رسالة إلى عزمي بشارة: خارج حصانة (إسرائيل)، داخل حصانة (التّاريخ)
الجمل- محمد علاء الدين عبد المولى: صديقَ الفكر والوطن ... المناضل العربي المبدع عزمي بشارة:
أناديك بالمناضل، وربما المرة الأولى التي أستخدم فيها هذه الصّفة لأطلقها على أحد، نظراً لما انتاب هذه الكلمة من تحريفٍ ومتاجرة واستهلاك ... لكن أمامك تتألّف الكلمة بصورةٍ مختلفةٍ، مستمدّةً معناها الحقيقي من فعلكَ على الأرض، ومن فِكركَ في عمق الَّلحظة الّتاريخية .
فأنتَ – ولستَ في حاجةٍ إلى شهادتي – تقع في قلبِ القضّية بكل تداخلاتها والتباساتها وخطورتها. وموقعُكَ ليس الموقع السّياسيّ الرَّاهن والمباشر، بالمعنى المستعمل عربيّاً للمفهوم، بل أنتَ مُضاءٌ من أعماقكَ بإيقاع الّتاريخ وتحوّلاته، مسكونٌ بلقاء الأزمنة في برهةٍ واحدة.
موقعُكَ مواطناً عربيّاً، ومفكّراً، وصوتاً ثائراً، أعاد إلينا نحن العرب في الخارج، أهمية أن نفكّر بواقع عرب فلسطين، عرب الداخل، ولن أسميهم عرب إسرائيل، ولا العرب في إسرائيل. أنتم عرب فلسطين التاريخية. وإذا كنتم مضطرين لتداول مثل هذه التّسميات بحكم خصوصية ظروفكم ووقائعكم وعلاقتكم اليوميَّة مع عدوّكم – عدوّنا، فإننا على يقينٍ أنكم في النّهاية جزءٌ من عرب، ليس فقط فلسطين، بل من عرب الوطن العربيّ .
موقعكم إذاً، أثار فينا من الناحية الثقافية والسياسية والنّضالية أن نركّز في علاقتنا مع فلسطين، وانتفاضاتها الَّلامنتهية، عليكم، كإخوةٍ في الوطن والقهر والوعي معاً. وأتاحت لنا زياراتكم المتكررة إلى مدن عربيةٍ مختلفةٍ ووسائل إعلامها، فرصة أن نراجع مفهومنا حول وضع العرب في فلسطين، الذين أنتم جزء عضويّ منهُ. فتعمّق إيماننا، أو قل تجدّد، وانبعث ثانيةً، بأهمية الدّور الوطني والثقافي الذي تقوم به مع مجموعةٍ من العرب في الدَّاخل.
ولكَّننا التقطنا خصوصّيتك، وما يجعلك في الصّفّ الأوّل من أعداء ( إسرائيل ) .
ونحنُ لا تنطلي علينا لعبة الديمقراطية في ذلك ( الكيان ) فإذا كان هذا ( الكيان ) ديمقراطيّاً، فذلك يبدو متعلّقاً بحُسْنِ إدارة القيادة السياسية والعسكرية والأمنيّة داخل هذه المؤسّسات المحتلّة وعلاقتهم بالديمقراطية والانتخابات والتّيّارات، ليست علاقةً من طبيعة وعيهم كصهاينةٍ غزاةٍ، ولا من داخل انتمائهم إلى تقاليد عريقة في مسألة الديمقراطية، بل لأن تجّمعاتهم ومشاربهم الأيديولوجية ورموزهم السياسية، كل ذلك يشكّلُ امتداداً أوربيّاً بحتاً. لأنهم أساساً مستوردون من أوربا، بشرقها وغربها. ولا يمكن أن تسري عليهم شؤون مفهوم الّديمقراطية وهم يعيشون أصلاً على أرضٍ احتلّوها بصورة لا تمتّ للديمقراطية بصلةٍ .
إننا نؤمن أن ( إسرائيل ) و ( الّديمقراطية ) نقيضان تماماً لا يتعايش أحد الّطرفين مع الآخر، إلاّ بإلغائه. ولأن الديمقراطية الآن عزلاء من القدرة والقوّة، فإنها لا يمكن أن تلغي (إسرائيل) في المدى المنظور، لكن ( إسرائيل ) تقوم بكل سهولة بإلغاء هذه الَّديمقراطية عندما تجدها غير مناسبة لها ولسياستها. لتتحوّل هذه الديمقراطية إلى قناع ترتديه المؤسسة العسكرية والقضائية، لتنفيذ رغبة السَّياسيّ، أو العكس .
ونحن نؤمن أن وجودكم عبر السنين الفائتة، في قلب الكنيست الإسرائيلي ما هو إلاّ شكلٌ مؤلمٌ من أشكال الصراع مع العدوّ من داخل خطابه وقوله. وهو تعبيرٌ منكم على قضية وجودكم وشرعية انتمائكم إلى هويّة وطنيّةٍ متعددة منفتحة اسمها في النهاية: فلسطين.
لذلك، نضطرّ للّنظر إلى هذه المسألة بعينٍ تتوخّى الدّقَةَ والحذرِ. دون أن نقبل من أحدٍ أنْ نحمَّلكم أعباء الاتهامات المسبقة بـ (التّعامل) مع العدوّ، فلستم تحتاجون للدفاع عن أنسفكم من أحدٍ، وأنتم مع وجودكم مع العدو تحت سقف كنيست واحدٍ لكنكم كنتم تزدادون بعداً عنه من باب من يعرفه أكثر من غيركم، لهذا أنتم أبعد ما يكون عن مثل هذا العدوّ الذي لم يتوانَ عن إعلانه عن فرحه بتقديم استقالتكم من الكنيست، لقناعته بدوركم الفكري السياسي في تفكيك بنية النظام السياسي الإسرائيلي وتبيان تناقضاته الداخلية، ليس بالهجوم العسكري ع ليه بل بما هو أخطر وأكثر عمقا: الهجوم المعرفي الذي يؤسس في الأذهان بشكل زمني متدرج.
وبدأ يعّمق من خواء مزاعمهم وألاعيبهم الدَّنيئة. فأنت لستَ صوت فردٍ، ولا تجربة شخصٍ، وهذا ما يقلق العدوّ. الذي شهد كيف امتدّت فاعلّيتك الوطنية والفكرية خارج فلسطين، وخارج أسوارهم، ولا سيّما بالّتزامن مع تطوّر الانتفاضة / الصراع من الحيز العسكري والعملياتي، إلى الحيز الثقافي والسؤال الأخطر، وهيمنة كل ذلك على المشهد السّياسي والأمنيّ والاقتصادي الإسرائيليّ وهي الانتفاضة / الصراع التي لم يقفْ حتى عرب الدَّاخل مكتوفي الأيدي فيها، وذلك يعود الفضل فيه إليكم مع مجموعةٍ مثّقفةٍ تقود العرب في الداخل نحو لحظة وعي تاريخية بأن كونهم يعيشون مرغمين تمت عبودية الاحتلال والإرهاب، فهذا لا يعفيهم من المشاركة في صياغة الموقف والتأثير فيه ... لقد جنّ جنون العدوّ عندما أدركَ أن جمرة العربيّ في الداخل ما تزال متوهجة تحت رماد السنين والّتبدّلات والحروب ومحاولات التَّدخين والدّمج وها أنتم تقلبون الطاولة على رؤوس العدوّ، وتدفعون من دماء أبنائكم حصّةَ الوطن جنباً إلة جنبٍ مع أهل الضّفة والقطّاع وأمام دمكم الفلسطيني لا فرق بين هذا وذاك. فالوطن واحد. والتاريخ واحد .وكان لا بّد لهذا العدوّ من أن يمارس (ديمقراطيته) ذات يومٍ برفع الحصانة عنكَ. ومتى كان للعربي أصلاً حصانةٌ في ظلّ الاحتلال ؟ ليست الحصانة المرفوعة إلاّ تحصيل حاصل لمجمل التّطوّرات التي ما عاد العدوّ قادراً على استيعابها. إنه ينتقم من العرب عبر اتّهامكم بما هو شرفٌ لكم. عدوّكم وعدوّنا ماهرٌ في اصطياد الذّرائع متى يشاء لوضع هذا أو ذاك، في خانة التّهمة. وهو ليس بحاجةٍ ليتهمكم بالتّحريض على المقاومة، أو بزيارة بلدانٍ عدوّة لإسرائيل، إنه يترصّدُ لحظة الانتقام منكم، باعتباركمْ صوتَ جماعة عربيةٍ، وباعتباركم فاعليةً سياسية وثقافية ترعب موازين العدوّ وتقضّ مضجَعَهُ.
لذلك، يا صديق الوطن والفكر ... لا نطالب ( إسرائيل ) بأن تردّ لك حقوقاً. فليست من يفعل ذلك، ومعركتك مع العدوّ ليست من أجل أن يمنَّ عليكَ بشيءٍ، أنتَ تجابهُ العدوّ بالصّورة التي يدرك هو خطورتها على المدى البعيد. وهو المدى الذي سيولد فيه الحقّ من جديد من رحم الّتاريخ وجدلِهِ، لا من داخل الكنيست الإسرائيليّ ...
صديقنا عزمي بشارة ...
أنت خارج حصانة إسرائيل، ولكنك دائماً في حصانة الوطن، في حصانة الفكر والمعرفة، في حصانة التاريخ التي لا تقدر قوّةٌ على رفعها عنك...
الجمل
إضافة تعليق جديد