في الديمقراطية والعلمانية والواقع العربي
الجمل ـ باسل محمد يونس: الديمقراطية: مصطلح يوناني مؤلف من لفظين الأول "ديموس" ومعناه الشعب، والثاني "كراتوس" ومعناه سيادة، فمعنى المصطلح إذاً سيادة الشعب أو حكم الشعب. والديمقراطية نظام سياسي اجتماعي تكون فيه السيادة لجميع المواطنين ويوفر لهم المشاركة الحرة في صنع التشريعات التي تنظم الحياة العامة، والديمقراطية كنظام سياسي تقوم على حكم الشعب لنفسه مباشرة، أو بواسطة ممثلين منتخبين بحرية كاملة " كما يُزعم ؟".
إن تشعب مقومات المعنى العام للديمقراطية وتعدد النظريات بشأنها، علاوة على تميز أنواعها وتعدد أنظمتها، والاختلاف حول غاياتها، ومحاولة تطبيقها في مجتمعات ذات قيم وتكوينات اجتماعية وتاريخية مختلفة، يجعل مسألة تحديد نمط ديمقراطي دقيق وثابت مسألة غير واردة عملياً، إلا أن للنظام الديمقراطي ثلاثة أركان أساسية: 1- حكم الشعب . 2-المساواة . 3- الحرية الفكرية . ومعلوم استغلال الدول لهذا الشعار البراق الذي لم يجد تطبيقًا حقيقيًا له على أرض الواقع؛ حتى في أعرق الدول ديمقراطية.
يحكى كثيراً عن الديمقراطية، لكن السؤال الذي يطرح نفسه هو عن أي ديمقراطيه نتكلم؟ و هل من أمل في تحقيق ديمقراطيه حقيقية دون الشرط الجوهري و الأساسي للديمقراطية وهو العلمانية؟
قبل الغوص و التفلسف، دعونا نتفق أو نعرف العلمانية، كثيرون يظنون أن العلمانية تعادي الدين أو تنفيه أو بمعنى آخر الإلحاد بعينه و هذا اعتقاد خاطئ، العلمانية: لا تعني إلغاء الدين، إنما فصل الدين عن الدولة والسياسة، أو بالأحرى تشكل ضمانه لعدم استبداد الدين و هيمنته على الحياة الاجتماعية.
العلمانية، مثل الديمقراطية، وسيله لتنظيم العلاقة بين الدين والدولة "العلمانية"، أو لتنظيم الصراع والتنافس في ما بين القوى السياسية والاجتماعية والاقتصادية "الديمقراطية"... وإذ يصح تعريف العلمانية بفصل الدين عن الدولة، أو استقلال السلطة في التشريع وإدارة الحكم عن المؤسسة الدينية، فهي أشبه بعقد قانوني بين الفئات المختلفة " ثقافياً،اثنياً و قومياً، طائفياً، مذهبياً" في المجتمع، تتفق فيه على دور عمومي للدولة تستحضره حاجات الناس وحقوقهم الديموقراطية بعيداً عن الانقسامات الثقافية والعقائدية، تحت سقف الوطن الواحد.
المفكر برهان غليون يقول " أن الديمقراطية لا تقوم من دون علمانية لكن العلمانية لا تعني تبني عقيدة لا دينية ولا استبعاد الدين من الحياة العامة ولا تقييد الحريات الدينية. إنها تعنى حياد الدولة ومؤسساتها تجاه الأديان والعقائد حتى تضمن المساواة الكاملة بين مواطنيها بصرف النظر عن اعتقاداتهم، وعدم انخراطها في النقاشات العقائدية والدينية، أو استخدام الدين للتغطية على اختياراتها وممارساتها السياسية، سواء كانت هذه الاختيارات والممارسات سليمة وصائبة أم خاطئة وإشكالية".
التأكيد على أهمية العلمانية لا يعني بأي حال إلغاء دور الدين أو إبعاده عن المجال الاجتماعي بل التوافق على ضرورة إخراج الدولة والسلطة من سيطرة الممارسة الدينية وتالياً إبعاد الحياة الدينية عن سطوة السياسة ورعايتها في إطارها الحيوي كحق وخيار إنسانيين، لا يعني رفض ظواهر متنوعة يمكن أن تفرزها المجتمعات العربية في المستوى الراهن من تطورها ولنقل تخلفها، لا تزال تجد خلاصها في هذا المستوى أو ذاك من الربط بين الدين والسياسة.
لذلك لا يمكن أن نتكلم عن الديمقراطية دون إرساء العلمانية التي تعد الضمانة الوحيدة لجميع أفراد الشعب على اختلافهم، في عدم استبداد الدين و تسلطه على الحياة الاجتماعية؛ الدين يجب أن يبقى، حق وخيار إنساني وحاله إيمانية تحترم بين الفرد و ما يؤمن به، لكن لا يجب لهذه الحالة الإيمانية أن تفرض نفسها على الآخر، الشريك في الوطن، من مبدأ من ليس معي فهو ضدي، الوطن يجب أن يحمي أبناءه ومعتقداتهم المختلفة أي كانت طالما أنها ضمن إطار القانون؟
لا يجب اختزل الإيمان أو احتكاره بدين معين، فهناك من يؤمن بالكتب السماوية وهناك من يؤمن بالحجر ...الخ، الإيمان ليس حكر على كتاب أو فكر أو اتجاه معين. لا يجوز إلغاء الآخر من باب الإيمان أو عدمه، أو الحكم عليه انطلاقاً من معيار الموروث الديني لأي مواطن، مهما بلغ عدد من يتبنى هذا الموروث، المعيار الوحيد الذي يجب أن يحكم الناس هو القانون و بمعنى أوسع "الغير مقنن" الأخلاق.
لذا يجب نسف مصطلح التكفير و ثقافة الغاء الآخر، و الاستعاضه عنها بثقافة التسامح و تفهم اختلاف الآخر، طالما أن الآخر لا يتعسف في استعمال حقه و يبقى ضمن اطار القانون، يجب أن يتمتع كل فرد بحق المواطنه، أما الجانب الروحي و الايماني فهو حق و خيار دون أن يكون مبرر ينطلق منه الفرد الى ثقافة تكفير أخيه في الوطن و الهويه، ما هو مقدس بالنسبة لأي فرد ليس بالضروره أن يكون مقدس بالنسبه للآخر، فلا يجب السماح لأي فرد بأن يلغي الآخر من زاوية المعتقد و الجانب الروحي... دون تجاوز هذه العقليه سنبقى متصحرين فكرياً و سنبقى بعيدين عن فكرة الديمقراطيه الحقيقيه و لا نكون أهل لها.
لا يجب أن يفهم من كلامي أنني أبرر تغييب الديمقراطيه في أي بلد عربي، انما قصدت القول أن الديمقراطيه لا تأتي بمرسوم أو بسن قانون، انما هي ثقافه و نتيجة تراكمات حضاريه للأمم، لكي نصل الى هذا الهدف يجب التخلي عن ثقافات عفنه و الاتجاه الى كل ما يؤدي الى الانتماء و الاجماع حول فكرة الوطن.
لقد دلت التجارب التاريخية على أن تقدم الديمقراطيه لا يتحقق إلا بالتوازي مع تقدم و رسوخ العلمانية، فالتطلع لفصل الدين عن الدولة أو الزماني عن الروحي، يستوجب فهم الدين ودوره في الحياة وتزداد أهمية هذه الحقيقة في مجتمعاتنا حيث للدين دور تأسيسي وتكويني في بناء الحقل الثقافي وساهمت أفكاره وقيمه في تحديد سلوك الناس وطرائق تواصلهم، وحيث إن روح النقل والتقليد لا تزال تتغلغل عميقاً في العقول وتحتاج بداية إلى نقد وتصحيح. وعليه لا يمكن توقع نهوض ديمقراطي علماني حقيقي من دون تجديد في الوعي الديني، فما نلمسه من قوة المعاني الدينية ونفوذها في حياة الناس تشترط ربط العمل على نشر قيم العلمانية بحراك الإصلاح الديني نفسه وبمدى نجاح الجهود المبذولة لتأسيس ثقافة تنطلق من الإيمان بنسبية المعارف وبحقوق البشر في الحوار والمساءلة لمعالجة القصور في فهم حقيقة الدين... فكلما شهدت الثقافة تقدماً في تطوير الفكر الديني زاد الرهان على حصول تحولات موازية تطاول الوعي العام وقواعد التفكير والسلوك، وتالياً على تقدم قيم العلمانية ومبادئها.
في مقاله له "حول الدين و الدنيا " الباحث نادر قريط يشرح بأنه : من حيث المبدأ لا معنى لأية دلالة دون بيئة فكرية حاضنة لها، كما لا معنى لمنتجات لوريل أو موسيقى باخ، وسط قبيلة من عراة الأمازون. وهذا ينطبق على العرب إذ لامعنى لمفهوم العلمانية في واقع، لازال يعيش (نسبيا) ماقبل الدولة الحديثة، فالفصل بين الدين والدولة حدث في فرنسا من خلال قانون العلمانية لعام 1905. وهو فصل بين دولة عقد إجتماعي (للمواطنة) وبين الكنيسة، بعد مخاض طويل من الصراع الذي قادته البرجوازية ضد الإقطاع الكنسي، رافقه نمو أفكار التنوير، وخلق مرجعيات قانوية وتشريعية وضعية بديلة (ذات أبعاد كونية نسبية) وبالتالي تم إنزال المرجعيات الإلهية القديمة إلى الأرض، ليصبح الإنسان هدف ووسيلة الحياة، وليس أداة لتحقيق رغبات الآلهة (الإكليروس) وليصبح الخلاص عبر النعم الأرضية والنمو الإقتصادي، بديلا عن الخلاص بواسطة القربان المسيحي وملكوت السماوات.
وبالنقيض فإن المشرق لم تنشأ فيه حركة تنوير وإصلاح ديني طاحنة، لغياب الطبقة الحاضنة لمشروع النهضة أو إقتصارها على مثقفي الصالونات، فإستمر الله حاضرا بزخم في كل تفاصيل الحياة والنقافة، كمركز لنظام رؤية الكون، تحضنه اللغة العليا كحصن منيع تحميه من (لغات) الحداثة.
هنا لا استطيع القفز على مسؤولية الدولة بالمعنى المؤسساتي، في اعداد الفرد ليكون مهيأ للديمقراطيه، التي تعتبر من مهامها الأساسيه، أي اعداد الفرد، في ظل غياب هذه المؤسسات يجب أن يتم توجيه العمل على بناء الفرد ليكون مواطن و ليس مجاهداً أو ضارب سواطير، لديه الاحساس بالمواطنه، لكن يجب أن تبرهن له الدولة أن له حقوق كما عليه واجبات، كي يتولد لديه شعور الانتماء...يقول أدونيس أن كل اقتتال انحلال. الاقتتال على السلطة هو أشد أنواع الحروب السياسية فتكاً، وأكثرها بهتاناً. هناك أفراد وجماعات يكتبهم التاريخ. ليسوا إلا تفاصيل بسيطة. وهناك أفراد وجماعات يكتبون التاريخ. يعطونه معناه وقيمته. ولا يمكن، بالنسبة إلى هؤلاء، أن تكون السلطة غاية في حد ذاتها. وإنما هي مجرد وسيلة لتحقيق الهدف الأساس: بناء بلد جديد ومجتمع جديد، وإنسان جديد.
الصراع يجب أن يكون من أجل إعادة بناء المجتمع، وليس من أجل الاستيلاء على السلطة. الافتراض المضمر هنا أن المجتمع لم يصل إلى مرحلة النضج الاجتماعي والفكري والأخلاقي بما يسمح له أن يدخل غمار الصراع من أجل التغيير، فهل المجتمعات العربية مهيأة للتحول الديموقراطي، و تملك قيم وثقافة الديموقراطية ؟ لكن بالمقابل، هل يمكن لمجتمع أن يكون مهيئاً للصراع وقابلاً لاحتضان قيم الديموقراطية والحرية، من دون الدخول في التجربة ؟
ما الذي يفتقده العقل العربي حتي يستطيع قبول الآخر أو الشريك في الوطن كما هو. ماذا يحتاج حتي يستطيع تحقيق هذه المعادلة المستحيلة الحل حتي الآن؟
في حوار مع المفكر صادق جلال العظم يجيب على هذا السؤال بأن الديمقراطية هي عملية تراكمية تاريخية ومن الخطأ أن نأخذ موقفاً تعجيزياً بأنه، طالما نحن قبليون طائفيون فعلينا إلغاء فكرة الديمقراطية برمتها ونقول إنها لا تناسبنا وينبغي أن نغلق الباب أمامها.
العملية تراكمية وتتوقف علي الخطوات التي نتخذها ونسير بها وعلي إعداد الناس في المدارس والمؤسسات التعليمية وتأهيلهم باتجاه ممارسة ديمقراطية تدريجية. وإلا أصبحنا محكومين بمقولة "كما تكونون يولي عليكم". وبذلك نقع ضمن دائرة محكمة الإغلاق لا مخرج منها.
يصعب علي العقل العربي ببنيته الراهنة إنتاج الديمقراطية ... لا تستطيع القول بأن الديمقراطية تعني حكم الأكثرية وتسكت... يجب أن تقول بأنها تعني حكم الأكثرية مع حفظ حقوق الأقليات، وأقصد الأقليات السياسية وليس بالضرورة الأقليات العددية العرقية أو الدينية.. هم يقولون نحن أكثرية وبالتالي نحكم، والديمقراطية هي حكم الأكثرية وهذا يجانب الصواب. الديمقراطية هي حكم الأكثرية مع حفظ حقوق الأقليات وإلا فإن البلاد ستواجه الانقسام والحرب الأهلية والخراب.. هذه المسألة يجب أن يتعلمها العقل العربي، بأن يقبل بالآخر ويقبل بوصول الأقلية نفسها إذا ما رتبت تحالفاتها لتصبح أكثرية دون أن تمارس الإقصاء أو تنتقم من الأكثرية بعد وصولها إلي السلطة.
يخطئ من تأخذه الحمية ويندفع رداً على تنامي التطرف والنزاعات الطائفية والمذهبية إلى استبدال العلمانية بالدين ويعتبرها خياراً أيديولوجياً خلاصياً، ويرفض فهمها كمبدأ مؤسس وناظم لسلوك الأفراد والجماعات في الواقع الحي بعيداً من التقليد الأعمى لما حصل في الغرب.
فلا يمكن لأي ديمقراطيه حقيقيه أن تتحقق بدون العلمانية ... ثمة تكامل بين العلمانية وما تفرضه من التزامات وتفسير للحياة والثقافة والسياسة وبين الديموقراطية، فبناء النظام العلماني لا يستقر بغير التوافق والاحتكام لقواعد الديموقراطية، فهذه عناصر مترابطة في سياق بناء مجتمع المواطنة والدولة المدنية الحديثة.
الديمقراطية لا تتحقق بلمسه سحريه أو بقرار دولي أممي أو مرسوم جمهوري، لأنها بحاجة لأرض علّمانية، وهذا غير متوفر حاليا للأسف، فكما أن أهل مكة أدرى بشعابها، فأهل جبله أدرى بشعيبياتها.
الديمقراطية لا يجب أن تنتهي بأبو غريب و حديثه و فقدان الآمان أو أطنان من اليورانيوم المخصب أو المنضب...ألخ
المصادر:
أكرم البني: عن العلمانية والديموقراطية والإصلاح الديني في مجتمعاتنا.
نادر قريط: حول الدين والدنيا (العلمانية).
صادق جلال العظم: تأسيس أحزاب علي أساس ديني أو طائفي لا يقل خطورة عن العودة إلي النازية.
أدونيس:الاختيار والقرار.
إضافة تعليق جديد