ساراماغو والتنكيل بالتاريخ

07-05-2006

ساراماغو والتنكيل بالتاريخ

ينكّل خوسيه ساراماغو بالتاريخ، أو بالأحرى بكتبة التاريخ، وفي ذلك يمضي إلى حقيقة يعرف جيداً أنه لن يبلغها.. إنها أي الحقيقة ستتملص منه، ولكنه لن يرضخ.. وهذا ما يعلمنا به منذ مفتتح روايته (تاريخ حصار لشبونة)، وبطولته تكمن، ها هنا، في هذه المغامرة اليائسة والنبيلة التي سترسخ مجد الإنسان بافتراض أن هذا الإنسان ينبش كل تاريخه بالأسئلة والشكوك.. التاريخ الذي سيصمد لا بفضل قوته الذاتية، وإنما بفضل طاقة المخيلة الإنسانية التي ستنقذه من الدمار، وتمنحه فرصة البقاء والحياة ولكن من دون يقين كلي، فيثبت المسرود على وفق ما يريده السارد الروائي، وعلى الرغم من أنف السارد المؤرخ.. إن التاريخ مع ساراماغو ينسل من بين أصابع كاتب التاريخ من أجل فضاء أقل زيفاً مع الروائي.
في الرواية يتم تجاوز ثنائية الحقيقي والمزيف لصالح الصنعة الفنية وحق المخيلة.. هناك واقع زائف، ولكن ليس هناك خيال زائف يمكن أن تتهم به الروائي وهذا ما يبرئ الرواية ويدين التاريخ، وعلى يد الروائيين يلوذ التاريخ بالرواية ليتخلص من زيفه، فساراماغو لا يراهن على حقيقة يطرحها الواقع التاريخي بل على أخرى تقترحها المخيلة، فالثقة بالمخيلة، في هذا المقام تفوق تلك التي يسبغها المرء على الأرشيف.. إنه يكتب تاريخاً افتراضياً، بيد أنه لا يقل معقولية ومنطقية عمّا يكتبه المؤرخون.. إنه أولاً يقع على احتمال آخر ممكن، أو جملة احتمالات ممكنة. وهو ثانياً يُريك وجهاً آخر للحقيقة الملتبسة والمتشظية في بطون الكتب، أو أوجهاً أخرى لها، وهدفه هو انتشال العقل البشري من التبسيطية والبعد الواحد والدوغما.
سعى ساراماغو في رواية (الإنجيل يرويه المسيح) إلى ملء الفراغات في سيرة السيد المسيح، كما قال هو.. تلك الفراغات التي تركتها الأناجيل وكتب السير فكان على ساراماغو (الروائي) أن يفترض أحداثاً وتفاصيل تعزز الجانب الأرضي / البشري من حياة يسوع المسيح فأخضع الميتافيزيقيا لمعايير التاريخ فكان ما هو سماوي ومفارق يسوّغ عبر السرد من منظور ما هو واقعي ومحايث. في هذه الرواية لا يبدأ ساراماغو روايته من تصوير مشهد واقعي وإنما يلجأ إلى صورة أو لوحة يفصّل أمامنا تكويناتها (إذ لا شيء حقيقياً، فما نتأمل فيه ليس إلاّ الورق والحبر ، ولا شيء غيرهما) ص .11 هذا ما يخبرنا به منذ الصفحة الأولى وكأنه ينبهنا إلى أن ما نقرأه ليس سوى عمل من أعمال الخيال، فمن تلك الصورة التي تمثل مشهد الصلب ينطلق السرد في حركة دائرية حيث يتطابق المشهد الأول في الرواية مع المشهد الأخير فيها.
2
في رواية (الإنجيل يرويه المسيح) هل نحن أمام عرض للأرضية الاجتماعية التاريخية التي أنتجت المقدس، واكتشاف لها؟. أم في مواجهة عملية تحر عن الأرضي / الاجتماعي التاريخي في المقدس ذاته؟ أم أن الرواية هي اختبار للمنطق الجدلي الذي يتحكم في العلاقة بين الأرضي والمقدس على خلفية العوامل الاجتماعية / التاريخية؟
ليس من اليسير الوقوع على إجابة نهائية قاطعة مع أي تحليل للمتن الروائي.
في البدء نكون نحن القراء إزاء لوحة تنقل لنا مشهد صلب المسيح مع اثنين من اللصوص الاعتياديين.. يأتي أحدهم وفي يده اليسرى دلو وفي اليمنى عصا عند طرفها إسفنجة.. هذا الرجل سيسقي المسيح مع اللصين من دون أن يميز بينهما.. هكذا يخبرنا ساراماغو (للسبب البسيط أن هذه الأشياء أرضية وستستمر على الأرض ومن خلالها من الممكن فقط أن يُكتب التاريخ) ص .17
يأخذك ساراماغو إلى حافات الواقع لترى كل شيء. كل ما يحدث في القلب، من دون أن تذهب إلى القلب مباشرة، وتكون فيه ولا ترى أي شيء. إنها لعبة الخيال التي تتيح لك رؤية أوضح وأعمق.
يبني ساراماغو عالماً مكافئاً للواقع التاريخي ولكنه ليس ذاته.. إنه ليس صورة بل واقعاً آخر معادلاً.. احتمال مبتكر يمنح الشرعية لولادة احتمالات أخرى وأخرى.. إن المقترح الواحد يفتح الباب واسعاً للانهائية المقترحات، وبهذا يتعزز مجد المخيلة، أو هذا ما يجب، على حساب مجد التاريخ (المكتوب) الذي ورثناه.
3
في رواية (تاريخ حصار لشبونة) يضيف ريموندو سيلفا وهو مصحح بروفات في دار للنشر كلمة (لا) في موضع حساس من كتاب كان يراجعه، يبدل من خلالها حقيقة واقعة تاريخية راسخة في الأذهان.. إنه كتاب عن حصار لشبونة، وتلك الواقعة تتعلق بنجدة الصليبيين للبرتغاليين في حربهم، أو حصارهم لمدينة لشبونة.. دافع ما غير قابل للتفسير للوهلة الأولى (أو هكذا يريد الراوي إقناعنا) جعل ريموندو يكتب تلك الكلمة.. هذا الأمر يثير حفيظة المؤلف ودار النشر ويهدد بالتالي مستقبل ريموندو المهني، فيضطر للاعتذار ويكاد ينسى الأمر لولا ذلك العرض الذي تقدمه <ماريا سارا> المشرفة على عمل مصححي البروفات في دار النشر في أن يعيد كتابة تاريخ حصار لشبونة مع تفعيل افتراضه الآنف الذكر. يذهب، في يوم مطير، إلى القلعة الأثرية التي دارت حولها المعارك وهناك يكتشف العلّة بعد سلسلة من الافتراضات والاستنتاجات السريعة فيقرر بجدية إعادة كتابة تاريخ حصار لشبونة.. يطلق لخياله العنان تارة، وتارة يقرأ ما وراء السطور في المراجع التي يستعين بها في كتابه، فيقترح تاريخاً آخر مناظراً ومناقضاً في الوقت عينه.
وفي سياق الأحداث، في داخل الرواية نكتشف أن ريموند سيلفا ليس حراً تماماً.. إنه يخضع أيضاً لجبرية جديدة تفرضها الحقائق، أو ما نريد أن نسميها كذلك.. إن كلمة (لا) التي دونها لا تحرره بشكل نهائي بل تُخضعه لمنطق آخر، فهو يجعل الصليبيين يغادرون ليتركوا الملك ألفونسو الأول وحده مع جيشه في المعركة ولكنه يفكر أن يعيدهم بافتراض أنهم لم يبتعدوا كثيراً، فهو يشك ويتردد ويحتار (إنه يدرك أن حريته بدأت وانتهت في لحظة دقيقة عندما أضاف حرف النفي لا وأن جبرية جديدة لا تقل استبداداً، قد شرعت بالظهور منذ هذه اللحظة فصاعداً، وأنه ليس أمامه من خيار آخر سوى أن يحاول فهم ما كان قد بدا له ناجماً عن مبادرته أو تأمله الخاص، وما يبدو الآن ناتجاً عن آلية كانت ولا تزال خارجية، ولا يكاد يعرف عن وظيفتها سوى أكثر الأفكار غموضاً..) ص .297
ويبدو أن ما تفرضه مشاعره المرتبكة والمبهمة إزاء ماريا سارا من منطق، في هذه اللحظة يؤثر على سياق ومنطق المخيلة المنشغلة بترميم أحداث جرت وقائعها قبل سبعة قرون (والآن يتساءل ريموندو سيلفا عن أوجه الشبه بين الصور المتخيلة وعلاقته بماريا سارا) ص .299
يسعى ساراماغو إلى استنطاق التفاصيل.. يتخيلها ويجعلها تكتسب معقوليتها، ويسبغ عليها صفة الإقناع.. إنها متخيلة ومقنعة في آن.
تنشأ التفاصيل رويداً رويداً.. تتسع وتكبر لتطيح بالأحكام والخطوط العامة، والتي ترسخت غير مبرأة من أمزجة وأهواء ونوايا الكتبة عبر الأحقاب، فيعيد إذ ذاك التاريخ المكتوب إلى غرفة التحقيق.. يفككه ويفضح خفاياه بالاسترسال في المتاح من الممكنات المتخيلة والتي قلنا انها لا تفتقر إلى المعقولية وصفة الإقناع. إنه لا يلغي التاريخ بل يربكه. يسائل فيه اللامعقول واللامقنع، مهدداً من خلاله المقدس الذي تأسس وتعمم، وتجذر في النفوس عبر تراكم السنين والقرون.
يحتفي ساراماغو بالغريزة على حساب المقدس، ويهتم بما هو إنساني وأرضي أكثر مما يهتم بما هو من حصة الميتافيزيقيا، ولذا فهو لا يهمل الحسي والاعتيادي والمبتذل، ولا يتنكر لها.. إن ما يوجد من خلال الرواية محاولة لإظهار أسطورة بديلة تزعزع أسس أساطير بنيت من خلالها دول واندلعت صراعات وحروب وأبيدت ملايين من البشر. ونحن نعرف أنه غالباً ما على أساس ما هو زائف تحدث الأهوال.
مع ساراماغو أنت أمام كاتب مراوغ يكتب بحيادية باردة من دون أن يقول لك هو إلى جانب من؟.. يتجنب الانحياز الأيديولوجي وينتصر للإنسان. وفي هذه النقطة تتجلى قوة فنه.. يتخذ من التاريخ طريدة، وما يهمه هو محاولة الصيد وليس ما يصيد، فساراماغو يعرف أن التاريخ المكتوب لا يخلو من خدع وأكاذيب وثغرات، ومن السذاجة الركون إليه باطمئنان، وهذا ما يتيح له فرصة اللعب، هو المغرم باللعب، مثل أي روائي فنان يتلبسه هاجس الكشف، وتغريه لذة المغامرة.
محمد رحيم سعد
المصدر: السفير

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...