شكسبير .. حبيسُ الإمبراطورية البريطانية
الجمل- بيت دودينك- ترجمة: د. مالك سلمان:
غالباً ما يسألني بعض طلاب الثانوية الأذكياء، بحيرة حقيقية، لماذا يتمتع شكسبير بكل هذا الاحترام. يشاهدون مسرحيات شكسبير ويقرؤون النصوص، ويستمعون بانتباه لأساتذتهم وهو يرغون ويزبدون عن "الشاعر الملحمي"، لكنهم يبقون حبيسي شكوكهم. وعلي أن أعترف أنني أنا حبيسُ شكوكي أيضاً – حتى بعد أن قرأت بلوم وغرينبلات وبيت الذين يطنبون في مديح براعة الشاعر الفنية. ما هي مشكلتنا؟ هل أفسدنا الإعلام وبعض المدرسين القاصرين؟
بعد عقد أو عقدين من التفكير وإعادة التقييم، توصلتُ إلى نتيجة مفادها أن الباحثين الشكسبيريين والمروجين لشكسبير لا يعيروا أي انتباه لحقيقة أنه كان حبيسَ عصر لم يتسم بالتسامح. لم يكن مؤلفاً حراً أو مستقلاً؛ فقد كانت مهمته تتركز على تسلية رعاته الأثرياء بنوع من اللهو الذكي، ولم يكن مهتماً بتنوير أحد. ففي نهاية المطاف، عاش شكسبير في زمن كانت فيه الحرية والاستقلالية حكراً على الحكام.
مع أن هذه الأفكار تلاقي قبولاً عاماً، إلا أننا نادراً مانتوصل إلى نتائجَ مفادها أن شكسبير لم يتمتع بالحرية اللازمة ليكتبَ أي شيء يتحدى الوضع الراهن أو معتقدات ورذائل وتحيزات حكامه. إذ يستمر الباحثون في تخيُل شكسبيرٍ يعبر عن أفكار متنورة عوضاً عن رجل محكوم بالترفيه عن الطغاة والتعتيم على الظلام المخيم على عصره.
في مقالة حديثة عن شكسبير، دحضَ جوناثان بيت تقييمَ هارولد بلوم المبالغ فيه حول تأثير شكسبير الإيجابي على القيَم التقدمية، ومع ذلك عليَ أنا أيضاً أن أدحضَ زعمَ بيت الأكثر تواضعاً و "معقولية" حول تأثير شكسبير التقدمي. دعوني أقتبس من مقالة بيت:
"اقترح الناقد هارولد بلوم مرة، بشكل يبعث على السخرية، أن شكسبير اخترع فكرتنا عن الطبيعة البشرية. يمكن للمرء أن يقول إن مونتين وشكسبير قد أحدثا فيما بينهما انزياحاً زلزالياً في مفهومنا لاستقلالية الفرد، ومفهومنا عن الذات، واعتراف التقليد الغربي بالاختلاف الثقافي ونسبية القيم." ("ذَ ستيتسمان"، 10 تموز/يوليو 2014)
إن تقييمَ بيت لتأثير شكسبير على ثقافتنا أقلُ مبالغة بقليل من المبالغة التي تميز رأي بلوم. فهو يزعم أن أعمال شكسبير قد أحدثت "انزياحاً زلزالياً في مفهومنا لاستقلالية الفرد". لو كان هذا صحيحاً، لكان العبيد والمناضلون ونشطاء الحقوق المدنية والثوريون السياسيون يقتبسون شكسبير ، لكنهم لا يفعلون ذلك ولسبب وجيه. لم يكن شكسبير في موقع يؤهله للترويج للاستقلالية (الحرية) أو المطالبة بالعدالة للناس العاديين. فقد كان رعاته وجمهوره من النخب المتحيزة جنسياً وعرقياً، والنبلاء، والمتعجرفين، والشوفينيين الجشعين، ومثيري النزاعات والحروب. كانوا يفضلون أن يروا العالم كله وهو ينحني أمام ملكتهم ويتحول إلى مجموعة من العبيد في إمبراطوريتهم المتشكلة.
ولأن أعمال شكسبير لا تحتوي على أي عنصر من مكونات العقل التقدمي، فإنه يبقى حبيبَ هوليوود. فهوليوود تحب "ماكبث" من أجل العنف والخلود. ويجب ألا نلوم هوليوود على إدخال عامل الإثارة على ميزات المسرحية الأكثر انحطاطاً؛ فعلى غرار مسرحيات شكسبير كلها، لم تكتب "ماكبث" بهدف تنوير الجمهور، بل لتصوير مخاوف وتحيزات الملك جيمز، الغبي الذي كان يعاني من خوف هوَسي غير عقلاني من الساحرات والخونة. كما أن المسرحية ترسخ الدعاية عبر مقارنتها بين الملك السكوتلندي دنكان الغبي والشرير والملك الإنكليزي النقي والطيب والملائكي. باختصار، لا تشجع "ماكبث" على الاستقلالية – إنها تروج للملكية الإنكليزية وكره النساء، كما تشجع على أنماط مزيفة وخطيرة حول الوثنيين.
إن فكرة بيت القائلة إن شكسبير يشجع على الاستقلالية عبارة عن حلمٍ إنكليزي فارغ أشبه بالاعتقاد القائل إن أمريكا تروج للحرية والديمقراطية. فقد عاش شكسبير في عصر مكرس لتجريد الأفراد من استقلاليتهم وتحويل كافة الأفراد إلى رعايا للنظام الملكي، ونسخ أنجليكانية متطابقة، وعبيد محرومين من ملكية الأراضي. ولذلك فإن القول بأن شكسبير يشجع على الاستقلالية يبعث على السخرية ويقارب الكوميديا.
ومع ذلك، فلنكن عادلين. ربما يمكننا استخلاص بعض الأشياء الجيدة من "ماكبث". ماكبث متمرس، لكن المجرمين الآخرين في المسرحية مختلفان. فعلى النقيض من ماكبث، فهما فقيران ويصارعان للبقاء في عالمهما المتوحش، ويقومان بقتل بانكو، الرجل الذي يحملانه المسؤولية عن عذاباتهما. إنهما يريدان أن يتحررا من بانكو، ولكن هل يمكننا أن نتخيل أن شكسبير كان يساند قرارهما بقتل الرجل الذي يضطهدهما؟ فإذا كان شكسبير يشجع على الحرية والاستقلالية، كان عليه أن يركز المسرحية على هذين الفردين الفقيرين اللذين تحولا إلى مجرمين لأن عالمهما أنكر عليهما الاستقلالية، وجردهما من حقوقهما في العيش على أرض خالية من الاقطاعيين، وأخضعهما لسلطة الملك العنيفة وربما أثقلهما بالديون. لكن شكسبير لم يركز على هذين الرجلين؛ فالرجلان عبارة عن أداة في يد ماكبث الجشع. حتى أنهما لا يحملان أي اسم، ناهيك عن أي نوع من أنواع الاحترام.
يمكننا أن نلاحظ أيضاً أن الرجلَ الذي يقع عليه اللومُ في تدمير حياة الرجلين هو بانكو، الذي يشير اسمُه إلى كلمة تعني في اللغات اللاتينية "بنك/مصرف". من الواضح أن الشاعرَ كان يدرك جيداً معاناة الناس من المصرفيين، ولأن بانكو لا يمثل مصرفياً إنكليزياً، فقد تمكن من الإشارة إلى الأعمال القذرة التي ارتكبها بانكو. وهذا يحيلُ المسرحية إلى زمننا الراهن، فبينما لم نعتد على قتل مصرفيينا، إلا أنني أعتقد أن الكثير من ضحايا النظام المصرفي المعاصر بدؤوا يفكرون في الخناجر. إنه رهانٌ آمن. ففي نهاية المطاف، في هذا العصر الذي يتسم بالديون القومية وديون الطلبة والمستهلكين، فإن الجميع تقريباً – تبعاً لشكسبير – محكومون بالقبر، أو على الأقل يتعرضون للنهب على يد بانكو وأمثاله.
لنعود إلى بيت: ماذا عن زعمه بأن شكسبير لعب دوراً هاماً في تطوير " اعتراف التقليد الغربي بالاختلاف الثقافي ونسبية القيم"؟ مرة أخرى، يرتقي هذا الزعم إلى مستوى أحلام اليقظة. فمسرحية "ماكبث" لا تعلمنا كيف نفهم قيمة الثقافات الأخرى أو كيف نقبل نسبية قيمنا. فعوضاً عن ذلك، تعمل المسرحية على تعزيز بعض التحيزات الإنكليزية السائدة في القرن السادس عشر مثل الاعتقاد بأن الثقافات الوثنية نتاجُ الساحرات الشريرات، وأن النساء الشريفات سلبيات، وأن الملوك الأجانب عاجزون. كما أن الشخصيات الأجنبية في "عطيل" و "تاجر البندقية" لا تُصوَر بصفتها شخصيات ذكية أو كريمة أو فاضلة. فحتى أنطونيو الكريم لا يفعل أي شيء لتعويض شايلوك عن خسائره. أما بالنسبة إلى الملك لير المجنون، من المحتمل أن يكونَ إنكليزياً، لكنه ليس إنكليزياً في الحقيقة، بالمقاييس الإليزابيثية، بما أنه وثنيٌ وجاهلٌ ل "واجبه" الذي يُملي عليه المحافظة على بلده موحداً تحت ملك واحد.
هل مَوقعَ شكسبير مآسيه في بلدان أجنبية لأنه كان يحترم "اختلافاتها الثقافية"؟ لا. لقد موقعها في الخارج لأن جمهورَه كان ينظر إلى البلدان الأجنبية بصفتها أدنى شأناً، وإما أنها تستحق المأساة أو أن مصيرها مأساوي.
والحقيقة أسوأ من ذلك بكثير. إن ’مآسي‘ شكسبير ليست تراجيديات حقيقية مصممة لدفعنا إلى التعاطف مع الملوك والأمراء والقادة والمرابين الأجانب، إلخ. فقد كان رعاة شكسبير الإنكليز الأثرياء والمتعجرفون – في معظمهم – عاجزين عن التعاطف مع الأجانب. فإذا كان هذا يبدو قاسياً، تخيلوا هوليوود تعرض أفلاماً تصور إنسانية الحكام الأجانب – وخاصة أولئك الذين يرفضون الثقافة الرأسمالية المهيمنة ويدعموا، بدلاً من ذلك، الشيوعية أو الفوضوية. أو، تخيلوا هوليوود تنتج فلماً حول المصير المأساوي لعنف "الناتو" في ليبيا. لا أحد يتجرأ على توقع مثل هذه الشجاعة من هوليوود، فلماذا إذاً نتوقعها من مجرد مسرحي بلاط مثل شكسبير؟
وماذا عن مسرحيتنا المحبوبة "روميو و جولييت"؟ هل "تعترف بالاختلاف الثقافي"؟ لو أنها فعلت ذلك، لكان تم تصوير شخصياتها الإيطالية بشيء من الإيجابية؛ فعوضاً عن ذلك، تعمل "روميو و جولييت" على تضخيم التنميطات القديمة للنساء والإيطاليين، حيث تصور النساء بصفتها كائنات ضعيفة وحشرية، كما تصور الرجالَ الإيطاليين بصفتهم متعجرفين، ومُلسنينَ، وشبقين، ومغرورين. مارأيكم بمثل هذا التشجيع على تَقَبُل الاختلاف الثقافي؟
وفوق ذلك، تسخر "روميو و جولييت" من "الكنيسة الكاثوليكية". ففي حقيقة الأمر، إذا كانت المسرحية ’تعترف‘ بالفروقات الثقافية فإنها تفعل ذلك فقط بهدف السخرية من هذه الفروقات.
يبقى لدينا الزعم بأن شكسبير عبرَ عن النظرة المتنورة المفترضة القائلة بنسبية القيَم. لا يمكنني أن أؤمن بأن شكسبير قد استخدم أياً من مسرحياته بهدف تقديم فكرة النسبية لجمهوره؛ فقد كان جمهورُه مكوناً من الإنكيز المتعصبين الذين لم يخطر على بالهم أبداً شيء مثل النسبية الثقافية. نعم، علينا أن نعترف أن هاملت يشير إلى النسبية عندما يقول "لا شيء موجود خارج تفكيرنا"، لكن هاملت المتوحد والمريض والعاجز والمجرم لا يُقدَم إلى الجمهور بصفته مفكراً نموذجياً، ناهيك عن كونه رجلاً إنكليزياً نموذجياً.
ماذا عن قرار هاملت النهائي بمنح مملكته لفورتنبراس، الفاتح النرويجي؟ هل يمكن لتسليم المملكة بهذا الشكل الطوعي أن يعني أن هاملت قد فهمَ أن الحاكم الأجنبي صالحٌ مثله مثل الحاكم المحلي لأن جميع القيَم نسبية؟ من المرجح أن تسليمَ هاملت الطوعي لمملكته إلى أجنبي يرسخ فكرة جنونه بفعل الخيانة هذا.
مع احترامنا لموهبة شكسبير كمؤلف، علينا أن نعترف أنه لم يكن حراً في استخدام المسرح للترويج لأفكار متنورة أو شبه تنويرية. كان سجينَ عالمٍ لم يترك له اي خيار سوى ترجيع صدى تحيزاته وأوهامه الكريهة وتسويقها.
http://www.counterpunch.org/2014/07/18/shakespeare-prisoner-of-the-british-empire/
تُرجم عن ("كاونتربنتش"، 18- 20 تموز/يوليو 2014)
الجمل
التعليقات
هل كان مثقفونا تابعين إلى هذه
إضافة تعليق جديد