في ذكرى الجلاء: هل نهبت فرنسا خيرات سوريا أم قدمت لها البنية التحتية من كهرباء وماء؟
قرأنا جميعاً في كتب تاريخنا أن الإنتداب الفرنسي كان يهدف لنهب خيرات بلدنا، ولكن للأسف لم نقم حتى الآن بتقديم دراسة اقتصادية جدية توضح آلية هذا النهب.
ويقول رأي اخر أن الانتداب قدم لنا ولم يأخذ منا ولولاه لما حصلنا على الكهرباء والماء والخطوط الحديدية وغيرها.
ولحسم هذا الموضوع الذي يحتاج الى مزيد من الدراسات الإقتصادية الموثقة، لا يوجد لدينا إلا تقرير أكاديمي توثيقي بحت قامت به لجنة مكلفة من الحكومة السورية التي قررت في جلسة 28 أيار 1949م بالقرار رقم 187 تدقيق كامل حسابات شركة كهرباء حلب EDAP التي كان مقر إدارتها في باريس والتي زودت حلب بالكهرباء والماء وخطوط الترامواي لأول مرة في تاريخها.
عينت الحكومة لجنة للقيام بهذا العمل مؤلفة من القاضي فؤاد جبارة مستشار محكمة التمييز رئيساً وعوض بركات رئيس الدروس المالية عضواً ونعوم شاشاتي المدير الأول السابق لمصرف سوريا ولبنان عضواً، ثم أضيف العضو جيرار بوياجبان إلى اللجنة.
وأصدرت اللجنة تقريراً موسعاً مؤلفاً من حوالي مائة وخمس وستين صفحة مرفقاً بجداول حسابات مالية، وملخص هذا التقرير يوضح عملية النهب المنظمة بدقة لخيرات حلب وإعاقة تنمية المدينة بسبب نهب مواردها.
وسنقتطف من التقرير الطويل ما يمكن تلخيصه بما يلي:
ترجع إتفاقية تزويد حلب بالكهرباء إلى عام 1924م وهذه الاتفاقية تشتمل على ثلاثة امتيازات وهي الكهرباء والحافلات والماء.
وفي عام 1923م أصدر حاكم دولة حلب قراراً بتشكيل لجنة لوضع دفتر شروط لمنح امتياز احتكاري لشركة واحدة فقط لتزويد حلب بالكهرباء والحافلات والماء.
وتقدمت أربعة بيوت مالية أجنبية وسورية بطلب الإمتياز, ولكن الإمتياز مُنح بتوصية من المفوض السامي الفرنسي في 8 أيلول 1924 لمجموعة مالية مؤلفة من المصرف العقاري الجزائري التونسي وشركة الاستثمارات الكهربائية والصناعية (ليز كسيل) الفرنسية وشركتين بلجيكيتين.
ورغم أن عروض هذه المجموعة المالية لم تكن أفضل من سواها ورغم إحتجاج طالبي الإمتياز الآخرين وشكاويهم، تم منح التوصية الامتياز بالتوصية من المفوض السامي.
وسرعان ما تنازلت هذه المجموعة المالية عن امتيازها لشركة تم تأسيسها بإسم شركة كهرباء حلب EDAP عام 1930، وهي شركة مساهمة رأسمالها ثلاثة ملايين فرنك فرنسي ومركزها الرئيسي يقع في باريس في مقر شركة (ليز كسيل) الفرنسية نفسه، أي أن التنازل صوري وهو مجرد تبديل للأسماء.
وتعداد محيط سكان حلب كان آنذاك حوالى 300 الف نسمة عدد المشتركين بالخدمة الكهربائية كان 1739 مشترك عام 1929 م.
وتنص المادة السابعة من صك الإمتياز على أن تتشارك بلدية حلب مع شركة كهرباء حلب وتتقاسم معها الأرباح والخسائر، على أن تقدم البلدية مجاناً طوال مدة الإمتياز الأراضي التي ستشيد عليها شركة الكهرباء الأبنية اللازمة للإستثمار.
وفعلياً سلمت البلدية للشركة الأراضي التي استملكتها من أراضي وقف العثمانية ذوات المحاضر أرقام 82-83-91 من المنطقة العقارية الثانية في حلب وهي مقر شركة الكهرباء حالياً، فشيدت عليها بناء الإدارة وبناء مركز توليد الكهرباء والمخازن ومستودعات الحافلات.
واشترطت الاتفاقية على أنه يجب أن يُطرح للإكتتاب في الأسواق السورية خمس وأربعون بالمئة من أسهم شركة كهرباء حلب المساهمة ليتسنى للسوريين الإشتراك في ملكية الشركة.
ولكن يظهر من مراجعة جدول المساهمين أنه لم يتم الإعلان في سوريا عن طرح أسهم الشركة للاكتتاب العام وأن المساهمين السوريين لا تكاد تبلغ نسبتهم العشرة بالمائة.
وذكر تقرير اللجنة التي قامت بتدقيق الحسابات أن دفاتر محاسبة الشركة هي من النوع ذي الصفحات السائبة التي يمكن إخراجها وإعادتها في كل وقت, ولا تضمها إلا حلقات تفتح بواسطة قفل حديدي في قاعدة الدفتر.
ولهذا السبب يمكن أن يقال إن دفاتر الشركة لا تتوافر فيها الضمانة القانونية ولا يصح الوثوق بها ثقة تامة, وأن الشركة لا تمسك دفتر اليومية على الأصول.
وكانت شركة كهرباء حلب تنكر على شريكتها بلدية حلب حقها بمراقبة الحسابات وترفض إطلاع مفوض المجلس البلدي عليها حتى عام 1938م.
ولاحظت اللجنة أيضاً أن مدقق حسابات الشركة في عام 1945م الذي يجب عليه قانوناً أن يكون حيادياً ويقوم بتدقيق أعمال محاسبي الشركة هو فعلياً من موظفي الشركة ويتقاضى رواتبه منها، ويذكر أيضاً أن ميزانية الشركة المعلنة تشير لغاية عام 1943 إلى أن الشركة خاسرة وتعاني عجزاً مستمراً.
وتغطية هذا العجز المالي كانت تقع على عاتق خزانة بلدية حلب التي كانت تدفع للشركة حوالى ثلث موازنتها العامة، مما أوقع شللاً في نشاطها وسبب تأخر العمران في مدينة حلب وفقدان خدمات عامة كان بوسع البلدية أن تقدمها لولا هذا الكابوس الجاثم على كاهلها.
وفي عام 1936م ألف المجلس البلدي لجنة لتدقيق موازنة بلدية حلب التقديرية وأعطت تقريراً في جلسة 23 كانون الثاني 1936م خلاصته “إن لجنة بلدية حلب تشعر بالإحتياج الشديد لتصليح وتعمير الطرقات داخل المدينة وإنشاء كهريز عام ولكنها غير قادرة على ذلك بسبب أخذ أهم واردات المدينة لتسديد عجز شركة كهرباء حلب”.
والخلاصة أن البلدية تعتبر شريكة للشركة صاحبة الامتياز, ويجب أن تُقاسم الشركة الأرباح ولكن فعلياً هي وحدها التي تتحمل الخسائر الافتراضية ولا تتقاضى أية أرباح.
والمشكلة الكبرى أن اللجنة توصلت لنتيجة مفادها أنه بعد تدقيق النتائج المالية بالنسبة للشركة يتبين أن المعدل الوسطي للربح الذي جناه رأس المال للشركة يبلغ إثنان وعشرون ونصفاً بالمائة من رأس المال، أي أن الشركة كانت تربح ولا تعاني عجزاً أو خسارة ومع ذلك كانت تُلزم البلدية بدفع مبالغ كبيرة بحجة أنها تدفع حصتها من الخسائر.
ولاحظ تقرير اللجنة أيضاً حالات فساد ضخمة في لجنة مشتريات المواد الأولية للشركةـ وزيادات كبيرة وهمية في الأسعار تشير إلى عمولات ضخمة كان يتلقاها موظفو الشركة.
وأوردت في تقريرها عدة أمثلة عملية على ذلك، منها صفقة عقدتها الشركة مع صاحب مصنع حلبي لشراء قطع لوصل انابيب المياه بسعر القطعة 25 ليرة سورية وعندما راجعت اللجنة صاحب المصنع صرح بأنه باع القطعة للشركة بـ 22 ليرة وأنه الآن مستعد لبيعه بـ 12 ليرة سورية.
كما لاحظت اللجنة أن واردات الشركة كانت تحول يوماً بيوم من حلب إلى باريس وتوضع في حساب شركة ليز كسيل في حساب جار، ولاحظت أن الشركة كانت تبتاع من السوق السورية كميات كبيرة من الذهب تبلغ عشرات الألوف من الليرات الذهبية وتبين أنها تودع في حساب أموال الشركة الخاصة في بيروت حيث لا يمكن التثبت من مصيرها.
وبذلك نكون أوردنا بعجالة وبتلخيص شديد مضمون التقرير الذي يستحق المزيد من البحث والتمحيص.
ومن الجدير بالذكر أنه على الرغم من صدور هذا التقرير وتوضيح مدى النهب المنظم الذي مارسته هذه الشركة الفرنسية، فتم الإتفاق في بداية عام 1951 بعدما صدر عن الدولة السورية مرسوم تأميم هذه الشركة على أن تدفع الحكومة السورية لشركة الكهرباء الفرنسية عن منشأتها التي تم تأميمها تعويضاً قدره حوالى سبعة ملايين ليرة سورية وهذا الرقم يظهر أرباحاً خيالية تتعدى بست عشرة مرة رأسمال الشركة !!
المحامي علاء السيد
المصدر: الخبر
إضافة تعليق جديد