فنون التطبيق وأساليبه بين جيل الآباء والأبناء
الجمل: لازالت الشوارع المحيطة بمدارس البنات في المدن السورية المسرح الأوسع نشاطاً للطلبة الصغار أثناء سني مراهقتهم، وإذا كانت تدفعهم بعضهم إلى الإنطواء، فإنها تدفع الأكثرية منهم إلى حب الظهور المبالغ به أمام الفتيات، واستخدام ما يدعى بعمليات "التطبيق" ـ كما يطلق عليها في دمشق ـ وهي أداء بعض الحركات البارعة والمرسومة بأناقة دقيقة سواء في استرعاء اهتمام الجنس الآخر ببعض التحرشات اللطيفة أو على العكس إبداء اللامبالاة المقصودة التي غالباً ما تلفت الأنظار، تبدأ غالباً ببعض المناوشات تطاير فيها كلمات الغزل السريعة مع تبادل النظرات الهيمانة الطويلة، بين الفتيان المتجمهرين في الشوارع على أكتاف الأرصفة وأسراب البنات الخارجات من المدرسة.
هذه المظاهر التي درج عليها الشباب من الجنسين تصبح أكثر نضوجاً وهدوءاً في أروقة الجامعة وتكتسي أبعاداً جادة في أماكن العمل، وتتخذ مناحي متعددة تتجاوز الاستعراض والجذب الشكلاني بوسائل وأساليب أكثر مباشرة ووضوحاً. في حين كانت في الماضي تستخدم أساليب ملتوية، تستهلك وقتاً لا يستهان به، فقد يتطلب الحصول على ابتسامة رضى أو إعجاب سلسلة من التحضيرات الصعبة والمعقدة، تشغل الحال والبال فترات طويلة تقوم على قراءة دقيقة لتفاصيل الآخر موضوع التطبيق. أحد الرسامين السوريين يعرج في ذكرياته على أيام الشباب في الستينيات،ويصف الجهد الذي بذله للفت نظر الفتاة التي هام بها سنوات وسنوات؛ فيقول: كنت أقضي ساعات تحت المطر أنتظر خروجها من بيتها كي تزور خالتها أو صديقتها، وأستعد لهذا اللقاء العابر بالاعتناء بمظهري الخارجي، فأستعير جاكيت أخي لأبدو كبيراً، وأضع حول رقبتي الفولار الأصفر لأبدو فناناً، ولكي أبدو ذكياًً أتذكر أنني أستأجرت من صديق يتقدمني في الجامعة كتاب "الاقتصاد السياسي" للدكتور أحمد السمان وهو كتاب ضخم رغم أني لم أكن قادراً على قراءة سطرين منه.، أحمله على ساعدي مستعرضاً ضخامة الكتاب وعنوانه، كما أدعيت معرفتي بكبار الفنانين أمثال فيروز والرحابنة، ونجحت في الوقوف إلى جانبهم وتصورت معهم لأؤكد علاقتي بهم، كل هذه التحضيرات والمرور ذهاباً وإياباً من أمامها فلأظفر برضاها، خمس سنوات وأنا على هذه الحال،. وإذا كانت هذه الأمور قد أسعدتني وجعلتني واثقا بنفسي، فقد كان جزائي الحصول على ابتسامة رائعة، ابتسامة كانت تطيرني عالياً، وتحيلني إلى كتلة من الفرح.
ولعل طريق الصالحية حيث كانت ثانوية دوحة الأدب للبنات، لا زال يحتفظ في ذاكرته بإشارات التطبيق البريء من لغة العيون والكلمات الهامسة إلى رسائل الأشواق الحارة، هذا تاريخ لم يمض بعد، رغم أن وسائله اليوم تبدو أكثر جرأة في التعبير،وإن لم تكن أفصح، حتى لو بلغت حدود التهور الجنوني في استعراض مهارات الشباب الطائشة في سياقة السيارات بحيث باتت ظاهرة منفرة ومزعجة. وإذا كانت شوارع المدن السورية تشكو من التشفيط بالسيارات، فإن الأرياف السورية تعاني من استعراضات السرعة الجنونية لسائقي المتوسيكلات من الشباب، بل أن تجارة جديدة راجت بسرعة على هامش هذه الظاهرة إذ راح بعض التجار يؤجرون المتوسيكلات بالساعة ليتمكن الشبان من قيادتها أمام مدارس البنات بأساليب بهلوانية تستنسخ أحياناً تلك التي نراها في برامج الرياضات العالمية. عبير طالبة أول ثانوي تقول: أعجبت بالشاب الذي يمرق في الشارع بسيارته المارسيدس عند نهاية الدوام المدرسي، وتعودت على رؤيته كل يوم وهو يأتي بسرعته الصاروخية ويتوقف أمامي فجأة ليرمقني بنظرته الحالمة من خلف نظارته السوداء، أشعرني بأنه لا يرى في العالم سواي، اليوم الذي لا أراه فيه لا أنام.
ربما تكون تلك المتطلبات محط الإعجاب خطرة جداً عدا عن تكلفتها العالية، واحياناً تأخذ منحى غير خطر أو مكلف لكنه أكثر غرابة. ريم 17 عام يجذبها من الشاب أناقته وعلى وجه التحديد حذاءه، وتصر على أن شخصية الرجل تكتمل في العناية بحذائه، فلا تستقيم الأناقة إلا بحذاء نظيف وملمع ومن ماركة عالمية مشهورة.لا يرضي ريم أي شاب مهما حاول لفت انتباهها إذا لم ينل حذاؤه رضاها، وهي بالمقابل تعتني بقدميها وحذائها فتستغل فصل الصيف لإظهار جمال ساقيها بهدف جذب شاب لديه نفس اهتماماتها، فتزين أصابع قدميها بالخواتم، وتحيط كاحلها بالخلاخيل.
العناية بالتفاصيل الصغيرة إحدى لغات الإنسان للتواصل مع الآخر، فهناك من يعتني بمظهره بالشكل الذي يجعل الناس يرسمون تصوراً معيناً حوله وفق مفردات يختارها هو. سها 26 عام تولي الأشياء الصغيرة أهمية كبيرة، فهي تحب اقتناء أحدث الإكسسوارات وأغربها، إرضاء لرغبتها بملاحقة آخر خطوط الموضة، ولا تهدف من ذلك إلى إغراء أحد، بل تحب أن تظهر بالصورة التي تراها جميلة، وتفضل أن يراها الناس بهذه الصورة التي اختارتها، كما أنها لا يمكن أن تفتعل شيئاً ليس من طباعها لجذب أنظار المحيطين بها. فعندما وضعت خزاماً بأنفها لم يكن ثمة من تريد التأثير عليه، وكذلك عندما ترتدي تي شرت قصيرة أو بنطلون صرعة، أو تزين خصرها والسرة، إذ تسعى دائماً للظهور بالشكل الذي يقنعها أولاً ويجعلها واثقة بنفسها. الثقة بالنفس في مفهوم سها هي التي تؤثر في الآخرين وليس المظهربحد ذاته، وتؤكد أنها عندما يلفت نظرها شاب ما تسعى لفتح حوار معه تعرض من خلاله شخصيتها التي تتجلى بطريقة حديثها والموضوع المطروح، مع اللباقة في التصرف وانتقاء الكلمات المناسبة، وكل ما يمكن أن يعكس ثقافتها الحياتية.
في هذا الجانب يتفق سامي 24 عام مع سها، مع أنه ينجذب إلى الفتاة الدلوعة التي تظهر حركات أنثوية خاصة، إذ يستمتع بملاحقتها والتغزل بها والحديث معها، أما في حال كشفت عن سخافة أفكارها، فإن جمالها لا يعني إلا أنها بالغت في تزيينه على حساب عقلها الذي اهملته. إن تطبيق أي فتاة برأي سامي، لا يحتاج لزمن طويل، يكفي تبادل بعض النظرات وعبارات الغزل والاعجاب مثلاً بملابسها الغريبة أو قصة شعرها، للخروج بعدها معاً إلى كافيتريا أو ديسكوتيك وتبادل الرأي حول اهتماماتهما، وإذا لم يحصل انسجام بينهما أو ظهر آخر غيره، أو أخرى غيرها، فبالإمكان تغيير المواقع بسهولة وبالطريقة نفسها، بعد قضاء وقت ممتع دون خسائر تذكر.
قد تتبع مثل تلك الأساليب في الأماكن الشبابية كالجامعات أو الكافيتريات والمطاعم التي تشهد ولادة وموت علاقات كثيرة يحكمها حب التغيير، ولو تكلم سور كلية الآداب في دمشق لأفصح بكثير من السخرية والمرارة أيضاً عن تاريخ التطبيق والملاحقات بين الطلبة والطالبات، الذين يجلسون على حافته ساعات طويلة، ويقصده باقي الطلبة من الكليات الأخرى ليمتعوا أنظارهم ببنات كلية الآداب الجميلات والأنيقات اللواتي يتمشين أمام السور أو يجلسن مع زملائهن على درج كلية الصحافة والمكتبات، حيث يستمتع الجميع بشمس الخريف والربيع الدمشقي. عامر طالب في كلية الهندسة الميكانيكية يأتي أسبوعياً إلى كلية الآداب في المزة متكبداً عناء مشوار طويل من كليته الواقعة على طريق المطار جنوبي دمشق، ليرى فتاة أعجبته تدرس اللغة الإنكليزية، ويقضي نهاراً كاملاً جالساً على السور وهو يرتدي قميصه الأسود كي تراه، فقد عرف من إحدى صديقاتها أن تحب الشاب الذي يلبس الأسود. وقد تمكن من نيل اهتمامها بعد تصرفات كثيرة قام بها كأن يدخل قاعة المحاضرات ويفتعل حركات تجعل الاستاذ المحاضر يسأله ما الذي أتى به إلى مكان لا عمل له به، وكان يفرحه أن يطرد من القاعة لأن ذلك حتماً سيجعله محور حديث طلاب قسم اللغة الإنكليزية، ومن بينهم الفتاة محط إعجابه، وهي عندما تراه على السور تخصه بنظراتها بعد أن لفت انتباهها.
وقد تتعدى حركات التطبيق أهدافها في لفت نظر الآخر إلى الحصول على شيء منه بعد التوصل إلى لغة تفاهم غير محكية بين الطرفين. ابتهال جامعية في السنة الأخيرة، تقول: رسبت في إحدى المواد عدة دورات وكنت كل مرة أذهب إلى الاستاذ وأشرح له وضعي كي يساعدني ولكن بدون فائدة كان دوماً ينساني، وكي أبقى في ذاكراته اتبعت أسلوباً جديداً فصرت أحضر دروسه بدون انقطاع وأحرص على الدخول بعده بخمس دقائق، فادخل القاعة بكامل اناقتي ولا اغفل استعمال عطر فواح الرائحة، مع اعتناء مبالغ به بمشيتي وكأنني عارضة أزياء، وأجلس في المقاعد الأولى وادقق النظر في عينيه بشكل يحرجه وأحياناً كثيرة ألاحظ مدى ارتباكه من قوة نظراتي، فينسى ما كان يقوله، وهكذا حتى نهاية الفصل. ثم بعد أن شعرت أنني لن امسح من ذاكرته ذهبت إلى مكتبه في الكلية وشرحت له وضعي، وعلى الرغم من إصراره على أن أدرس المادة جيداً شعرت أنه لا بد سيساعدني وبالفعل أثمرت جهودي ونجحت في المادة.
ونيل الرضى قد يكون مطلوباً في العمل أكثر من الجامعة، فعادل 27 عام وجد عملاً إدارياً منذ فترة قصيرة في شركة ترأسها سيدة متوسطة العمر، صارمة في سلوكها مع الموظفين، ولأن عادل غير معتاد على القسوة راح يتبع العديد من الأساليب لجعلها أكثر ليناً معه، فحرص في البداية على مراقبة سلوكها و التدقيق في كلامها حتى عرف تماماً الأشياء التي تجذبها إلى الأشخاص وتجعلها أكثر لطفاً معهم، فقد عرف أنها تحب زهر البنفسج كثيراً فصار يومياً يضع على طاولته باقة بنفسج، كما أنها تحب سماع فيروز صباحاً، فأخذ يستمع إلى فيروز في كل الأوقات، وعندما يشعر بها تقترب من مكتبه يرفع الصوت إلى درجة تجعلها لا أرادياً تدخل غرفته لتؤدي تحية الصباح فيدعيها إلى فنجان قهوة. بعد مرور بضعة أسابيع تمكن عادل من أن يصبح الموظف الجديد والمدلل وصار يهدي مديرته بين فترة وأخرى باقات البنفسج أو أي زهر موسمي. على النقيض من ذلك تروي فاطمة 25 عام تجربتها مع مديرها في العمل الذي لم يكن يلفت انتباهه أي شيء في المرأة ولا سبيل لتليين طباعه، حيث كان واقعاً في أسر إحدى الزميلات في العمل فقد كانت تسيطر عليه، وتستأثر بتعاطفه كاملاً. تروي فاطمة، حاولتُ أكثر من مرة تصنع اللطافة والدماثة والاهتمام، واعتني بابراز أدق تفاصيل الإكسسوات والزينة، لكن مديرنا كان مثل الحائط، فقد خدرت مشاعره تلك الزميلة واستحوذت عليها، ومع ذلك سعيت لمنافستها بابتكار طرق كثيرة لا تخلو من الغزل كلما مر من أمام غرفة مكتبي كأن أتظاهر بتلقي مكالمة على الموبايل من صديقي وأمطره بكلمات الحب والعشق على مسامع المدير لأبدو كم أنا فتاة مرغوبة، أو افتعال موقف يرضيه، ولكن كل ذلك لم يكن مجدياً، فتجاهلته تماماً بعد أن يئست من تجاوبه معي، إلا أنه بعد فترة وجيزة فوجئت بتغيره نحوي وصار هو الذي يلاحقني وكلما أبديت له تحفظاً زاد اندفاعه نحوي، وحتى عندما كنت أهمل مظهري لأسباب لها علاقة بضيق الوقت صار يسألني عن السبب، وهكذا استأثرت به وصار لا يرفض لي طلباً.
وأحياناً كثيرة لا يقتصر التطبيق على العلاقة بين الرجل والمرأة فثمة مصالح وأعمال تقضي اتباع تلك الأساليب بين شخصين من جنس واحد، خلدون مثلاً حاول مد خطوط من التواصل الصامت مع شخص مهم عن طريق معارفه ليتثنى له لا حقاً العمل في شركته، فعمل أولاً على رصد ذلك الشخص المهم وجمع معلومات شخصية وتفاصيل كثيرة عنه، كونت بمجملها مفتاحاً للتعارف ونيل الثقة التي جعلت الشخص المهم يبادر ويطلب من خلدون العمل في شركته .
قد لاتزيد أساليب التطبيق الآنفة الذكر، عن مناورات بين الاشخاص، سواء الطلبة الصغار أو الشبان اليافعين والبالغين أو حتى الكبار، وكأنها سلسة من الأخذ والرد لها بالتجاذب الإنساني المبني على التفاصيل المشتركة للغة غير محكية تبدو أذكى وأمتع تجلياتها باللعبة الخالدة بين الرجل والمرأة، والتي مهما تحضرت أو تخلفت، فهي اللعبة ذاتها، إيقاع الرجل بالمرأة وبالعكس، قد تبدو بلا طائل، أو لاتعني سوى أشياء عابرة. لكنها أحياناً ترسم حياة بأكملها تبدأ على هذا القبيل من الهزل، وتخلف مآسي غير ممتعة على الإطلاق، وأحياناً تترك بصمات من سحر حقيقي إن لم يكن هو سر الحياة، فهو طعم الحياة بحلاوته أو مرارته، شيء مهما كان، يسبغ على الحياة معنى لا عبث فيه.
الجمل
إضافة تعليق جديد