علاقات أميركا مع الإرهابيين
يبدو من الأحداث الأخيرة التي وقعت في الولايات المتحدة أن أميركا لا تستطيع أن تنتهج طريقة مختلفة في التعامل مع أمنها الداخلي، ولا تستطيع أن تفصل بين أمنها الداخلي وأمنها الخارجي.
ان من يعرف أميركا من الداخل وعن قرب يدرك المدى الذي تذهب اليه في تعبئة قواها الأمنية الداخلية، يعرف الى أي حد تملك الولايات المتحدة من القوة ما يجعل تصور اختراق أمنها الداخلي أمرا من الصعوبة الى حد الاستحالة. ولا يتمثل هذا فحسب في حجم قوى المباحث الجنائية الاميركية المعروفة باسم «اف.بي.آي» ومدى انتشارها في المدن الاميركية وفي شوارعها وفي حراسة مؤسساتها الرسمية والخاصة، انما ايضا في قدر الحرص الاميركي الذي تبديه الجهات الرسمية على الحيلولة دون دخول أي فرد يشتبه بأي درجة من الاشتباه في انتمائه الى جماعة أو تنظيم إرهابي. ينطبق هذا على المهاجرين والطلبة الذين يسعون للالتحاق بالتعليم الاميركي كما ينطبق حتى على الدبلوماسيين قبل ان يبدأوا مهمتهم الرسمية في أميركا أو في الامم المتحدة.
وفي هذا المجال بالتحديد، كتب المحلل الاميركي اليساري توني كارتالوتشي في 17 نيسان يقول «ان شوارعنا وأحداثنا العامة مليئة بالشرطة ذات الطابع العسكري، بل مليئة بالجنود بالمعنى الحرفي للكلمة، الذين يحملون المدافع الرشاشة ويستقلون عربات مصفحة... ومع ذلك تتمكن القنابل الإرهابية من ان تعبر شوارع بوسطن وان تقتل ثلاثة وان تصيب كثيرين آخرين. لقد سلّمنا حريتنا وكرامتنا من أجل ان نحصل على قدر ضئيل من السلامة المؤقتة ولكننا لم نحصل على الحرية والسلامة، وهو أمر كان يمكننا ان نتوقعه».
لا يستطيع أحد ان يتهم الاجهزة الرسمية الاميركية بأنها تهمل في مراقبة الامن الداخلي أو الخارجي انما بصفة خاصة الامن الداخلي. ان الولايات المتحدة تؤدي بكل دقة واهتمام مهام تدريب القوى الامنية للدول الحليفة لها والصديقة، وهو أمر يتيح لها معرفة عن قرب بل معرفة من الداخل لهذه القوى وممن تتكون وما هي ميولها واتجاهاتها. انها تملك ملفات كاملة لكل من يتعلق عمله في هذه الدول بالأمن، ملفات تمتلئ بالمعلومات التي ترى فيها الولايات المتحدة حماية لها ولأمنها. وحين يأتي دور الخروج من تحت المظلة الاميركية في أي من هذه الدول، أي حينما يتغير النظام فيها بفعل ثورة أو انقلاب، فإن الجهات الرسمية لهذه الدولة تجد صعوبة كبيرة في الخروج من تحت المظلة الاميركية وتغيير الصفوف الاولى القيادية وتلك التي تليها لكي تصبح خارج الاطلاع الاميركي أو بعيدة عنه بعض الشيء.
مع ذلك فإن الأحداث تفاجئ العالم كله بأن الولايات المتحدة ليست أكثر دول العالم صيانة لأمنها الداخلي، بل ان اختراق صفوفها يبدو سهلا وهينا اذا قيس بدول اخرى لا تملك إمكانات الولايات المتحدة وقدراتها القوية والغنية. ان أحداثا كتلك التي وقعت أخيرا انما تدل على ان الولايات المتحدة إما لا تنتبه للأخطار الحقيقية التي تحدق بها وتهدد أمنها بالشكل الذي يكفي لصيانة هذا الامن، أو ان الولايات المتحدة تتعمد ان تدع في جدارها الامني ثغرات ينفذ منها الإرهابيون لتوجيه ضربات موجعة للرأي العام الاميركي. وبعدها تظهر الاجهزة الاميركية قدرتها الفائقة على كشف اولئك الذين اخترقوا أمنها فتقتلهم أو تقبض عليهم وتحاكمهم وتصدر عليهم أقصى وأقسى العقوبات.
ويبدو ان هذا الاحتمال الثاني هو الذي يرجح، فهو الذي يبدو أكثر منطقية وانطباقا على السياسات الامنية الاميركية التي لا تتغير بتغير الادارات أو الرؤساء الاميركيين، فضلا عن الوزراء والقادة الذين يترأسون الاجهزة الامنية.
الرئيس جورج بوش الابن، تعلم أشياء كثيرة عن الإعداد لهذا العمل الإجرامي الإرهابي وبالأخص توقيت وقوعه، ولكنها قررت ان تدعه يتم لتحتفظ بسطوة القبض على مدبريه وتقديمهم للعدالة الاميركية. ان الجدل لا يزال دائرا في الولايات المتحدة بهذا الشأن. وبعض هذا الجدل لا يزال يظهر في الصحافة الاميركية بصرف النظر عن مقدار ما يتمتع به من مصداقية. المهم في اللحظة الراهنة أن هناك من يعتقد في الداخل الاميركي ان السلطات كانت تعرف ولم تشأ أن تتدخل قبل تنفيذ تفجيري بوسطن وتكساس، بل آثرت ان تؤجل تدخلها الى ما بعد هذا التنفيذ.
على ان السلطات الاميركية لا تملك القدرة على السيطرة على حالة الهيستيريا الداخلية التي تنجم عن هذه الأحداث. ان حالة الهيستيريا الداخلية الاميركية تفوق في الحقيقة كل ما يمكن تصــوره وتفوق ايضا ما يمكن ان يصاحب حدثا مماثلا اذا وقع في بلد آخر غير الولايات المتحـدة، حتى اذا وقع في أي من بلدان القارة الأوروبية، وهي القارة الاقرب ثقافة وسيكولوجية الى القارة الاميركية الشمالية. مع ذلك فإن الشكوك هذه المرة إزاء الموقف الرسمي من التفجيرين الاخيرين تذهب الى أبعد من مجرد الظن بأن الحكومة الاميركية وأجهزتها كانت على علم بالحدثين وتوقيتهما ومنفذيهما. انها تذهب الى ان التعاون الذي بدأ قبل سنوات قليلة بين السلطات الاميركية وتنظيمات الارهابيين يعيد الى الاذهــان الفـترة التي ساد فيها التعاون بين السلطات الامــيركية وتنظيم «القاعدة» إبان سنوات التدخــل السوفــياتي في أفغانستان، أي حقبة الثمانينيات من القرن العشرين.
يرجع هذا الرأي الى طبيعة الموقف الرسمي الذي تتخذه الولايات المتحدة في الوقت الحاضر إزاء أحداث سوريا. ان الولايات المتحدة قد اتخذت قرارا أكيدا بأن تتعاون مع تنظيم «القاعدة» الى حد إمداده بالأسلحة بل تدريب العناصر المنتمية اليه، فضلا عن مساعدة وتمويل وتسليح التنظيمات الارهابية المتعاونة مع القاعدة في الهجمات المدمرة داخل سوريا. بل ان التعاون الاميركي في الوقت الحاضر يصل الى حد تقديم التسهيلات الاميركية المتعلقة بالتنقل وعبور الحدود السورية، سواء من الاراضي التركية أو الاردنية الى داخل الاراضي السورية. ولم يعد في نطاق المجهول الدور الذي تلعبه الولايات المتحدة في التنسيق مع بلدان مثل السعودية وقطر والامارات في مجال توفير الاموال للمنظمات الارهابية التي ترسل أفرادها بالمئات بل بالآلاف الى داخل سوريا. ومن المنتظر ان تكشف الايام أو الاسابيع المقبلة حقائق جديدة عن دور اسرائيل الذي تقوم به في الجولان السوري المحتل بالتنسيق مع الولايات المتحدة من أجل تمكين الارهابيين من الانتقال الى داخل سوريا بأسلحتهم وعتادهم.
ولقد وصل الامر الى حد مثير لقلق المواطنين الاميركيين من هذه العلاقات بين أجهزة السلطة في بلادهم وإرهابيي «القاعدة» التي أصبحت تصنع عناوين بارزة بل ومثيرة في الصحافة الاميركية. ولم يعد هؤلاء المواطنون يصدقون ان بلادهم تقوم بدور رئيسي في محاربة الارهاب والتنظيمات الارهابية بعد ان أصبحت تتعاون مع «القاعدة» وغيرها من التنظيمات الارهابية، فضلا عن موقف الحكومة الاميركية المؤيد لحكم «الاخوان المسلمين» في مصر. والامر الذي لا شك فيه ان عبارة «الاخوان المسلمين» تترك في المستمع الاميركي انطباعا لا يختلف عن ذلك الذي يتركه تعبير «التنظيمات الارهابية».
ان أحدا في الولايات المتحدة ـ من الصحافيين أو من قرائهم ـ لا يتساءل اذا كانت أميركا وراء أحداث المنطقة العربية وبالتالي وراء أحداث مصر وسوريا وقبل ذلك تونس وليبيا. ولكن السؤال
في أذهان أولئك وهؤلاء لا يزال حول ما اذا كانت الحكومة الاميركية وأجهزتها المنفذة وراء أحداث المدن الاميركية والعمليات الارهابية التي لا تمضي سوى ساعات حتى تكون الاجهزة الاميركية قد حددت منفذيها. وحتى الآن لا يمكن الجزم بأن الرأي العام الاميركي يدرك ان الولايات المتحدة انما تريد ان توجه الشكوك لدى الرأي العام الاميركي نحو ايران. انما يمكن الجزم بأن جانبا من الرأي العام الاميركي يعارض هذه النظرة ولا يتصور لإيران أي دور في هذا النوع من الأحداث. ويدرك هذا الجانب أن مثل هذا التفسير للأحداث الارهابية انما يهدف الى خدمة اسرائيل. بل لعل هذا الجانب من الرأي العام الاميركي هو نفسه الذي يعتقد ان الحكومة الاميركية انما تلجأ الى هذا التفسير لهدف واحد هو إبعاد اسرائيل عن فكرة توجيه ضربات عسكرية ضد ايران. ذلك ان الولايات المتحدة أصبحت أقل اقتناعا بالنظرة الاسرائيلية الداعية الى «ضرب ايران» سواء كانت ضربة اميركية أو اسرائيلية أو هما معا.
ان التعاون مع الارهابيين مسار يفتح أبواب جهنم أمام السياسة الاميركية في الشرق الاوسط مهما كان يبدو مريحا ومطمئنا لإسرائيل. ولهذا يبقى السؤال: هل تستطيع الولايات المتحدة ان تتحرر من القيود الاسرائيلية؟
سمير كرم
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد