في انتظار أسرار سالنجر

09-02-2010

في انتظار أسرار سالنجر

لم تمضِ بعد سوى عدة أيام على وفاة أكثر كتاب أميركا (وربما العالم) غموضا وابتعادا عن الحياة العامة، حتى بدأت التكهنات والأقاويل بالاتساع حول وجود مخطوطات عدة، تركها ج. د. سالنجر وراءه، في خزنة حديدية مقفلة بإحكام. هذا ما تبدأ به صحيفة «لوفيغارو» الفرنسية، في مقالة لها كتبتها من نيويورك مراسلة الصحيفة «أديل سميث، يوم 5 من الشهر الحالي. حول هذه القضية هذه المقالة المعدة من عدد من الصحف التي تحدثت عن هذا الأمر.
لا بد أن يشعر سالنجر، حتى وهو في عليائه، بالكثير من «الفخر» بسبب «استقامة» عائلته وأصدقائه وجيرانه، إذ رفضوا كلهم الحديث عن حياة الكاتب المنزوي، الأشبه بناسك، في «كورنيش» في نيو هامشاير منذ 45 سنة. وإن دلّ الأمر على شيء، فهو يدل على أننا لن نعرف ـ على الأقل في الوقت القريب – مصير الأعمال والمخطوطات غير المنشورة التي تركها الكاتب وراءه في هذه «الخزنة» المحصنة. فالكاتب الذي غيبه الموت منذ أكثر من أسبوع تقريبا، عن عمر 91 سنة، كان قد هرب منذ الستينيات من الشهرة لينزوي في هذه المدينة الصغيرة الواقعة في نيو إنغلند، بعد النجاح الساحق الذي عرفته روايته «الحارس في حقل الشوفان» (لها ترجمة جميلة بالعربية قام بها الروائي الكبير الراحل غالب هلسا) حين صدورها في العام 1951. وبالرغم من ذلك كله، تبدو كل المؤشرات أن الكاتب لم يتوقف يوما عن الكتابة. حتى وإن كانت القضية لغاية هذه اللحظة لا تزال يلفها الغموض والتكهنات.
ووفقا لتعليماته، لم تدع أرملة الكاتب، كولين، إلى إقامة قداس وصلاة عن روحه وذكراه حسب ما تقتضي العادة. كل ما فعلته، شكر سكان كورنيش على تكتمهم طيلة هذه الفترة. من جهتها، لم تبح ابنته مارغريت بأي كلمة، بعد رحيل والدها، مع العلم أنها كانت منذ سنوات، نشرت كتابا بعنوان «القبض على سالنجر» وهو أشبه بسيرة ما، مليئة بالتملق والمداهنة، إذ تحدثت فيه عن عادات والدها وسلوكه اليومي في الكتابة (من هنا هذه المعلومة حول أنه لم يتوقف عن الكتابة طيلة حياته). كذلك كان الأمر بالنسبة إلى ماثيو، ابن الكاتب، وإلى جويس ماينارد، صديقة سالنجر التي ارتبط معها بعلاقة عاطفية، أي لم يصرحا لغاية الآن بأي شيء. مع العلم أن ماينارد كانت نشرت العام 1998 في كتاب لها، معلومة تفيد بأن هناك مخطوطتي كتابين يعودان إلى الفترة التي كانت فيها على علاقة مع الكاتب الراحل، أي قبل 25 سنة. الأمر عينه نجده مع فيليس ويتسبرغ، وكيلة سالنجر الأدبية، إذ وعلى الرغم من «محبتها للكلام» إلا أنها لم تتوقف عن الترداد في الأيام الأخيرة بأنها لن تجيب على أسئلة الصحافيين.
وإذا كانت الأنباء عن مخطوطات محتملة غير مؤكدة لغاية الآن، إلا أن ثمة ألسنا بدأت بالحديث عن الكاتب وبخاصة من جانب سكان «كورنيش». هي خبريات وحكايات صغيرة عن عادات الكاتب، كما عن طقسه الشهري في التردد إلى كنيسة المدينة. وتحدث السكان بدورهم عن هذه الرغبة الكبيرة، أو هذا الهوس الذي كان يعرفه الكاتب في حماية حياته الخاصة، ليشتركوا معه أحيانا، في هذه اللعبة، إذ كانوا يرسلون الصحافيين والفضوليين الراغبين بالتجسس على حياة سالنجر إلى عناوين خاطئة وهمية، أي لم يعترفوا في أي يوم أنه كان يعيش بينهم. أما صاحب المقهى المفضل عند سالنجر، والذي كان يتردد إليه، فقد صرح بالقول: «عندما تشاهدونه، تعرفون أنه لم يكن بالإمكان توجيه الحديث إليه، لم يكن من النوع الذي يحب الكلام».
من جهة أخرى، تؤكد ليليان روس، الصحافية والكاتبة وصديقة سالنجر منذ فترة طويلة جدا، في مقالة نشرتها مؤخرا في مجلة «النيويوركر» بأن سالنجر استمر في الكتابة على الرغم من الرعب الذي كان يحس به من جراء الانزياحات التجارية التي اجتاحت العالم الأدبي. وتشير روس إلى أن الكاتب الراحل كان يخصص، من أجل الكتابة، ساعات «طويلة» و«محمومة» حتى أنه فكر ذات مرة ببيع حقوق قصته «اليوم المرتجى لسمك الموز» لبريجيت باردو (هناك ترجمة لهذه القصة بالعربية، مع أقاصيص أخرى، صدرت في كتاب عن دار الفارابي في بيروت، ونقلها الشاعر اللبناني الراحل بسام حجار).
لكن وبعيدا عن كل هذه الأقاويل، ثمة سؤال أساسي يهم القارئ: هل سنتمكن يوما من قراءة نصوص جديدة لسالنجر؟ الناشرون في أميركا، كلهم أمل – بل إنهم على اقتناع تام – في أن يجدوا هذه المخطوطات وفي أن يحصلوا على حقوق نشرها من الورثة. لكن من هم الورثة؟ لغاية الآن لا أحد يعرف اسم الوصي على وصيته، إذ يشكل الأمر أيضا إحدى «دعابات» سالنجر الذي لم يعلن عن اسمه ولا في أي يوم. وخلال ذلك، ثمة إشاعات تفيد بأن الكاتب كان تمنى قبل موته أن تنشر أعماله من دون أي تغيير، وكما هي عليه، بعد موته. هل يمكن تصور هذا الأمر وبخاصة أن كاتبها فعل كل شيء طيلة حياته من أجل أن لا تنشر كتبه؟ ثمة شيء محير في ذلك كله. أضف إلى ذلك كله، نرى أن روجير لاتبوري، المسؤول عن دار نشر صغيرة في فيرجينيا، يتملكه الشك في جودة النصوص التي تركها سالنجر. إذ كما هو معروف كان لاتبوري قد حصل على موافقة سالنجر في التسعينيات على نشر قصته الأخيرة التي صدرت في «النيويوركر» (عام 1965) ضمن كتاب، قبل أن يفقد المخطوط، وكان من المفترض أن تصدر مع أقاصيص أخرى يصفها لاتبوري بالقول: «قرأت العديد من قصصه، البعض منها جيد، والبعض الآخر، سيئ للغاية».
بورتريه
وبعيدا عن قضية المخطوطات، ثمة قصة أخرى تكشفت بعد موت سالنجر. يعرف الجميع أن ثمة صورة واحدة لسالنجر، عرفت عنه خلال حياته، وهي الصورة التي تناقلتها وكالات الإعلام بعد موته. إلا أن ثمة سلسلة من الصور، انبثقت فجأة في ستديو «غيتي»، يظهر فيها الكاتب في عدد من الأوضاع المختلفة: وهو يدخن أو في وقفة تشبه ممثلي هوليوود، الخ...
هذه الصور لا تعود إلى فترة قريبة، بل كان التقطها المصور أنطوني دي جيزو يوم 20 تشرين الثاني من عام 1952، في واشنطن، في محترفه الخاص، إذ وصف تلك الفترة، في مذكراته التي لم ينشرها، بالقول: «ذات يوم، دخل سالنجر علي طالبا أن التقط له بورتريها لأنه يرغب في إرساله إلى والدته وخطيبته... وبعد أن ضبطت الكاميرا والإضاءة أجلسته أمامي. كانت التجربة معه صعبة جدا لدرجة أنني لم أعرف كيف أتصرف معه». ويضيف المصور قائلا: «لو كنت أعرف أنه سيصبح شهيرا لكنت سجلت كل ما قمنا به، ولحاولت أن يكتب لي كلمة اهداء على نسخة من كتابه. لقد التقطت له 48 صورة، وفي مختلف الأوضاع... لكنني اليوم لا أذكر شيئا من ذلك كله..». وبعد موت المصور في كاليفورنيا العام 1993، أدارت أرملته وصيته، وكان بإمكانها أن تنشر الصور، لكنها احترمت رغبة الكاتب بالتخفي، قبل أن تموت بدورها، أما الصور فكانت موجودة في مؤسسة «الجمعية التاريخية» التي صرحت المسؤولة عنها كريس ترافيرس: «لقد انتظرنا موت سالنجر كي ننشر هذه الصور». لكن ليس هذا كل شيء، إذ ثمة صور خاصة تم نشرها، وقد أخذت من عند ليليان روس. صور عادية لحياة رجل تشير إلى هذه الحياة اليومية...

اسكندر حبش

المصدر: السفير

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...