عن المجتمع اللبناني: سليم الحص
هذه الفاتحة لكلام نطلقه في السياسة، في ما ندلي بأحاديث اقتصادية او اجتماعية او وطنية، اضحت فعلاً مجوّفة من معناها. فهل حقاً نحن لبنانيون بغير الانتساب الى رقعة جغرافية تسمى لبنان؟
"نحن اللبنانيين" عبارة لا تستقيم الا اذا كنا حقاً نتصرف ونتحرك ونقرر ونحلم كشعب واحد موحّد. هل نحن نفعل ذلك حقاً؟ ونحن لا نفعل ولو كانت تُوحّدنا، او اقلّه تجمعنا، مصالح مشتركة او شعور بمصير واحد ولو في المظهر، فعلام اذن كل تلك الخلافات التي تفرّق بيننا وتبعثر صفوفنا في ما كنا وما زلنا نواجه، منذ الاستقلال، اي منذ اعلان الكيان اللبناني، من ازمات وطنية وبعضها ارتدى طابع العنف الدامي الجامح؟
هذه ليست حجة نسوّقها ضد ظاهرة التعددية التي يتّسم بها مجتمعنا. فالتعددية هي دلالة حيوية وعافية في المجتمع، اي مجتمع، وهي من الخصوصيات الملازمة للممارسة الديموقراطية. فكيف تكون ديموقراطية اذا ما انتفت الفوارق بين فئات الشعب فكراً او معتقداً او التزاماً او انتماء او ولاءً في المفهوم السياسي. اما في المفهوم الوطني فالشعب لا يعود شعباً والمجتمع لا يعود مجتمعاً اذا كانت التعددية تعني فوارق اساسية في ما يفترض ان يكون من الثوابت الوطنية او القومية.
هذا الواقع كان في خلفية كلامنا عندما قلنا غير مرة اننا لا نتصرف كشعب وانما كقبائل، وقبائل العصر تسمى طوائف. والتعددية الذميمة هي التعددية الطوائفية، اما التعددية المطلوبة فهي التعددية السياسية، التي تتجلى في تعدد الاحزاب والتيارات والتنظيمات والتحالفات. اما نظام الحزب الواحد فهو لا يمت الى الديموقراطية بصلة. هكذا كان النظام الفاشي والنازي وكذلك الشيوعي في بلدان معروفة، وكلها كانت غير ديموقراطية بامتياز.
وتنديدنا بالتعددية الطوائفية لا تعني التنديد بالتعددية الدينية. العكس هو الصحيح. لذا قولنا المتكرر، شتّان بين الدين والطائفية، فالاديان تجمع بينما الطوائف تفرّق. الاديان رسالات تجمع على قيم سامية مشتركة، فيما الطائفية عصبيات تفرّق اذ تنزع كل منها عبثاً الى الغاء الاخرى.
والحياة الطوائفية في لبنان هي التي فرضت قاعدة لا غالب ولا مغلوب بعد كل ازمة وطنية، حيث ان انتصار عصبية على اخرى لا يمكن ان يترتب عليه سوى تمزيق المجتمع، وهي وصفة الفتنة في المجتمع. اما في الانظمة التعددية سياسياً التي تتميز بالممارسة الديموقراطية الصحيحة فلا ازمات وطنية، وعندما تنشب مشكلة على خلفية قضية معينة، سياسية كانت ام اجتماعية ام اقتصادية، فمن الطبيعي ان تنتهي المشكلة بغالب ومغلوب بالمعنى الديموقراطي.
وما شرذمة مجتمعنا على قاعدة تشتت الولاءات الفئوية الا لغياب البديل الذي ينبغي ان يستأثر بولاء المواطنين جميعاً، وهو الدولة التي تتمتع بمزايا معينة: هي الدولة الديموقراطية وهي الدولة القادرة والعادلة. والدولة اللبنانية كانت منذ الاستقلال ولا تزال تفتقد كل هذه المزايا. والمواطن لا يرى من وجه الدولة سوى ذلك الجانب المنفّر الذي يتراءى فيه الفساد والعقم والنزاعات العبثية وتسخير الشأن العام لخدمة اغراض انانية ضيّقة.
يرضى المواطن عن واقعه، وبالتالي عن دولته، يوم تحل روح المواطنة الصالحة محل الطائفية لا بل المذهبية المدمرة. عند ذاك نستطيع استخدام مقولة "نحن اللبنانيين" ونستحقها بجدارة. وفي غياب المواطنة تتفرّق ولاءات اللبنانيين يمنة ويسرة، شرقاً وغرباً، يدين فريق منهم بالولاء للأميركان وبعضهم الآخر لسوريا او لايران او لسائر القوى الخارجية الفاعلة في الساحة اللبنانية المكشوفة. وفي قولنا هذا لا نقصد الموازاة بين العلاقة مع اميركا والعلاقة مع سوريا او ايران. فنفوذ سوريا او ايران نحن قادرون على مقاومته لا بل رفضه في حال تعارضه مع مصالحنا الوطنية. اما نفوذ اميركا فقد يكون اقوى من ان نستطيع التنكر له او اهماله، حتى لو كان محابياً لعدو الوطن والامة، بالنظر الى امكانات الدولة العظمى المادية والعسكرية والسياسية وبخاصة عبر علاقاتها العربية والدولية.
والاهم من ذلك ان العلاقة مع اميركا قد توصل في نهاية المطاف الى الامتثال لارادة العدو الاسرائيلي. فقد علّمتنا التجارب المرة ان لا فارق، ولا حتى في التفاصيل، بين ما يُسمّى سياسة او استراتيجية اميركية في منطقتنا وما يسمى سياسة او استراتيجية اسرائيلية. لمسنا هذه الحقيقة لمس اليد عند مفاصل متعددة في تاريخنا الحديث لبنانيين وعرباً، وكان آخرها الحرب الغاشمة التي شنتها إسرائل على لبنان على امتداد نحو خمسة اسابيع عام 2006، والتي اختلط علينا خلالها امر من يقود من؟ هل كانت اميركا تقود إسرائيل ام كانت إسرائيل تقود اميركا؟ برر الرئيس الاميركي الحرب على لبنان بالقول انها تندرج في اطار حق اسرائيل في الدفاع عن نفسها (ولو على ارض سواها)، وكان رفض وقف اطلاق النار يصدر عن المسؤولين الاميركان الكبار.
اننا نحلم بيوم يكتمل فيه بناء المواطنة الصحيحة في لبنان، في ظل دولة ديموقراطية، قادرة وعادلة، فنكتسب عند ذاك حقنا في الحديث عن انفسنا كشعب وليس كقبائل، فيحق لنا القول: نحن اللبنانيين.
اما اليوم، وحتى اشعار آخر، فنحن اللبنانيين: مسلمون او مسيحيون، سنة او شيعة او دروز. نحن قبائل في ابشع صورها. يا للخزي. يا للعار. هل اخترنا طريق الانتحار؟
سليم الحص
المصدر: النهار
إضافة تعليق جديد