قافلة شريان الحياة وسيادة مصر: دراما الخط الأحمر!
ليست هي المرة الأولى، التي تتلكأ فيها السلطات المصرية، في السماح للقوافل أو الأفراد في العبور عبر أراضيها إلى غزة من أجل التضامن معها، أو تقديم مساعدات رمزية لأبنائها المحاصرين بالاحتلال والحواجز ومعابر التخاذل.. وقريباً بالحواجز والجدران الفولاذية المباركة (نسبة إلى عهد الرئيس مبارك وليس إلى بركة دعاء الوالدين أو توفيق الله سبحانه وتعالى بالتأكيد).
ورغم أنها ليست المرة الأولى التي تعمد فيها السلطات المصرية لمثل هذا التلكؤ الموجع الذي غالبا ما يتحول إلى منع سافر... فقد وصف أحمد المسلماني في برنامجه (الطبعة الأولى) على قناة (دريم) المصرية، أداء قناة (الجزيرة) في قضية قافلة 'شريان الحياة 'التي يقودها النائب البريطاني جورج غالاوي، والتي منعت مصر عبورها إلى غزة أخيراً، بأنها (هبلة ومسكوها طبلة) واعتبر السيد المسلماني أن غالاوي... لم يكن يهدف من كل هذه القافلة أو الرحلة سوى أن (يقرف مصر) و(يهين سياسة مصر) ويسيء لـ(سيادة مصر)... لأنه سبق وقدم طلباً للسلطات المصرية ومنحوه موافقة... لكن مشكلة غالاوي كما وصفها الزميل مسلماني أنه (كل مرة عاوز يخش مصر من منفذ حدودي على هواه وفاكرها سايبة)!
ولم يتوقف الزميل مسلماني عند وضع الحق كله على مزاجية السيد غالاوي الذي يهوى الظهور في الفضائيات (عشان يشتم مصر) بل ذكره بأن أجداده البريطانيين هم الذين أعطوا الصهاينة وعد بلفور، وخلقوا لنا هذه المصيبة التي اسمها (إسرائيل) في المنطقة... فكيف يمكن أن يصبح هذا البريطاني هو من يخرق الحصار... وكيف يبدو أمام العالم مع اثنين من الحاخامات اليهود اللذين يصطحبهما معه في قافلة (شريان الحياة) هو من يمارس هذه الإنسانية والإغاثة.. مع أن كثيرا من المصريين ومنهم برنامج (الطبعة الأولى) نفسه، جمعوا تبرعات وقاموا بزيارات، ولم يبرز الإعلام العربي حجم هذا النشاط الإنساني المصري النبيل!
وقد تابعت بعد أن أنهى الزميل المسلماني مرافعته الوطنية المدججة بحجج التاريخ والجغرافيا والسيادة ضد جورج غالاوي الذي يريد ـ يا للفظاعة - أن يجعل من أرض مصر العظيمة معبراً مفتوحاً للأمل أمام غزة المحاصرة، تابعت تغطية قناة (الجزيرة) لأخبار قافلة (شريان الحياة) ولم أستطع أن أفهم كيف أن (الجزيرة) كانت في تغطية هذا الحدث (هبلة ومسكوها طبلة) وهي تقدم في نشراتها ومتابعاتها الإخبارية تصريحات المسؤولين المصريين الذين يقولون فيها ـ بالصوت والصورة - حججهم اللذيذة حول السيادة والريادة، التي ستخرقها قافلة مساعدات، وضعوا لها أحد عشر بنداً كي يتم السماح لها بالعبور... أو وهي تقدم لنا وصفاً لمسار القافلة أو (لتعثر مسارها) عبر مراسليها في أماكن مرور القافلة، قبل أن تحشر بانتظار تنفيذ قرار مصر السيادي في العقبة... ثم تعود إلى ميناء اللاذقية السوري براً... لتنطلق منه مجدداً في رحلة بحرية طويلة كي تدخل ميناء العريش؟!
أين هو التهويل الإعلامي بالله عليكم... ما دام كل ما تعرضه (الجزيرة) هو أخبار المنع المصري، وتصريحات المسؤولين المصريين، واشتراطات السيادة المصرية... وما دام ما يقدمه الإعلام المصري بالمقابل - مرافعات الردح الإعلامي والتشخيص الكاريكاتوري الساذج لنوايا القائمين على الرحلة، التي صرنا نظن من كثرة ما بالغ الإعلام المصري في التصدي لها، أنها موجهة لإغاظة مصر والنيل منها أكثر من إسرائيل نفسها!
من المؤسف أن ينشغل الإعلام المصري بالتصدي لقافلة مساعدات إنسانية... ومن المؤسف أكثر أن تختزل سيادة مصر، في تحديد منفذ حدودي... سواء أكان ميناء النويبع أم ميناء العريش... فكلها أرض مصرية.. وهي تتشرف بمرور قافلة مساعدات إنسانية لإخوة محاصرين باحتلال بشع، مثلما تشرفت بها اللاذقية في سورية أو العقبة في الأردن... ومن الواضح أن القضية في جوهرها ليست قضية سيادة أو أمن أو سواه... لكنها مجرد سعي لا يفتر من النظام المصري، كي يؤكد حسن سلوكه في إحكام الحصار أمام إسرائيل... وهي من جهة أخرى - محاولة لقطع أنفاس القافلة، واستنفاد قدرتها على المتابعة... وتضييع وقتها كي تصل إلى غزة في النهاية منهكة... فتصبح مسيرتها الشاقة، وقطعها آلاف الأميال في مسار تعجيزي بلا طائل، عبرة لمن يفكر في تنظيم قوافل أخرى... ومن يظن - لعن الله ظن السوء - أن مصر (سائبة) لا سمح الله!
وأياً كان الهدف أو النوايا... فما يحدث لا يمثل مصر... ولا وجدان مصر... والشعب المصري الأصيل... الذي يبقى مثل كثير من الشعوب العربية - بريئاً من قرارات حكامه، ومن خذلان أنظمته في كثير من المواقف الإنسانية التي تحتاجها غزة المحاصرة... ولا نقول القومية ما دام هذا التعبير أصبح اليوم اتهاماً وليس واجباً أو انتماء!
حصاد (الاتجاه المعاكس): الصراخ من أجل البقاء!
ذكرتني حلقة برنامج (الاتجاه المعاكس) التي تعرض أهم اللقطات أو أسخن المقاطع التي شهدتها حلقات البرنامج خلال عام 2009، بعبارة ترويجية شهيرة، كانت تتصدر العروض المسرحية الكوميدية: (ساعتان من الضحك المتواصل).
وإذا كان ثمة من يحب أن يضحك على هذا الردح والصراخ العبثي، فسيجد في حلقة حصاد (الاتجاه المعاكس) بالتأكيد ساعة من الضحك المتواصل، في زمن كئيب يعز فيه الضحك.
لقد كرس برنامج (الاتجاه المعاكس) وخصوصاً في السنوات الأخيرة التي ترهلت خلالها أفكاره، وبهتت معالجاته، وصارت لعبته المعادة المكررة مألوفة إلى حد الرتابة... كرس صيغة للاختلاف تقوم على الصراخ الفارغ ليس من أجل قبول الرأي الآخر ولا رفضه... بل من أجل تسفيه الموضوع وتحويله إلى (طبق سلطة)...
وقد تحولت حالة الصراخ والشتائم فيه، إلى 'إيفيهات' كوميدية شبيهة بتلك التي نراها في الأفلام الكوميدية المصرية التي وجدت في شجارات نساء الطبقة السفلى، وبلطجية العشوائيات، مادة ليس للكشف الاجتماعي، بل للإثارة واستثمار البذاءة الهجائية الطريفة...
وإذا كان (الاتجاه المعاكس) ما زال يجذب من يكتب عنه، فلأنه يبث على قناة مشاهدة هي (الجزيرة) ولأنه يمثل حالة يائسة للبقاء على قيد الحياة، تستحق أن تذهب مثلاً سائراً في الإعلام العربي المعاصر... لكن حقيقة الأمر أن برنامج الصراخ من أجل تسطيح الاختلاف... وبرنامج الإثارة من أجل تسفيه الجدل الموضوعي المثمر... يستحق حلقة أخيرة ختامية لا تقدم فيها مقاطع من أسخن اللقطات، ولا يكون نجومها الأعلى صوتاً والأمهر فجوراً... بل يكون محورها أنصار البرنامج من المؤمنين بأنه ما زال يؤدي دوراً في إعلام التنوع والاختلاف وأصالة الأفكار... والمشفقين عليه وعلى معده ومقدمه لأسباب إعلامية أكثر منها إنسانية!
(الجزيرة) وإسرائيل!
الخبر الذي تبثه قناة (الجزيرة) على شريطها الإخباري منذ أكثر من أسبوعين، من أن إسرائيل ما تزال تمنع الأسرى الفلسطينيين في سجونها من مشاهدة بث قناة (الجزيرة) منذ أكثر من عام.. يمثل أفضل دعاية للسجون الإسرائيلية بحق!
فإذا كان عيب هذه السجون هو فقط منع السجناء من مشاهدة بث قناة (الجزيرة) كما يوحي هذا الخبر المترف - فما الذي يقال عن السجون العربية التي تمنع عن سجنائها (المعارضين السياسيين خصوصاً) أبسط احتياجات البشرية!
محمد منصور
المصدر: القدس العربي
إضافة تعليق جديد