموت مبكراً، حين يثقل بالأفكار والرموز والأساطير؟
إذا كان الجواب نعم، فلا بدّ أن نعيد النظر في تجارب شعرية عربية عدّة تقاسم شعراؤها، مع حاوي، في مزج الأفكار والعقائد بالشعر.
- مصطلح «الشعراء التموزيون» ابتكره الناقد والروائي الراحل جبرا ابراهيم جبرا وأطلقه على أدونيس ويوسف الخال والسيّاب وخليل حاوي وجبرا نفسه (مجلة «شعر»، العدد 20 ـــ خريف 1961)، في إشارة إلى الارتباط بفكرة البعث وأسطورة «تموز وعشتار»
-سيرته: ولد خليل حاوي عام 1919 في الشوير. في أول المراهقة اضطر إلى العمل في البناء بعد مرض والده. كان اتّصاله بالحياة العامة عبر الحزب القومي السوري الاجتماعي الذي شكّل النافذة الأولى لتوجّه حاوي الشعري إلى المواضيع السياسية والاجتماعية والثقافية.
تخرّج من الجامعة الأميركية في بيروت (1955)، وسافر إلى بريطانيا بمنحة فحصّل الدكتوراه من جامعة كامبريدج (1959). عاد إلى الجامعة الأميركية أستاذاً ومحاضراً في النقد الأدبي، حتى انتحاره صباح السادس من حزيران 1982، ببندقية صيد في منزله، مع بدء الاجتياح الإسرائيلي للبنان.
يعتبر حاوي أحد أبرز روّاد الشعر العربي الحديث، في مرحلة مفصليّة من تاريخه. له خمس مجموعات ضمّها «ديوان» الأعمال الكاملة («دار العودة»): «نهر الرماد» (1957)، و«الناي والريح» (1961)، و«بيادر الجوع» (1965)، و«الرعد الجريح» (1978)، و«من جحيم الكوميديا» (1979). وأصدر كتباً في النقد الأدبي والفلسفة، منها «العقل والإيمان بين الغزالي وابن رشد»، و«جبران خليل جبران: إطاره الحضاري وشخصيته، وآثاره».
ويبقى انتحار خليل حاوي لغزاً. الاجتياح الإسرائيلي (1982) لعب دوراً في تلك النهاية المفجعة، إلى جانب جملة من الخيبات العامة والخاصّة. ويذكر أن الشاعر الذي تناول حلم القيامة، كان في العمق شديد التشاؤم. دخل المعترك صغيراً، وذاق مبكراً طعم الخيبة. كتم عنه الأهل موت شقيقته الصغرى أوليفيا. وكان الفشل مصير معظم مشاريعه العاطفيّة. ولعلّ أشهر قصص حبّه، كانت مع الأديبة العراقية ديزي الأمير التي لم تكشف يوماً عن أسباب القطيعة. حاول حاوي الانتحار مراراً. لكنّ أوضاعه النفسية ساءت في آخر أيامه. وكان النقّاد تلقّفوا بفتور آخر دواوينه الشعريّة.
حسين بن حمزة
المصدر: الأخبار
إضافة تعليق جديد