دوستويفسكي. . لم يعد الإنسان بعده كما كان قبله

16-02-2013

دوستويفسكي. . لم يعد الإنسان بعده كما كان قبله

تجتمع في هذا الكتاب «دوستويفسكي دراسات في أدبه وفكره» أقلام عدة من أعلام النقد الروسي المعاصر في ما يشبه إعادة قراءة لدوستويفسكي أحد أبرز أعلام الأدب الكلاسيكي العالمي. دوستويفسكي
الناقـد الروسي غيـورغي فريدلنـدر يرى أنه مثلما كـان بلـزاك وديكـنز في الغـرب فـإن دوستويفـسكي في روسيا. ويبرر واقعيتـه القاسية الصـارمة بقـوله (لم يكن دوستويفسكي «قاسيـاً» بل كان الواقـع المعاصر له قاسياً) ذلك الواقع الذي لم يعرض عنه الروائـي الروسي العظيـم. إن الحـياة الـتاريخية للقرن العشرين وما احتوته من حربين عالميتين مدمرتين، وقتل جماعي للناس الضعفاء، ومعسكرات الموت الهتلرية، وغيرها من الجرائم الأخرى التي ارتكبتها الطبقات الحاكمة، قد فاقت بقـسوتها وفظاعتها أكثر تنبؤات دوستويفسكي رعباً ورهبة وفظاعة.
إن عالم دوستويفسكي الفني هو عالم «كله صراع» مثله في ذلك مثل خالقه ومبدعه، إنه عالم الفـكر والبحث والتأملات المتـوترة. وإن الظروف الاجتـماعية في عـصر المدنيـة البــورجوازية، التي تفـرق بين الناس وتولد الشر في نفوسهم وتنـشط وعيهـم ـ بحسب تشخيص دوستويفســكي لها هي ذاتها تدفـع أبـطاله إلى طريـق المقاومـة، وتـولد فيهـم الطـموح إلى تفهم تناقضات عصرهم من جـميع الجـوانب، وليس هذا فحـسب، بل وحـتى إلى ادراك حصـيلة وآفاق تاريخ البشرية كله وتوقظ عقولهم وضمائرهم.
ينحاز بوضوح غيورغي فريدلندر إلى اعتبار أن دوستويفسـكي كان شكسبـير عصـره، ذلك عندما جسد الكثير من الخـصائص التراجيدية للحياة الروسية والأوروبية الغربية لا لعصره فحسب بل ولعشرات السنين التالية. إن شخصيات شكسبير الرئيسة هي الملوك والمهرجون: فكل منهم، بلغته الخاصة المتميّزة وبحسب مستوى مفاهيـمه، تارة بصورة سامية وأخرى بصـورة متدنيـة، يعـبر عن قناعة الناس في عصره بأن العالم «متفسّخ بشكل مأسوي ويحتاج إلى تغيير». وكذلك دوستويفسكي، فأبطاله: مارميلادوف، واسكولنيكوف، وميشكين، وليبيديف، وفيودور كارامازوف، وإيفان كارامازوف - يشعرون، كل على طريقته الخاصة، بـ«تشوّههم» الخاص، وبـ«تشوّه» المجتمع المحيط بهم. وهم جميعاً يتمتعون بالوعي ويتحلّون بالضمير، وإن اختلفت النسب فيما بينهم، وكل منهم ذكـي، شديد الملاحظة، على طريقته الخاصة وبحـسب خبرته الحياتية العملية والنظرية، ويشترك في حوار واحد يلـقي المسائل الرئيسة في حياة الإنسانية وماضيها ومستقبلها من جوانب مختلفة. ومن هنا تأتي تلك النزعة العقلانية الحادة في روايات دوستويفسكي، وتشبّعها بالفكر الفلسفي الثاقب، الذي لا يهدأ. وهاتان الخاصتان قريبتان جداً من أناس عصرنا وتمـتّان بصلة القربى الى افضل نماذج الادب في القرن العشرين.
الناقدة والأديبة الروسية المعاصرة أ.م. لاتينيا لا تبدو من مناصري الرأي الواسع الانتشار القائل بأن أفكار الكاتب الروسي العظيم كان لها أثرها الكبير على الفلسفة الوجودية ذاتها. وتسوق لاتينيا ما قاله يوماً الناقد الروسي الكبير برديايف حول ذلك: (لقد قام دوستويفسكي باكتشافات عظيمة في الإنسان، وبه يبتدئ عصر جديد في التاريخ الداخلي للإنسان. ولم يعد الإنسان بعده كما كان قبله. إن نيتشه وكركيغارد يمكنهما أن يشاركا دوستويفسكي في مجد ريادة العصر الجديد وهذه الانتروبولوجيا الجديدة تنظر إلى الإنسان نظرتها إلى كائن متناقض وتراجيدي، تعيس وشقي إلى أبعد حدود التعاسة والشقاء، ومحباً للألم والمعاناة أيضاً). لاتينيا تعتبر أن كل محاولة للتطرق لدوستويفسكي وتفسيره وفق اتجاه معين لا تخلو من الزيف، لأن الباحث بذلك، يعبر عما لم يقله دوستويفسكي ويستنتج ما لم يصل إليه. وتعتبر أنه قدّم الكثير إلى الوجودية، لكن الوجودية لم تقدم شيئاً لدوستويفسكي، إنه ليس سوى جانب من الجوانب المتعددة في عالم شامل من أفكار الكاتب العظيم، تلك الأفكار التي تتطور باستمرار، وتنتقل إلى التناقض والتضاد، ومن ثم إلى الاستنفاد واستهلاك الذات.
([) الكتاب تأليف مجموعة من المؤلفين، ترجمه نزار عيون السود، صادر عن وزارة الثقافة في دمشق.

لينا هويان الحسن

المصدر: السفير

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...