في ذكرى مجازر الأرمن... إسرائيل وتركيا والصورة الجامعة في القتل
«سأفني الأرمن بالحديد والنار، وأفني العرب بالتجويع»، هذا ما قاله جمال باشا السفاح قبل أن تعتقل السلطات العثمانية – الاتحادية مساء الرابع والعشرين من نيسان عام 1915 المئات من المثقفين الأرمن، من كُتّاب وشعراء ومحرري جرائد ومحامين وبرلمانيين، واقتيدوا بعيداً عن منازلهم وقُتلوا. كذلك فإن ذلك التعبير كان سابقاً أيضاً على أحداث الإعدام المعروفة في أيار عام 1916 لعدد من المناضلين العرب في سوريا ولبنان.
بين نيسان الأرمني، وأيار العربي، ثمة مقاربات تفرض نفسها بعفوية من دون الإفراط في تشبيكات تاريخية وأنثروبولوجية عميقة أكثر. الصورة وحدها هنا تكفي لنسج علاقات بين الأرمن والفلسطينيين من جهة، والأتراك والإسرائيليين من جهة ثانية، وبعد ذلك تصبح الاكتشافات البحثية للأصول التركية (الخزر) لليهود الغزاة في فلسطين مجرد تعليق وليس حجة!
أسبوعان بين تاريخ مذبحتين بحق الأرمن والعرب ارتكبها الترك، عقدان بين مجازر السلطان عبد الحميد في حق الأرمن عام 1894، ومذابح الاتحاديين في حقهم عام 1914. تماماً كما يفصل عقدان بين حربين إسرائيليتين على الفلسطينيين لتهجيرهم من أرضهم. في كلتا الحالتين تشكّلت القوة الغازية من مجموعات لا تمثّل مكوناً أصيلاً في مجتمع الشرق، وتستكمل مهمات «زيارتها» بثنائية الاحتلال والإحلال.بعد الرابع والعشرين من نيسان، أبرقت السلطات الاتحادية - العثمانية أوامرها المكررة: «اذبحوا الأرمن»، وبعد اعتقال النخبة وإعدامها، ومحاولات تجريد الأرمن من سلاحهم، تصدح مكبرات الصوت: «غادروا أرضكم واتركوا منازلكم»، وكأن مكبرات الصوت تستعار بعد ثلاثين عاماً، من قبل الهاغانا والوكالة واليهودية التي جاء بها السلطان العثماني نفسه «عدنا إلى أرض الميعاد، فاخرجوا منها».
يسير المنفيون سيراً على الأقدام، تهلك القوافل تحت هجمات العصابات التركية والكردية، نهر من البشر يخترق الصحراء، فيغدو مسيلاً ضعيفاً، فالنفي لم يكن إلا شهادة موت أخرى وجولة ثانية من الإبادة. هنالك في نهر دجلة في ديار بكر، وهناك في البحر الأسود تطفو على السطح الجثث. تُفرغ عمليات التهجير الأراضي من أهلها، ومع كل محاولات محو التاريخ، يبقى أثر أرمني تحت كل حجر في ديار بكر، تماماً كما تنتفي أي مروية توراتية تحت أحجار القدس، حجراً حجراً.
هكذا اعتقد الترك؛ موجة من الترحيل بالوحشية والذبح، موجة تتبع بتهجير اعتبروه أكثر تنظيماً ورحمة، ونتيجة كل ذلك محاولات محو آثار الأرمن بأحجارهم ونقوشهم وكنائسهم، وهكذا اعتقد الصهاينة، موجة من الترحيل تحت إرهاب السلاح، وموجة من الترحيل أو إعادة التكوين؛ تحت عناوين الوطن البديل أو صفقة القرن، وأن تكون نتيجة ذلك اختفاء الأثر الفلسطيني.
ما يجمع بين الأتراك والإسرائيليين، هو محاولة ينفذها غرباء لتغيير ملامح إثنوغرافية أصيلة لمكان ما، ويشمل ذلك أيضاً العمل على تغيير أسماء الأماكن والأشخاص؛ أن يتحول جزء من يافا إلى تل أبيب، تماماً كما تتحول كارين إلى أرضروم، وتماماً كما يتحول موسى إلى موشيه، يتحول هاروتيون هاكوبيان إلى يعقوب أوغلو.
خطان متوازيان من الزمن، داخل واحد منهما يتحرك الفلسطينيون والأرمن بملامح قصة واحدة، ودروس مشتركة، وخط ثانٍ، تفوح منه رائحة الدم، يسير فيه الترك والإسرائيليون جنباً إلى جنب.
قبل مذابح الأرمن عام 1915 وبعدها، ثمة مناورات قانونية خاضها الأرمن؛ من معاهدة سان استيفانو إلى برلين إلى سيفر إلى لوزان، ولم يفلح الأرمن خلالها في شيء، ولم يحمِ الأرمن من الاندثار الكلي إلا المقاومة الأرمنية التي اشتعلت في خضمّ الحرب العالمية الأولى ودافعت عن وجودها. قبل احتلال 1948 وبعده، لم تقدم قرارات الشرعية الدولية شيئاً للفلسطينيين، لم يحمِ الوجود الفلسطيني شيئاً إلا المقاومة على الأرض، ومقاومة المحيط التي تحولت لاحقاً إلى محور، ودول، وتنظيمات متمرسة.
خلال العهد العثماني، وعلى مدار عقود، حاول الباب العالي نقل المرجعية الدينية الأرمنية من إيتشميازدين إلى الأستانة في إسطنبول، ولم يكن ذلك يعني إلا محاولة صياغة دين أرمني بقالب عثماني، بمعنى آخر إصدار نسخة للدين غير المقاوِم. تماماً كما يحاول الإسرائيليون اليوم تشكيل «إسلام توراتي» متوافق مع الأهداف السياسية الإسرائيلية في المنطقة، أي تشكيل دين تابع، بمعنى آخر.
كلما كانت مطالب الأرمن تحرج العثمانيين، كانوا يضربون «ساسون»، معقل المقاومة الأرمنية التي لا تهدأ ولا تستكين، فتقاوم، فتعلن السلطات العثمانية شنّ حملة أوسع لمحاربة التمرد والإرهاب القادم من «ساسون»، وكأن المنطق الإسرائيلي في حروبه المتكررة على غزة ليست إلا نسخة عثمانية مكررة!من الطبيعي أن يخفي الترك والإسرائيليون صورة تجمع بينهما في القتل والتشريد وتغيير ملامح المكان، ولكن من حق الأرمن والعرب أيضاً أن يجربوا المقاومة معاً، أن يتشاركوا حكاياتهم الخاصة حولها ــ ولو بالصدفة ــ فمن صورة شافارس في زيّه العسكري إلى جانب الجيش العربي السوري خلال حرب 1967، إلى صور الشهيد كوليزيان في انتفاضة فلسطين الأولى، إلى أحلام عودة تراود أرمنياً وفلسطينياً في ذات الليلة، أحلام العودة إلى القدس وعكا، أو العودة إلى جبل أرارات وهورسيد آبات «طرابزون».
ذُبح الأرمن قبل 24 نيسان وبعده، قُتل الفلسطينيون قبل 1948 وبعدها؛ ولكن الأهم أن ثمة حقوقاً للأرمن والعرب لم تستجلب بعد، وثمة مقاومة أشعلها كل منهما ضد الترك والإسرائيليين.
محمد فرج - الأخبار
إضافة تعليق جديد