سعيد تقي الدين: سيرة ذاتية
رأيت معدماً يأكل قملة من جوعه، وأبصرت أماً تشهد كلاب البحر تنهش طفلتها حية إذ سقطت من باخرة، وتطلعت الى أبوين يريان اطفالهما يحترقون في بناية تلتهب، ولكني لم أرَ شخصاً أحق بالشفقة من ذلك الذي يقرأ الجريدة من أولها الى آخرها. إذ ان قراءة كل كلمات الجريدة تدل على عزلة عاطفية وجفاف روحي، وفقر عقلي. كجائع يأكل كل ما يُقدم له، أو غريب في خمّارة يشارب اياً يلقاه، وكمغفل يستطيب التحدث الى أي من فتح فمه.
أما فهد سرحان فقد كان جالساً على مقعد خشبي في "البولفار" لا يقرأ جريدة بل يعيد قراءة الجريدة، وأوجع من هذا ان الصحيفة كانت تحمل تاريخ اليوم السابق، وأفجع من كل هذا ان فهد سرحان ما كان ليقرأ تلك الصحيفة لو لم يجدها مطروحة على "البولفار" لعلها كانت لفافة سندويش، طرحها من أكل السندويش، فمن اين لفهد ثمن صحيفة في هذه الايام؟ فهد الجالس على المقعد الخشبي في "بولفار" مدينة "مانيلا" كان أفقر من جرذ الصحراء، فلا تخدعنّك اناقة ثيابه فهذه اشتراها يوم كان يدير محل ابناء اخيه: ابرهيم ومالك، ونجيب سرحان في مدينة "ماسباتي" البعيدة عن "مانيلا". ولقد جرى بينه وبين ابناء أخيه - والمحل مسجل باسمهم - عراك فطردوه، فجاء الى "مانيلا" يبتغي عملاً أو اسعافاً ممن ظنهم اصدقاءه من المواطنين ابناء العرب فاعرض هؤلاء عنه. مضى زمن كان فيه فهد سرحان ينزل "مانيلا" فتولم له الولائم، وتُدق له "الكبة" وتغتصب له القهقهات على تلك القصص التي ما زال يكرر سردها من يوم وصل الى "مانيلا" عام 1898. إذ ماذا يريد منه ابناء العرب اليوم وليس في جيبه ثمن ثوب جوخ وليس في وسعه شراء دزينة برانيط، وابرهيم قد كتب الى المواطنين جميعاً ان من يمد يده باسعاف الى عمه فهد، فهو عدو لابراهيم، ومالك، ونجيب سرحان، يقطعون الشراء منه، وهؤلاء هم ذوو شأن في التجارة. وفوق هذا فقد كان فهد ثقيل الظل موحد الحديث، وجاء بقصة عن ابناء أخيه يفتتحها بـ: يا ليت أخي خلّف سعداناً، وحملاً، وضبعاً، ولم يخلف ابرهيم، ومالك، ونجيب: ثم يقص عليك كيف غدر به ابناء أخيه، ويختمها "الله يعمق مرقدك يا أخي على هؤلاء الابناء الذين انجبتهم" ويكرر حوادث لؤم مضطهديه، ونبله هو، ودناءتهم ومروءته - ومن روى عليك قصة هو بطلها، وخصمه نذلها، فأعلم ان الرواية كاذبة يقصها كاذب - ثم يخلط فهد عربيته الجبلية، باسبنيولية مكسرة سمجة يحسبها قاموسية لبقة، فلا عجب إن تجنبه من يعرفه وصاروا يتمشون على الجانب المقابل من "البولفار" ويعرضون عنه.
من قصة "حلم البولفار" في المجموعة القصصية الكاملة
المصدر: النهار
إضافة تعليق جديد