دورة التحوّلات الأسلوبية من جاك أوديار إلى الأخوين كوين: «البندقية» تعترف بنتفليكس
أول من أمس، اختُتمت الدورة الـ 75 من «مهرجان البندقية السينمائي الدولي»، بمشاركة أسماء من العيار الثقيل في الفن السابع، مثل ألفونسو كوارون، ويورغوس لانثيموس، وجاك أوديار، والأخوين كوين، إلى جانب حضور عربي مقبول تمثّل بسوريا. اللافت أنّ الجوائز التقنية هذا العام ذهبت إلى سينما من نوع واحد، هو «الويسترن»، فيما زادت جرعة الأمركة في الحدث العريق
افتتح «مهرجان البندقية السينمائي الدولي» يوبيله الماسي هذا العام، واعداً بدورة قد تكون الأهم بالنسبة إلى عميد المهرجانات الأوروبية، مع سقف توقعات مرتفع سلفاً، قياساً بالأسماء التي أُعلنَت قبل أسابيع من مدّ السجادة الحمراء على مدخل الموسترا. حدث ترافق مع جدلٍ يكاد يصبح تقليدياً عند افتتاح المهرجانات الكبرى بشأن عدد المخرجات الإناث ضمن المسابقة الرسمية (مخرجة واحدة). لكن المدير الفني للمهرجان ألبرتو باربيرا، حسمه بكلمات مقتضبة تضع القيمة الفنية للمهرجان فوق كل اعتبار، قائلاً: «إذا كان ضرورياً أن نطبق كوتا جندرية في الاختيارات الفنية، فسأستقيل من منصبي». لكن هذا التصريح أشعل موجة من الجدل، متهماً باربيرا بالذكورية. وكعادة السنين الأخيرة، استقطب «البندقية» (فينيسيا) الذي اختتم أول من أمس دورته الـ 75 بتوزيع الجوائز، فيلماً هوليوودياً للافتتاح، هو «أول رجل» للفرنسي الأميركي داميان شازيل، في ما بدا أنه يمثل بداية متفائلة لبعض الأفلام الاميركية في سباقها الأوسكاري. علماً أنّه العام الماضي، افتتح «شكل الماء» للمكسيكي غيّيرمو دل تورو «البندقية»، حيث نال «أسدها» الذهبي قبل أن يحصل على أوسكار أفضل فيلم. وهذا لم يسبق أن حدث تاريخياً، ليكون «شكل الماء» أول فيلم في تاريخ السينما تمكن من جمع «أسد» البندقية وجائزة الأكاديمية الأميركية. وكان فيلم التايواني انغ لي «جبل بروكباك» (2005 ـ نال الأسد الذهبي في البندقية) أقرب المحققين لإنجاز من هذا الحجم، لولا تحفظ الأميركيين على مضمون فيلمه.
مع دل تورو كرئيس لجنة التحكيم التي ضمّت إلى جانبه كلاً من ناومي واتس، وكريستوفر والتز، بدأ المهرجان بمظاهر احتفالية اعتيادية. وجود دل تورو على رأس القرار قد لا يعني شيئاً في مهرجانات السينما الكبرى. وجود الرجل المُحب للوحوش وإحيائها في السينما، لا يعني بالضرورة أن الأفلام ذات الطبيعة المغايرة فقدت حظوظها. لكن الموقف الأكثر حرجاً ربما كان بمشاركة صديقه المكسيكي الآخر ألفونسو كوارون ضمن المسابقة الرسمية بفيلم «روما». الاثنان برز اسماهما بقوة مع ارتفاع أسهم السينمائي المكسيكي خلال العقدين الماضيين، إلى جانب أليخاندرو غونزاليس ايناريتو. لكن من جانب آخر، يبدو أن «روما» تمكّن من فرض نفسه كأحد أكثر الأفلام ترشيحاً لصعود منصة التتويج، إذ فتك بجائزة «الأسد الذهبي»، علماً أنّ «روما» هو الفيلم الأول لـ «نتفليكس» المتوج بجائزة من هذا النوع. وكان كوارون سيُحرم تلقائياً أيّ جائزة لو شارك بفيلمه ضمن «مهرجان كان» (صدر قرار رسمي بعدم منح إنتاجات «نتفليكس» أي جوائز في المهرجان الفرنسي)، فهل هذا يعني أن إنتاجات «نتفليكس» وجدت لها بوابة للتكريم بعيداً عن «كان»؟
في هذا الشريط، يعود مخرج «أطفال الرجال» (2006) إلى سبعينيات المكسيك في معالجة نوستالوجية لذاكرة فنان اعتاد تقديم أفلام هوليوودية الصيغة. كوارون ليس الوحيد المُشارك في فيلم مغاير للطريقة التي اعتادها منه جمهوره، فاليوناني يورغوس لانثيموس يزداد غرقاً في المناخ الإنكليزي الذي بدأه منذ ثلاثة أفلام، حظي آخرها «مقتل الأيل المقدس» (2017 ــــ جائزة أفضل سيناريو في «كان») بحفاوة كبيرة. لكنه هذه المرة عاد بفيلم من أفلام الحقب التاريخية بعنوان «المفضلة». باستذكار سريع لأبرز أفلام هذا النوع، سيبدو فيلماً تتنافر فيه الأسلوبية الخاصة لمخرج «سنّ الكلب» مع الحقبة التاريخية نفسها، مُسبباً ــ كما عادته ــ إحدى صدمات هذا العام. بأسلبته الخاصة للواقع، وتحديه للمفاهيم وإخراجها من سياقاتها الطبيعية، سيضع لانثيموس فيلمه تحت عدسات النقاد والمتابعين بشدة، وكانت بداية نتائجها خطفه جائزة لجنة التحكيم الكبرى في «البندقية». على الضفة الأخرى، عاد الإنكليزي مايك لي إلى «البندقية» بعد أربعة عشر عاماً على آخر مشاركة له نال على إثرها الأسد الذهبي عن فيلمه «فيرا دريك». Peterloo ــــ فيلمه المشارك هذا العام ـــ يتناول حقبة تاريخية. هذا النوع موجود في فيلموغرافيا لي على استحياء، فهو متخصص في تقديم دراما الطبقة الوسطى الإنكليزية، حيث سينما الحقب تبدو ضمنها أشبه باستراحة محارب، لكنها تختزن الكثير من القيمة والجودة، ولا سيما على صعيد السيناريو الحاصل على سبعة ترشيحات أوسكارية بينها خمسة لأفضل نص أصلي. وقد كان متوقعاً بشدة بعد الاستقبال الحار لـ Peterloo أن يحصد إحدى جوائز المهرجان، لكن غيابه عن منصة التتويج شكّل مفاجأة هذه الدورة من المهرجان.
بالعودة إلى افتتاح هذه الدورة، مال كثيرون إلى طرح داميان شازيل كأحد أبرز الوجوه الشابة في عالم الإخراج، خصوصاً بقدرة فيلميه السابقين على وضع بصمة خاصة في سينما النوع بحرفيته العالية وحساسيته المفرطة تجاه كلاسيكية السينما. فشازيل افتتح «البندقية» مرتين (الأولى بـ «لالا لاند» قبل عامين، ثم بـ «أول رجل» هذا العام)، لكن النقاد استقبلوا جديده بتذبذب كبير، ما جعله يخرج خالي الوفاض من الحدث. في شريطه، تناول شازيل نيل أرمسترونغ كأول رجل حطت قدمه غبار القمر. تساؤلات كبيرة دارت حول ابتعاده عن المساحة التي أجاد تقديمها سابقاً في السينما الاستعراضية وموسيقى الجاز التي شكّلت محور أفلامه، ما يضع - لا شك - فيلمه في حيّز المقارنات الإجبارية والأسئلة عن تحوّله الغريب هذا. في العموم، لم يمرّ الفيلم من دون جدل، إذ برزت حملة لمقاطعة العمل على مواقع التواصل الاجتماعي لعدم احتوائه على لقطة صريحة لغرس العلم الأميركي على سطح القمر، بينما اكتفى شازيل بلقطات بعيدة، فتعرّض لاتهامات بـ «انعدام الوطنية»، واضطر صاحب «ويبلاش» حينها إلى إصدار بيان في هذا الخصوص.
يُمكن اعتبار «البندقية» هذا العام دورة التحولات الأسلوبية ـــ نوعاً ما ـــ لعدد لا بأس به من المشاركين في المسابقة الرسمية. مثلاً، الفرنسي جاك أوديار الحاصل على سعفة «كان» عن فيلمه «ديبان» عام 2015، قدم فيلمه الأول الناطق بالإنكليزية والأول له في «البندقية»، برفقة خواكين فينيكس، وجاك جيلينهال. وليزيد من مساحة الابتعاد ثقافياً وأسلوبياً، تناول فيلمه The Sisters Brothers الغرب الأميركي، ونال على إثرها مديحاً جيداً، مع الأخذ بالاعتبار أن هذا النوع من التحولات الثقافية يؤثر في التقييم النقدي لفيلم سحب مخرجه من مناخ ووضعه في مناخ آخر. وقد يكون لهذا السبب حصل على جائزة الإخراج في «البندقية». الأمر ذاته مع الأخوين كوين، باستثناء أن الغرب الأميركي جزء من اللعبة التي أجادا تقديمها، سواء بويسترن معاصر أو تاريخي. The Ballad of Buster Scruggs الذي كان مقرراً له أن يكون مسلسلاً من ست حلقات، ارتأى مخرجاه تحويله إلى فيلم مكوَّن من ستة فصول منفصلة أشبه بالأفلام القصيرة. قرار حصدا على إثره جائزة السيناريو، ومن المثير للاهتمام أن الجوائز التقنية هذا العام ذهبت لسينما من نوع واحد (الويسترن). المشاركة الأولى أيضاً لمدلّلي «كان» (الكوينز) في «البندقية» حظيت باستقبال حارّ. كذلك الامر بالنسبة إلى الممثل برادلي كوبر في تجربته الإخراجية الأولى بصحبة الليدي غاغا (فيلم «ولادة نجمة»). كلا المستجدين على «الموسترا» نال نصيباً كبيراً من المدح، وكلاهما زاد من نسبة الأمركة في الحصيلة المشاركة. لكن في «فينيسيا»، هذه النسبية عادةً لا تحول دون اعتباره الراعي الأول للتجارب واللغات السينمائية الخاصة، حتى تلك التي تبدو خارج صندوق التقليدي والكلاسيكي. «مهرجان البندقية» كدافع لعجلة السينما، لم ينحز إلى نوع مهما بدا العنصر الأميركي حاضراً في افتتاحياته وجوائزه خلال الأعوام الماضية. أميركي آخر في المسابقة الرسمية، هو الرسام والمخرج جوليان شنابيل الذي تعرّض لنقد كبير في مشاركته السابقة «ميرال»، قدّم إضافتين هذا العام: أولاً باعتباره رساماً اختار وسيطاً فنياً مغايراً (السينما) للحديث عن رسام آخر هو فان غوخ في فيلمه «على بوابة الأبدية»، إلى جانب الأداء الكبير الذي قدمه ويليام دافو تجسيداً له. أداء أنصفته لجنة تحكيم «البندقية» بمنحه جائزة أفضل ممثل.
أما جائزة أفضل ممثلة، فنالتها أوليفيا كولمان عن دورها في فيلم لانثيموس «المفضلة»، ليكون الأخير الرابح الأكبر هذا العام بجائزتين. وفي مفاجأة هي الثانية، حقق فيلم المخرجة الأوسترالية جينيفر كِنت «العندليب» جائزتين، رغم الاستقبال الفاتر له. الأولى جائزة لجنة التحكيم، والثانية جائزة مارشيللو ماستروياني للموهبة التمثيلية بايكللي جانمبلار. الأمر ترك تساؤلاً عن تأثير الضغوط الإعلامية المثارة عن عدد المخرجات، فهل كانت جوائز كِنت امتثالاً لها؟ على صعيد آخر، خرج فيلم الهنغاري لازلو نمس من المسابقة بخفي حنين كما فيلم مايك لي. صاحب «ابن شاؤول» الحاصل على الأوسكار قبل عامين، حافظ على أسلوبيته المُرهقة بفيلمه الجديد «شروق» من خلال اقتفاء أثر الشخصية المُغيّبة، لكن نمس حصل في «البندقية» على جائزة لا تقلّ أهمية هي «الفيبريسي» (جائزة لجنة النقاد الدولية).عربياً، ومع العدد الجيد للأفلام العربية التي افتُتحَت في البندقية خارج المسابقة الرسمية، نالت السورية سؤدد كعدان جائزة «أسد المستقبل» التي تُمنح عادة لأفضل أول مُشاركة، وهي الجائزة التي سبق أن حصل عليها التونسي علاء الدين سليم قبل عامين (عن فيلمه «آخر واحد فينا»). كعدان التي شاركت بفيلمها «يوم أضعت ظلي» في تظاهرة «أوريزونتي» (آفاق) والذي سيفتتح عربياً في «مهرجان الجونة» قريباً، حصدت جهود خمس سنين من التحضير. وستتوافر لشريطها فرصة العرض مستقبلاً في تورنتو ولندن. ضمن البرنامج نفسه، عُرض فيلم الفلسطيني سامح الزغبي «تل أبيت تحترق» الذي حصد جائزة التمثيل لقيس ناصيف، بينما قدمت المخرجة السعودية هيفاء المنصور فيلمها القصير «بنت المطربة» ضمن فعاليات «البندقية».
كان لدى جمهور «البندقية» فرصة الاطلاع على برنامج العروض خارج المسابقة التي حوت أسماءً لا تقلّ أهمية عن المشاركين فيها، كالأوسكاري ايريل موريس، وفريدريك وايزمان، وأمير كوستوريتسا الذي مزج مجدداً بعد «مارادونا» بين الروح الأوروبية الشرقية والحرارة اللاتينية في فيلمه الوثائقي El Pepe، تاركاً لرئيس أفقر دولة في العالم خوسيه موخيكا (الرئيس السابق للأوروغواي) مساحة التعاطي المباشر مع جمهور كوستوريتسا الواسع الذي وجد في الشخصيات اللاتينية فرصةً للإفصاح عن تمرده ورفضه للرأسمالية الأميركية وتوحشها الاقتصادي.
الأخبار
إضافة تعليق جديد