عن الروائي الكوبي ايليزيو البرتو
"كان ايليزيو البرتو احد ابرز منشدي تعاسة الكوبيين، تعاسة جيل كامل ولد ونشأ في جوار وعود الثورة ليضيّع نفسه في اعقاب تحطم هذا الحلم". يلخص المحلل وخبير الشؤون الكوبية خيلبيرتو كالديرون على هذا المنوال عطية البرتو الراحل قبل ايام بنتيجة مضاعفات من جراء عملية نقل كلى باءت بالفشل. توفى ألبرتو المولود في كوبا في 1951 في مدينة مكسيكو، وكان الروائي الذي افصح عن بؤس صميم عصف بجيل من الكوبيين داخل الجزيرة وخارجها، وصوتا رفد مكتبة بلاده التأليفية بأعمال حرّكت المياه السياسية الآسنة. الكاتب هو ابن اليزيو دييغو احد اجمل الشعراء في كوبا، ويروي في "مخبر ضد نفسه" كيف طلبت منه قوات الأمن الكوبية ان يصير مخبراً يتجسس على أفراد أسرته، والمعني الاول في هذا الصدد والده الذي ارتابت السلطة من تقربه من الجالية الكوبية في ميامي الاميركية، في 1978. في منتصف سبعينات القرن المنصرم اصدر ايليزيو البرتو باكورته الشعرية "الضجيج المستحق"، وفي 1985 روايته الاولى "النار الحمراء"، لينال بفضلها "جائزة النقد الوطنية" في كوبا. في 1998 استحق امتياز "الفاغوارا" الأدبي عن نصه الروائي "شاطئ كاراكول"، قبل ان ينتقل في 1990 الى منفاه المكسيكي وينال بعد عقد جنسية تلك البلاد. غير ان البرتو الروائي والشاعر وكاتب السيناريو، واظب على أن يخترع كوبا يفاعه من مكان اقامته، كما في خاتمة نصوصه الروائية "صورة الكونت ايروس" (2008) حيث رسم هافانا الحرة تعج بـ"الفنانين والعاهرات والمصابين بالهذيان والكذابين... الى حين تبوأ فيديل السلطة لينتهي الاحتفال"، على ما اعلن خلال زيارته اسبانيا لتقديم مؤلفه.
تشارلز ديكنز تحت الضوء
تشكل مناسبة الاحتفال بالمئوية الثانية لميلاد تشارلز ديكنز السنة المقبلة، ذريعة مناسبة للإضاءة على الكاتب والصحافي الاستقصائي والمحرر. والحال ان ديكنز ظل خلال عقدين على رأس اثنتين من اهم المجلات الانكليزية ابان الحقبة الفيكتورية وهما "هاوسهولد وودز" بين عامي 1850 و1859 و"اول ذي يير راوند" بين عامي 1858 و1870. عمل آنذاك ضمن فريق صغير في مكاتب ويلينغتون ستريت، في لندن، بينما لم يكتب لنحو ثلاثمة الف صفحة من هاتين المجلتين، الصدور يوما في صيغتها الكاملة. علما ان ديكنز نشر في صفحات هاتين المجلتين، مئات المقالات وبعض اكثر رواياته انتشارا من قبيل "الازمنة الصعبة" و"حكاية المدينتين" الى "الآمال الكبيرة". في هذا السياق، يهدف مشروع "جورنال ديكينز اونلاين" الذي اوكل به جون درو الاستاذ المحاضر في جامعة باكنغهام الى جعل صور طبق الاصل من صفحات المجلتين متوافرة على نحو مجاني، اما المرمى الاكثر طموحا فإتاحة معرفة أعمق بهذا العملاق الأدبي.
أعوام نيتشه قبل الوداع
يؤكد نيتشه كم يصعب عليه ان يتذكر آراءه المختلفة، فكيف بالحري ان يتذكر الأسباب الكامنة خلفها. والحال ان من ضروب القدر ان يكون التشوش المادي وليس الاستعاري استبد فعلا بالفيلسوف الالماني في خاتمة حياته حين اختبر التهابا حادا من جراء اصابته بداء الزهري، تسلل الى قدراته الذهنية اولا ثم الى حركته. والحال ان ثمة غموضاً يكتنف اعوام نيتشه الوداعية في حين نعرف انه كرس الفترة الفاصلة من 1887 الى 1889 للسفر، لوضع اللمسات الأخيرة على مؤلفاته الثلاثة الختامية والبعث بالرسائل افصحت عن ميل الى خلل في توازنه، راح يتعمق رويدا. اتخذت النسخة الاولى الفرنسية من رسائل نيتشه بين هذين العامين شكل الكتاب المتسرع (لدى دار "ريفاج كتاب الجيب") غير ان النسخة الأحدث التي جمعها وترجمها وقدم لها يانيك سولادييه على نحو علمي، تسمح بخيار اوسع. نجد في الكتاب وعنوانه "الرسائل الاخيرة. شتاء 1887-شتاء 1889" (بالفرنسية لدى منشورات "مانوكيوس") مئة وثلاثاً وسبعين رسالة من بينها نماذج غير منشورة في الفرنسية قبل اليوم. لم يستند انتقاء النصوص الى المعايير الموضوعية دوما، ويمكن ادراك ذلك في أكثر من مكان، غير ان هناك رسائل على فرادة الى حد يجعل من الصعب اهمالها. كيف يمكن مثلا التغاضي عن احداها لا يمكن التأكد من نسبها وانما حيث يتراءى نيتشه في وسط ازمة عاطفية حادة متوجها الى كوزيما فاغنر في كانون الثاني 1889 كاتباً: "أريان، احبك. ديونيسوس" (إله الخمر) ليضيف توقيعا ثانيا "المصلوب". تتجلى التراجيديا الإنسانية في ألقها في هذا التفصيل، وفيما لا يختصر هذا الجانب كل الرسائل، يدلل على جنوحها صوب الزوايا المضطربة. لا تركن رسائل الفيلسوف في موقف محدد، ذلك انها تفيد من نشاط فكري غير مألوف يجتازه اكثر من وميض. يظهر نيشته حماسة، فتتآلف العبقرية مع الاندفاع الطفولي: "اقسم اننا سنرى الارض تعمّها الاضطرابات في غضون عامين. انها القدرية". تفرض الرسائل على القارئ القبول بالمزج بين الحسين الجدي والفكاهي، وفي كنفها نصادف نيتشه منزعجا من زواج شقيقته ببرنهارد فورستر المعادي للسامية، وساعيا الى محاربة القومية واللاسامية الألمانيتين، وهذه من بين تحديات "سياسته الكبرى". ثم يحل المرض الذي كان الفيلسوف يترقب تطوره فنشهده يطيح صفاء ذهنه. من المؤثر في هذا السياق اللحاق به فيما ينحدر ثم يتلاشى في رمال المرض تماما.
جورج برنارد شو
رأى الكاتب جورج برنارد شو النور في دبلن في 1856، اي قبل مئة وخمسة وخمسين عاما بالتمام والكمال. نعود في ركاب هذا الموعد الى اعمال مسرحية تمحورت على الحكم في حالات عدة وركزت على شخوص تمتعوا بإرادة لافتة وامتلكوا ما عاينه شو "الاخلاقية الاصلية" وهذه غرائز لم تتمحور على المثل الخاسرة. نجد من بين نماذجه المختلقة والأخرى الحقيقية نابوليون الشاب ويوليوس قيصر في الشيخوخة، والبارون الصناعي اونديرشافت وجان دارك الكاريزماتية وسواهم. في ذكرى ميلاده، تولت مجلات متخصصة عدة نشر مقالات ترصد اعمال برنارد شو التي انبثقت من فقد الصبر المعطوف على انزعاج يرتبط بحقبة ما بين الحربين الاولى والثانية، في زمن حيث انزلقت الحكومات التي عجزت عن تفادي الحرب العالمية الاولى، صوب حرب عالمية ثانية. لم تكن الائتلافات السياسية على السكة الصحيحة في عرف شو، بينما كان هو في طريقه الى الاشتراكية التقليدية والى شيء من الاستبداد الغامض بعدذاك. وجد الكاتب في قراءة كارل ماركس مصدرا للوحي وصار ناقدا ادبيا وموسيقيا جرب نشر خمس روايات من دون جدوى ليميل بعدذاك الى المسرح في 1892 ويترك في رحابه خمسين عنوانا. وجد شو القبول في المسرح في حين فشل في الرواية، على نقيض هنري جيمس الذي سلك الدرب المعاكسة. طوّر شو اسلوبا نضح بنفس فكاهي جعل منه معلم المسرح الانكليزي الذي لا مثيل له. في مقاربته المسرحية حارب الاستغلال الاجتماعي في وجوهه المختلفة، فكانت "البطل والجندي" بداية انتشاره العالمي. انصرف شو الى الهزء من الامتثالية الاجتماعية، فاستبقته جائزة نوبل الآداب في 1925. لينال في 1939 جائزة اوسكار عن السيناريو المقتبس الى السينما من عمله المسرحي "بغماليون"، بيد انه لم يهتم كثيرا لهذا الصنف من التكريمات المتلألئة ببريق الشهرة والضجيج الاعلامي. فعل ما يمكن انتظاره من ذهن على هذا القسط من النقمة، استخدم على ما يتردد التمثال الذهبي الصغير حاجزا يعوق ابواب منزله من الغلق! ظل جورج برنارد شو صاحب الفكر الحيوي الى نهاية حياته ليتوفى من جراء سقطة في الرابعة والتسعين.
رلى راشد
المصدر: النهار
إضافة تعليق جديد