شعار "حرية وبس": من السقف الجامع إلى بناء الذرائع

27-10-2011

شعار "حرية وبس": من السقف الجامع إلى بناء الذرائع

الجمل ـ عبد الله علي: يمثِّل الشعار المرفوع في أي مظاهرة أو حراك شعبي، الصيغة التي يكثِّف بها أصحابه خلاصة مطالبهم التي خرجوا من أجلها، وهو بهذا المعنى يكون العنوان الرئيسي للمطالب والغاية التي يراد الوصول إليها. ويمكن القول أن الشعار هو بمثابة الروح التي تسري في جسد الحراك وتمدُّ أصحابه بدوافع الاستمرار فيه من خلال التصوّرات التي ترتسم في أذهانهم للمستقبل المأمول في ظل تحقق معاني شعارهم.
ليس الشعار مجرد كلمات فارغة أو لافتات طائرة، أو هكذا يفترض، إنه برقية الدعوة الموجهة إلى الجماهير للانضمام إليه والتفاعل معه، وأيُّ جهالة في بيانات هذه الدعوة قد يكون لها نتائج كبيرة على مصير الحراك الشعبي، قد يكون أول هذه النتائج انفضاض الناس عنه وعدم التحاقهم به، وقد لا يكون آخرها تشتت الجهود وضياع الطاقات نظراً لأن كل فئة مشاركة فيه تأخذ، بسبب الجهالة، اتجاهاً مختلفاً عن الأخرى وتشقُّ لنفسها ما تعتقد أنه الطريق الذي سيوصلها إلى تحقيق الشعار أو ما فهمت من بياناته الغامضة أو المستترة، مما قد يرخي بظلاله على فاعلية الحراك ويحدُّ من تأثيره وقدرته على تحقيق المطلوب، هذا إذا لم يتسبب أصلاً بإنهائه والقضاء عليه.
ونعتقد أن إلقاء نظرة على الشعارات التي ترفع في أي حراك وإدراك معانيها وغاياتها من شأنه أن يساعدنا في تسليط الضوء على طبيعة هذا الحراك وماهيته ونوع العلاقة التي تربطه مع تلك الشعارات هل هي علاقة صادقة تنطوي على الايمان والقناعة أم أنها علاقة مخاتلة تنطوي على الاستغلال ومحاولة بناء الذرائع من خلالها وعلى أساسها بغية الوصول إلى أهداف وغايات مختلفة.

*****

ففي سوريا، كان "ألله سوريا حرية وبس" هو الشعار الذي افتتح به الحراك الشعبي، في مستهل انطلاقه، مظاهراته الأولى، وكان هذا الحراك يسمى آنذاك احتجاجات حتى من قبل وسائل الإعلام المتعاطفة معه أو ضده وسوف يكون لنا إشارة لاحقة إلى هذه التسمية.
ويمكننا الزعم أن شعار "ألله سوريا حرية وبس" هو شعار مبتكر وخلّاق لجهة الصياغة، وتوافقي ومقنع لجهة المضمون والمحتوى، مما كان يجعله في رأينا مؤهلاً كي يشكل السقف الجامع الذي تتكثف من خلاله مختلف المطالب التي ينادي بها المعارضون والمثقفون والمواطنون وحتى جزء كبير من السلطة، وبالتالي تحتشد من خلفه طاقات نسبة كبيرة من فئات الشعب وشرائحه.
ولكن، وأيَّاً كانت الأسباب التي دعت إلى ذلك، فإننا سرعان ما لاحظنا غياب هذا الشعار كعنوان للحراك أو الاحتجاجات ليحل محله شعار "إسقاط النظام" محتكراً لنفسه لافتات الحراك الذي أصبح يدعى من قبل أصحابه في هذه المرحلة بـ "الثورة"، وبذلك يمكننا القول أنه بتغيير الشعار حدث الانتقال من تحت السقف الجامع الذي كان يشكله شعار "حرية وبس"، إلى الفراغ غير المسقوف الذي يمثله شعار إسقاط النظام، ومن سحر الصياغة المبتكرة إلى إطار التقليد والاستكانة له، ومن فضاء التوافق والإجماع الواسع إلى إطارٍ ضيق من التضاد والتناحر.
والسؤال: ما هي دلالة هذا التبديل في الشعار؟ وهل الأمر مجرد تطور يساير مجريات الحراك أم أنه يحمل من المعاني ويخلق من الالتباسات والشكوك أكثر من ذلك؟
للإجابة عن هذا التساؤل علينا أولاً أن نتفهَّم مضمون ومحتوى كل شعار وندرك العلاقة بين الشعار الأول والشعار الثاني وأيهما يستغرق الآخر مكتفياً بذاته عنه، وأيهما يمكن أن يغني رفعه عن رفع الشعار الثاني دون أن يقع في سلبياته ومخاطره؟

*****

أعتقد أنه من السهل أن نتبين أن شعار "حرية وبس" هو الشعار الأعم والأشمل من حيث مفهومه ومحتواه بينما شعار "إسقاط النظام" هو شعار مخصص ومقيد. ويترتب على ذلك أن شعار الحرية بسبب عموميته وشموله يحظى بالعديد من الميزات والسمات التي لا تتوافر في شعار الإسقاط، ومن ذلك: أن هذا الشعار مناسب ليكون سقفاً جامعاً تلتئم تحته مطالب وتوجهات معظم شرائح الشعب ونخبه السياسية والثقافية. وهو أيضاً غير تصادمي لأن الحرية في ذاتها هدف لا يمكن لأي جهة التنصل منه أو إنكاره أو مواجهة رافعيه. وكذلك فإن الحرية باعتبارها أساس الحياة السياسية الصحيحة يمكن أن تتفرع عن عنوانها الرئيسي جميع العناوين الفرعية التي تحتاج إليها مطالب التغيير والانتقال إلى الديمقراطية سواء التعددية السياسية أو حرية الإعلام أو نزاهة الانتخابات أو المشاركة في صنع القرار وتداول السلطة. فشعار الحرية يتضمن في ذاته جميع هذه المطالب ويؤدي تحقيقه في النتيجة إلى إحداث تغيير جذري في الحياة السياسية وفي طبيعة نظام الحكم والقواعد الدستورية التي تحكمه.
أما شعار "إسقاط النظام" بسبب محدوديته وتقييده فإنه يفتقر إلى سمات شعار الحرية من جهة ويؤدي إلى الكثير من المخاطر والسلبيات من جهة أخرى، ومن ذلك: أن شعار إسقاط النظام هو شعار غامض ولا يحمل مضموناً واضحاً وسبب ذلك أن مفهوم النظام نفسه غير واضح ولا يمكن التكهن بالمعنى المقصود منه، وقد أشار الكثير من المعارضين إلى الغموض وعدم الوضوح الذي يحيط بشعار إسقاط النظام وعلى رأس هؤلاء المعارض لؤي حسين والمعارض حسين عودات الذي حاول التمييز بين النظام والسلطة وتساءل هل المقصود إسقاط السلطة أم النظام؟ وغيرهما كثير. وكذلك فإن شعار الإسقاط يفقتر إلى التوافقية ويبدو غير قادر على أن يكون السقف الجامع وبالتالي لن يكون قادراً على استقطاب نفس الشرائح والنخب التي يستقطبها شعار الحرية وبس. وأيضاً فإن هذا الشعار يتسم بالتصادمية وينطوي على نية إلغاء الآخر وإقصائه، مما أدى كما لاحظنا على أرض الواقع إلى شيوع العنف وتكاثر أعمال الاقتتال وسفك الدماء لأن كل طرف وجد نفسه مضطراً إلى الدفاع عن وجوده وحماية مكتسباته.
وفي نهاية هذه المقارنة بين الشعارين يمكن القول أن شعار الحرية هو الذي يستغرق في ذاته الشعار الآخر ويغني عنه دون الوقوع في السلبيات والمخاطر التي يمكن أن تتهدد الدولة والمجتمع.
وهنا يبرز سؤال جوهري: طالما الأمر كذلك لماذا جرى تغييب شعار "الحرية وبس" واستبداله بشعار "إسقاط النظام" رغم أن الأول من جهة يغني عن الثاني لشموله وعموميته ويتفادى من جهة أخرى سلبياته ومخاطره؟

*****

الإجابة عن هذا السؤال تضعنا أمام الاحتمالات التالية:
1-    إن شعار "الحرية وبس" لم يكن مقصوداً بذاته أو بالمعنى الواسع والشامل الذي طرحناه، وأن رافعيه لم يفهموا منه سوى المفهوم المرادف لمعنى شعار "إسقاط النظام" أي كأنهم قزّموا هدف الحرية الكبير من عموم عملية التغيير وشمول التحول الديمقراطي، إلى الحدود الضيقة للتخلص من سلطة لا تتوافق مع توجهاتهم، لذلك كان سيان عند هؤلاء الحديث عن الحرية أو الحديث عن إسقاط النظام، ولا شك أن هذا الاحتمال إذا صح فإنه يزيل كل السمات الإيجابية التي أضفيناها على شعار الحرية لأن هناك فرق شاسع بين المطالبة بالحرية وبين مجرد المطالبة بإسقاط النظام، مع الأخذ بعين الاعتبار السلبيات والمخاطر التي تترتب على هذا الشعار الأخير والتي تحدثنا عنها أعلاه. وهنا لا بد أن نشير أيضاً إلى ما يدل عليه هذا الاحتمال، في حال كان صحيحاً، من جهل فاضح بالمفاهيم وعدم إدراك لمعانيها الحقيقية.
2-    الاحتمال الثاني: أن رافعي شعار "الحرية وبس" يدركون المعنى الحقيقي لهذا الشعار، كما أوضحناه آنفاً، ويحيطون بشموليته وعموميته، ولكنهم طرحوه في بداية الحراك دون أن تتجه إرادتهم إلى تحقيقه فعلاً. وإنما قاموا برميه كطعم يساعدهم على استقطاب أكبر عدد ممكن من شرائح الشعب ونخبه مستغلين حاجة الناس إلى الحرية وطلبهم إياها واستعدادهم للتضحية من أجلها. وأضمروا إلى الوقت المناسب الشعار الذي يقصدونه حقيقةً وهو شعار إسقاط النظام معتمدين على أن موجة الحراك بعد أن تنطلق يمكن توجيهها حسب إرادتهم ومصالحهم. ولا يخفى ما يدل عليه هذا الاحتمال من نية الخداع وسوق الجموع إلى غير الهدف المعلن بداية.
3-    الاحتمال الثالث: أن رافعي شعار "الحرية وبس" يدركون المعنى الحقيقي لهذا الشعار وكانوا عند طرحه في حراكهم يقصدون تحقيقه فعلاً وواقعاً حسب مضمونه الشامل والعام الذي تحدثنا عنه، وأن استبداله فيما بعد بشعار إسقاط النظام لم يكن بهدف الخداع كما دل عليه الاحتمال الثاني. ويلزمنا هذا الاحتمال بالبحث عن السبب الذي يكمن وراء التخلي عن شعار الحرية لمصلحة شعار الإسقاط رغم الفرق الشاسع بين الشعارين سواء لجهة خصائص كل منهما أوطبيعة الآثار التي تترتب عليه؟. ونحن نعتقد أن السبب لا يعدو أحد الحالات التالية: إما أن نفس الفئة التي بدأت الحراك ورفعت شعار الحرية وبس هي نفسها التي تخلت عنه ورفعت شعار الإسقاط وذلك إما لاكتشافها عدم قدرتها على تحقيق هدف الحرية أو خيبتها إزاء الاستقطاب القليل الذي أحدثه، مما اضطرها إلى طرح الشعار التصادمي محاولة الاستفادة من حالة الاستفزاز والتحدي التي يمكن أن يثيرها طرحه. وإما أن الفئة التي طرحت شعار إسقاط النظام هي غير الفئة التي طرحت شعار الحرية، وأن فئة الإسقاط سعت لركوب موجة الاحتجاجات التي أطلقتها فئة الحرية بهدف تحقيق مصالح خاصة بها أو التنفيس عن أحقاد دفينة تجاه النظام أو لأن مشروعها يقتصر فقط على محاولة الاستيلاء على السلطة دون أن تعير أهمية لهدف الحرية. وهذه الحالة تفرض علينا أن ننصف الفئة التي رفعت شعار "الحرية وبس" وأن نميزها عمن ركب موجتها واستولى على حراكها محولاً إياه إلى صراع على السلطة بعد أن كان سعياً حثيثاً إلى تحقيق الديمقراطية. وهنا تغدو الإشارة إلى ما طرأ على تسمية الحراك من تغيير، من تسمية "الاحتجاجات" كما كان يطلق عليه من قبل جميع وسائل الإعلام حتى تلك المتعاطفة معه وما أكثرها إلى "الثورة" تغدو هذه الإشارة ذات بعد هام توضح لنا حقيقة ما جرى من ركوب الاحتجاجات من قبل فئات أخرى وتحويلها عن مسارها إلى مسار مختلف تماماً.

*****

وهكذا فإننا نقرأ في التخلي عن شعار الحرية كعنوان للحراك إلى شعار إسقاط النظام، انحداراً كارثياً طرأ على هذا الحراك في مهده لأنه من جهة تخلى عن شعار عام يخدم الحياة السياسية بمجملها ويحظى بتوافق أغلبية شرائح الشعب، إلى شعار ضيق الحدود يكتفي بالسعي نحو السلطة والاستيلاء عليها، وإلى شعار تصادمي من شأنه إحداث شرخ كبير في المجتمع ويؤدي إلى ما نعيشه حالياً من حالة الاقتتال والعنف المسلح الذي أودى بحياة آلاف الشهداء.
ويبدو أن الحراك الذي ظنَّ البعض أنه بدأ بمحاولة الانفتاح على أفق الحرية الواسع وفضائها الرحب، سرعان ما تبين أنه لا يعير هدف الحرية أي اهتمام أو أهمية فعلية. يؤكد ذلك تخلي الحراك عن شعاره البكر "الحرية وبس" واستبداله بشعار "إسقاط النظام" في دلالة على حقيقة الغاية التي يسعى إليها وهي استبدال سلطة بسلطة أخرى. ويزيد من قناعتنا بهذا ما تدلنا عليه الوقائع أن القائمين على الحراك بدوا في الفترة الأخيرة كمن علقوا في قناة ضيقة فأخذو يتحشرجون داخلها في تخبط واضح ومحاولة بائسة للاستمرار في الحياة بعد أن انغلقوا على أنفسهم وبنوا الجدران من حولهم، وهكذا يمكننا أن نلاحظ كيف ازدادت شعارات هذا الحراك تقييداً وتخصيصاً فلم يعد حتى شعار "إسقاط النظام" شعاراً مطروحاً بقوة بل تم طرح شعار "إسقاط الرئيس" في إشارة واضحة إلى أن هذا الحراك أصبح يكتفي فقط بإسقاط شخص الرئيس دون النظام ودون السلطة ودون أي أفق للوصول إلى الحرية.
وقد يرى البعض أن هذا الانتقال من شعار إلى آخر هو نوع من التطور يفرضه مسار الحراك وظروفه وإمكانياته، لكننا نرى في استبدال الشعارات على النحو الذي عرضناه نوعاً من المراهقة السياسية والافتقار إلى المرجعية الفكرية واستهتاراً بعقول المواطنين، وإلا كيف نفسر هذا الانحدار من المطالبة بالحرية إلى المطالبة بالسلطة فقط ثم الاقتصار على تغيير شخص واحد، دون أن يكون هناك أي خطاب من قبل المعارضة يفسر لنا سبب هذا التغيير في شعاراتها وفي توجهاتها وفي أدائها العام؟.
وفي الختام نقول: لقد كان شعار "الحرية وبس" شعاراً ذكياً ولاحظنا جميعاً كيف اعترفت السلطة بأحقية هذا الشعار بل ظلت وسائل إعلامها تصر على أنه مطلب المتظاهرين حتى بعد أن رفع هؤلاء شعار الإسقاط بفترة، مما يدل على قبولها لهذا المطلب واحتمال تعاملها معه بإيجابية، لأنه كما قلنا شعار غير تصادمي بل وتوافقي ويمكن البناء عليه والاتفاق على أساسه. ولكن وللأسف فقد تبين أن رفع هذا الشعار لم يكن مقصوداً بذاته وإنما كان ذريعة للاستقطاب والتحشيد والفرز بغية ركوب الموجة من قبل المغرضين وقيادتها وفق أهوائهم ومصالحهم.

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...