زكريا تامر : كاتب يكلم حائطاً
الخوار
نصحتنا أمهاتنا بطرد الغبار من عقولنا منبهات إلى أن الإنسان يفكر والحيوان لا يفكر, فسخرنا من نصيحة سترهق رؤوسنا وباطن أقدامنا, وتتجاهل أن لدينا من يفكر بدلاً منا ويخطط لماضينا وحاضرنا ومستقبلنا.
نصحتنا أمهاتنا بأن نغضب أحياناً مؤكدات أن الغضب حين يقسر على السجن في قمقم القلب قد يقتل, فتبادلنا النظرات الخائفة, وقررنا أن نغضب وفق أحدث الأزياء, ولجأنا إلى أضخم المعاجم لعلها تعلمنا بعض ما نجهله وتذكرنا بما نتعمد نسيانه.
نصحتنا أمهاتنا بأن نمشي دائماً مرفوعي الرؤوس, فأعجبنا بتلك النصيحة المخلصة, فلا شيء في الحياة الدنيا أروع من رأس مرفوع يتحدى السحب, وبادرنا إلى الزحف شامخي الرؤوس.
نصحتنا أمهاتنا بأن نحاول الغناء حتى نغري الفرح بالتسلل إلى أيامنا المتجهمة, فسارعنا إلى الغناء بأصدق الأصوات, ودهشنا عندما قيل لنا إن غناءنا ليس سوى ولاويل مقيتة.
نصحتنا أمهاتنا بأن نبكي بغير خجل كلما طوقنا الهم والغم, فأطعنا النصيحة, وبكينا من دون دموع, وعذرنا أننا في أيام الطفولة قد استهلكنا كل حصتنا في الحياة من الدموع.
نصحتنا أمهاتنا بالتمييز الذكي بين الأغصان والعصي, فعجزنا, فكل غصن في دنيانا يتحول عصا تطاردنا كأننا من أكابر اللصوص.
نصحتنا أمهاتنا بأن نتبارى في تأليف الكلام الجميل المؤثر, فتبارينا في السكوت, ولم نندم.
نصحتنا أمهاتنا بأن نجسد العصافير لأنها تطير فحسدنا العصافير لأنها لا تقرأ.
نصحتنا أمهاتنا بالتأهب لغد حافل بالمسرات, فهرعنا فوراً إلى الأسواق, وتزاحمنا على شراء الأكفان.
نصحتنا أمهاتنا بالصبر, فصبرنا على الهوان حتى اختلط بغزلنا وهوائنا ولحمنا وخبزنا.
نصحتنا أمهاتنا بأن نعادي من يعادينا, فتجاهلنا تلك النصيحة الساذجة, وسالمنا من يعادينا متباهين بحكمتنا المؤمنة بأن قطاً حياً أفضل من نمر ميت.
كاتب يكلم حائطاً
الكاتب: سأكتب منوهاً بعنب لم تنضجه شمس صيف إنما أنضجته نيران القنابل المتفجرة فيما حوله.
الحائط: قد تتهم بالدعاية للخمرة التي حرم الله شربها.
الكاتب: سأكتب منتقداً جيوشاً خاملة لا تحارب ولا تخطط لانقلابات جديدة.
الحائط: من الخطأ انتقادها, ومن الصواب امتداحها بغير تقتير, فلو حاربت لهزمت وجلّل عار الهزيمة الناس أجمعين, ولو دبرت انقلابات ناجحة لحل ضبع جائع محل ضبع شبعان.
الكاتب: سأكتب ساخراً من ضفادع تنق متوهمة أنها تشدو.
الحائط: الويل لك من قوارير الصحافة.
الكاتب: سأكتب عن تقصير العلم وعجزه عن إطالة عمر الإنسان.
الحائط: لا تكتب أوهاماً, فكل مواطن واع يطمح إلى أن تكون حياته قفزة واحدة من بطن الأم إلى بطن الأرض.
الكاتب: سأكتب عن لصوص كبار مبجلين ولصوص صغار محتقرين.
الحائط: أكتب عن روبين هود معاصر مختلف يسرق الفقراء ليعطي الأغنياء.
الكاتب: سأكتب عن ازدياد عدد المتسولين, وأتناول أسبابه بالعرض والتحليل.
الحائط: لماذا لا تكتب عن رجال يمنعهم حياؤهم فقط من الانضمام إلى المتسولين.
الكاتب: سأكتب عن الطيور التي تضاءل عددها في بلادنا.
الحائط: اكتب عن النقود التي تطير من جيوب الملايين لتحط في جيوب المئات.
الكاتب: سأكتب راثياً الكتاب الأدبي الجاد المحكوم عليه بالنبذ والإهمال.
الحائط: اكتب عن وباء غامض يهيمن خفية على الكثير من الناس, فيرون الكتب مجرد صفحات بيض بغير نفع.
الكاتب: سأكتب عن العقلاء ودورهم في تطوير الأمة.
الحائط: من الأمتع أن تكتب عن المجانين ودورهم في الحفاظ على الأمة من الانقراض.
الكاتب: سأكتب عن الليل.
الحائط: إذا كنت تتوقع أن يكافئك الليل بالكتابة عنك, فأنت مخطئ لأن الليل أمي وفخور بجهله.
الكاتب: سأكتب عن شعراء يشبهون الحليب الفاسد ويقذفون القراء المبهوتين بشعر يشبه صفع العميان.
الحائط: اكتب عما تشاء شرط ألا تنسى لحظة واحدة أن التافه يؤازر التافه ظالماً مظلوماً, والمراقب لأحوال الدنيا مضطر إلى الاعتقاد أن ثمة قوى خفية قادرة على قهر من تشاء تحمي التافه وتدافع عنه وتدفعه إلى أمام وإلى أعلى.
الكاتب: سأكتب برقة عن أيام الطفولة.
الحائط: اكتب بفزع عن أيام الشيخوخة وعن لحد أضجرته وحدته وبات متلهفاً على سمير ونديم.
الكاتب: سأكتب عن الديمقراطية التي يقال إنها ستجتاح البلاد العربية برفقة جيوش الانتداب الجديد.
الحائط: اكتب عن قتلى غريبي الأطوار, ناكرين للجميل, لا يشهقون إعجاباً بحرية تتيح لهم اختيار ألوان أكفانهم.
الكاتب: لن أكتب أية كلمة, وسأهجر الكتابة التي باتت تحيرني وتضجرني.
الحائط: ستكون جندياً يترك أرض المعركة بحجة أن ضوء الشمس الباهرة يؤذي عينيه وهو قد نسي في بيته نظارته الشمسية.
الهاربون ببسالة
ثمة قطة مصابة بنوع غريب من الجنون الخطر, فما إن تلد أولادها حتى تأكلهم, وتنسى فعلتها, وتظل طوال أسابيع تنتقل ليلاً من سطح بيت إلى سطح بيت منادية أولادها بلهفة وشوق باحثة عنهم, مطلقة مواء يجعل دماء من ينصت له تستحيل إلى ما يشبه ثلج سيبيريا.
ولما كانت الكتابة المستنكرة لهجرة العقول العربية إلى خارج أوطانها قد باتت موضة رائجة في الجرائد والمجلات العربية, فينبغي لكل من يرغب في التصدي لهذه المشكلة أن يتذكر ما تفعله القطة المجنونة بأولادها قبل أن يكتب كلمة, فكيف يعود إلى الحياة هؤلاء الذين أقدمت أمهم على التهامهم من دون أن تستخدم شوكة أو سكيناً?.
وتلك القطة تفعل ما تفعل لأنها مجنونة, أما الذين يرغمون الإمكانات والمواهب والطاقات العربية على الهجرة من أوطانها, فليسوا بالمجانين بل هم عقلاء أكثر مما ينبغي, ويحق لكل من هب ودب تأويل سلوكهم كما يحلو له من دون أن يخشى أن يتهم بالخطأ أو الخطيئة, ولكن كل التأويلات لن تستطيع أن تتجاهل أن الرابح هو العدو والخاسر هو الوطن.
زكريا تامر
المصدر : الثورة
إضافة تعليق جديد