كوميداس.. الموسيقي الأرمني ضحية الإبادة الجماعية
مشانق لعشرين عضواً من حزب «الهنشاك الديموقراطي الأرمني»، قطع رؤوس لفدائيين؛ جنود أتراك يتفرجون على رؤوس قطعوها للتوّ لصحافيين وبرلمانيين وكتّاب وموسيقيين؛ أساتذة جامعة وحقوقيين وشعراء. جميع هؤلاء قضوا حرقاً أو رجماً أو شنقاً. تخبرك عشرات الصور الضوئية في بهو دار الأوبرا السورية عن ضحايا 24 نيسان من العام 1915؛ حيث كان هذا اليوم موعداً لقيام السلطنة العثمانية بتصفية وحشية لنخبة الشعب الأرمني. فوتوغرافيا المجازر التي ارتكبها العثمانيون شملت أيضاً صوراً لشخصيات عالمية كان لها شهاداتها الدامغة على الإبادة الأرمنية من مثل السفير الأميركي آنذاك في السلطنة العثمانية هنري مورغانتاو (1913ـ 1916).
فيلمية صامتة بالأبيض والأسود لا تُظهر الدّم في الصور، لكنها كفيلة بأن تكون وثيقة عن فداحة الغرائزية التي وصل إليها الإنسان في مطلع القرن العشرين؛ وكإشارة قوية عن المجازر التي يشهدها مطلع القرن الحادي والعشرين. كأن القرون لا يمكن لها أن تفتتح مئويتها إلا بجزِّ الأعناق وبقر البطون والتمثيل بالجسد البشري. تأخذك الصور المتتالية إلى مجازر مختلفة من بقاع أرمينيا الغربية أو ضمن السلطنة العثمانية في مدن عنتاب وأورفا وغيرها؛ وما تلاها من موجات تهجير كبرى للشعب الأرمني من بلاده نحو مدينتي دير الزور السورية والموصل العراقية؛ هرباً من حفلات التعذيب والمقابر الجماعية التي أودت بقرابة مليون ونصف مليون أرمني.
كوميداس
تحضر أيضاً صور (كوميداس ـ 1869ـ 1935) المؤلف الموسيقي الأرمني الذي حمل لقب «الشهيد العبقري». عنوان الأمسية الموسيقية الغنائية التي تلت افتتاح معرض الصور الضوئية، والتي أحيتها أول أمس «الفرقة السيمفونية الوطنية السورية» على «مسرح الدراما» في دار «أوبرا دمشق»، مختارةً خلاصة حزن «الدودوك» في جبل «آرارات» بقيادة المايسترو «ميساك باغبودوريان». جاءت هذه الاحتفالية (رعاية مشتركة بين وزارة الثقافة السورية ـ هيئة إحياء الذكرى المئوية للإبادة الأرمنية) لتكون بمثابة وقوف على دماء عشرات آلاف الضحايا الذين جسّدهم «كوميداس» في مؤلفاته الشاحبة الحزينة؛ عاكسةً الحالة النفسية التي دخل فيها الموسيقار الأرمني بعد مشاهدته للمناظر المروعة التي حلّت بشعبه على يد آلة التعذيب العثمانية، فأدخلته في حالة نفسية معقّدة انتهت بموته كمداً على أبناء وطنه.
أصوات المغنين السوريين صدحت بألحان «الشهيد العبقري» مفتتحة برنامجها بمجموعة من التراتيل المأخوذة من «الليتورجيا الإلهية» لطقوس الكنسية الأرمنية؛ حيث قام «ليفون عابجيان» بأداء منفرد لترتيلتي «سر الأسرار» و «ارحم يا رب» بينما رددت جوقة «كورال الحجرة» تراتيل من قبيل: «المسيح ظهر في ما بيننا، قدوس قدوس، مبارك الله»، لتؤدي بعدها الفنانة لونا محمد أغاني ريفية بمرافقة الأوركسترا جاءت بعنوان: «أغنية المحراث» و «إنها تمطر» وفيها برزت قدرة المغنية السورية على التلوين في أداء الجمل الصوتية ذات الطابع الجنائزي الشرقي؛ متخذةَ من أسلوبية «القداس الأرمني» هويةً لأداء صوتي لافت.
«شجرة المشمش»، «امشي امشي» جاءتا بأداء منفرد للمغنية منار خويص التي برعت بدورها في الأداء من طبقتي التينور والسوبرانو؛ مستردةً عذوبة الموسيقى البيزنطية التي وضع لها «كوميداس فارتابيد مقطوعات عديدة أثناء سنوات عيشه في أوروبا بعد أن تحوّل من حياته كراهب إلى العمل كباحث في موسيقى الشعوب؛ استطاع بعدها أن يجمع أكثر من ثلاثة آلاف أغنية أرمنية، صاغها وقدّمها بشكلها النهائي، فكانت متناغمة من خلال الغناء المنفرد والجماعي ووفق تعدّد أصوات «هارموني» كتبها «كوميداس» على مبدأ الأجناس الرباعية.
أنطولوجيا الغناء هذه برع «الشهيد العبقري» في تحقيقها وتخليقها في قوالب إبداعية جديدة؛ قدّمتها فرقة السيمفونية السورية برشاقة دمجت بين جوقة الوتريات والنحاسيات؛ مستقيةً خلاصة الأنماط الشعبية الأرمنية بصوت مغنية السوبرانو غادة حرب التي أدت هي الأخرى بمرافقة الأوركسترا أغنيتي: «يانازان» و «الحجل»؛ فيما قامت مغنية الآلتو سوزان حداد بأداء أغنيات من مثل: «طولك فارع» و «الربيع» و «طائر الكركي»؛ تجلت عبرها حساسية الموسيقى الكلاسيكية الأرمنية وانتقالها من جملها الشعبية البسيطة إلى بناء ميلودية خاصة بمصير تلك البلاد الحزينة.
احتفالية «الشهيد العبقري» تضمنت أيضاً عرضاً لفيلمٍ وثائقي بالعنوان نفسه فكرة وإخراج «أرتو نجريان»؛ إذ قدم هذا الفيلم صوراً ومشاهد من حياة الموسيقي الأرمني الراحل؛ ترافقت بمقاطع بصوته؛ مركزاً على أن الإبادة لم تكن فقط للبشر والحجر، أكثر منها محاولة إبادة ثقافية لشعب؛ حيث جاءت جهود المؤلف الأرمني لتكون بمثابة تحدٍّ لهذا النوع الأخطر من أشكال الإبادات العرقية التي شاهدها «كوميداس» بأم العين، فأفقدته توازنه النفسي في آخر أيامه التي قضاها في مشافي باريس؛ قبل أن ينقل رفاته إلى «يريفان» ليرقد هناك في مدفن عظمائها: (البانتيون).
سامر محمد اسماعيل
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد