سعاد جروس تكتب : على «الجنط»
الجمل ـ سعاد جروس : في مشهد من مسلسل تلفزيوني, يقرر مسؤول رفيع تقديم استقالته تحسباً لإقالته بتهمة الفساد, يطلب من مدير مكتبه جمع أشيائه وأخذها إلى البيت. فيسأله مدير المكتب, كل شيء؟! فتحين من المسؤول التفاتة مواربة نحو العلم الصغير الموضوع على الطاولة, ثم يشيح النظر عنه ماسحاً بنظره موجودات المكتب, ويرد بتأكيد, كل شيء يخصني؛ متوخياً أن لا يقع نظره على العَلم, في لحظة يبدو أن كل شيء في مكتب ذلك المسؤول قد يخصه ما عدا العلم الوطني.
هذه اللقطة السريعة,أداها الممثل القدير خالد تاجا وأخرجتها قدمتها رشا شربتجي بدقة وحساسية عالية, ضمن مسلسل «غزلان في وادي الذئاب» الذي استقطب العدد الأكبر من المشاهدين في سوريا من بين 42 مسلسلاً تلفزيونياً سورياً عرضوا في موسم شهر رمضان. هذه اللقطة تكثف بلمسة بارعة معنى الفساد, الذي ينمو في المساحة الخفية الفاصلة بين المصلحة العليا والمصلحة الشخصية, مساحة قد تضيق وقد تتسع لتصبح بحجم البلد وربما أكثر, إلى درجة يغدو فيها «الوطن» بحاجة الى إعادة تعريف, لنعود إلى ألف باء «ما الذي يعنيه الوطن»؟! عندما يغدو العَلم كرمز صارخ مجرد إكسسوار على هامش الكادر, وتصبح الوطنية ومشتقاتها من لوازم المهرجانات الخطابية لفلول الأحزاب التقدمية, ومن الضرورات الحماسية لكليبات الأغنية السياسية الموجهة إلى الأجيال الصاعدة. بدل أن تكون الرادع الأول والأخير للطموحات غير المشروعة لرجال دولة ينصرفون إلى الاهتمام بكل ما يدعم بقاءهم, وتحقيق مصالحهم بغض النظر عن المصلحة العليا التي باسمها ولأجلها تقلدوا مناصبهم.
تلك اللقطة العابرة, ترمي بوجهنا بسؤال على الماشي: ترى كم من مسؤول سابق بغض النظر عن كونه فاسداً أم نظيف الكف, تجرأ من قبيل الذكرى على حمل العَلم ضمن أشيائه الخاصة إلى بيته بعد مغادرته الكرسي؟
علاقة الفاسد بالمنصب عارية عن الوطنية, وهي كعلاقته بالمحيطين به حتى أفراد أسرته عارية عن العاطفة الإنسانية, إذ العلاقة تصبح مرهونة بفترة وحجم صلاحيات النفوذ والسطوة, فيما تتحول العاطفة إلى واجب اجتماعي, وجزء من «برستيج» لابد من العناية به تماماً كزجاج سيارات المسؤولين نظيف جداً وعاتم جداً. في المسلسل نفسه, وبالمقابل ترمي الزوجة أرضاً صورة الزوج المسؤول السابق المحجوز على أمواله, لتنجو بالأثاث وكل شيء في الفيلا الفخمة, عدا صورة الزوج المتوفى, الذي بات جزءاً من ماض تستخسر أن تذرف عليه دمعة. وجهان لعلاقة واحدة مع الوطن ومع الأسرة, إذ لا يبقى مكان في حمى الكسب غير المشروع إلا للمال والمنصب, وتصبح القيم الإنسانية عبئاً مآله الإهمال.
هنا تكمن مآسي هؤلاء الذين أنعمت علينا المسلسلات بالإطلاع على سيبيريا حياتهم المرفهة الجليدية, كما اتحفتنا بالإطلاع على النقيض الملازم؛ جحيم أحزمة البؤس, حيث يفسد الفقر وقلة الحيلة الإنسان من الداخل, ويعيث فيه خراباً واغتراباً يبعثر معنى الوطن والانتماء, في منظومة يتكافل فيها الفساد مع الحرمان لينتجا واقعاً لم نكن نرغب برؤيته في التلفزيون ولو على سبيل التسلية الرمضانية, ففي المسلسل أيضاً وهو للكاتب فؤاد حميرة, لا نقرأ جديداً فيما عرضه عن آليات استشراء الفساد نزولاً وصعوداً وأفقياً في المجتمع بمختلف طبقاته, لأن أحداث المسلسل ليست من إبداع خيال روائي, والشخصيات لم يرسمها التخييل, وإنما ذاكرة طرية وواقع حي, نضحا بالقصص الموجعة.
ومع ذلك ثمة ما يصدم في المسلسل, ويشكل مفاجأة, تشبه مفاجأة الأمير والوزير في قصة للدكتور عبد السلام العجيلي, والتي تروي قصة أمير ولد قبيحاً جداً, وتحسباً للمستقبل وخشية أن يدرك الأمير مدى بشاعته يقوم الملك بوضع كل مرايا القصر في غرفة مغلقة ويحرم الاقتراب منها. بعد أن يكبر الأمير وبعد وفاة الملك والملكة, يصر على اقتحام الغرفة, وتفشل محاولات الوزير المستميتة لمنعه. وعندما يتمكن الأمير من الدخول, يصدم من قباحة وجهه في المرآة, فينهار ويبكي بكاءً مراً. بعد أن يُهدئ الوزير من روعه ويخفف عليه هول الصدمة, ينهار الوزير وتصيبه نوبة بكاء. فيسأله الأمير متعجباً: أنا أبكي لأني قبيح, أما أنت فما سبب بكائك. فيرد الوزير: أنت عندما اكتشفت قباحتك لم تتحمل وبكيت, ما حالي وأنا أراك من سنين طويلة؟
لم تكن صدمتنا بالمسلسل بسبب قباحة واقعنا, بل بقدرتنا على التحمل والصبر, بعد أن وضعنا أمام ما نرغب بتجاهله بوهم أننا تجاوزناه, ليقول: إن تجاهلتم الفساد فهو لن يتجاهلكم, طالما يعتاش من صمتكم ومن خوفكم, ندوبه المتقيحة ستقض مضاجعكم. هكذا تابعنا المسلسل المذكور وغيره من مسلسلات سورية, تناولت موضوعات لا مساحة فيها إلا لضحك أسود أعتدناه في أعمال كوميدية كانت سباقة في ابتكار فنون التورية والإضحاك المخدر.
في أعمال هذا العام ثمة دعوة للتذكر والمراجعة, فالواقع لم يعد صالحاً لدراما اللهو الخفي, وما ينز به من نكات لم تعد من لزوم التنفيس, فمن كثرة «التنفيس» أصبحنا على «الجنط». لكن ومن طرف آخر, لابد من ترقب ما سيحدث لرقابة التلفزيون التي استبسلت لعرض ما لم يكن متوقعاً أن يعرض, في تكذيب لأي بصيص أمل ينبجس من معمعة المسموح والممنوع.
ترى أي بصيص يؤكد أننا قادمون على تغييرات مهمة, مادامت هناك رغبة لاشعورية ترفض أن تخون التوقعات نفسها, خيفة أن تأتي عكس المتوقع, لأننا أصبحنا كما أمسينا, مدمنين للبؤس ومخلصين لليأس؟
بالاتفاق مع الكفاح العربي
إضافة تعليق جديد