كيف فهمت السينما الإسلام والمسلمين؟

25-03-2010

كيف فهمت السينما الإسلام والمسلمين؟

في العام الأول من القرن الحادي والعشرين، أقدمت مجموعة إرهابية تحمل لواء الجهاد الإسلامي على توجيه طائرتين للإصطدام بمبنيين شاهقين في نيويورك، ما نتج منه انهيار المبنيين انهياراً كاملاً ومقتل نحو 3000 شخص عدا اولئك الذين تم إنقاذهم وهم مصابون بجروح نفسية او جسدية. مع أن نظرية انتشرت مفادها وجود جهاز آخر غير إسلامي هو الذي قام بهاتين العمليتين مستعيناً لتنفيذهما بمسلمين عمر المختار كما أدّاه أنطوني كوين..تشبّعوا روح الكراهية للغرب، الا أن ما ترسّخ في الفكر الجمعي للغربيين هو الرواية الرسمية  المزوّدة دلائل مبكرة على أن مسلمين متطرّفين هم من قام بها وخطط لها وموّلها، وهم مسلمون تابعون لمنظمة تؤمن بالجهاد المقدّس ضد العالم اسمها "القاعدة". على رغم أن تساؤلات عديدة دارت، منها كيف تسنّى لأولئك الإرهابيين التسلل الى اربع طائرات في ثلاث مطارات، مزوّدين متفجّرات، وكيف انهار المبنيان الصلبان عمودياً كما لو أن التفجير كان من الداخل، الى معضلات أخرى يصعب إغفالها، الا أن الراسخ أن "القاعدة" هي التي قامت كليّاً بهذه العملية وبالعمليّتين الإرهابيّتين الكبيرتين اللاحقتين في لندن ومدريد. بالنسبة الى المواطن جو (اسم خيالي متعارف عليه يمثّل الفرد العادي في أميركا والغرب)، فإن الإسلام كشف عن وجه عدائي يكنّه للمسيحيين واليهود، ولا يتوانى عن قتل مسلمين آخرين (انفجار الأردن الكبير الذي قضى نحبه فيه المخرج مصطفى العقاد)، ويجيز له قتل الآخرين من دون حسابات اخلاقية او اكتراث لمبادئ إنسانية وحقوق الآخرين، بحربة اعتناق الديانة او المعتقد الذي يفضّلونه. ولم يرد الإسلام المتطرّف تكذيب أي شكوك حول ايديولوجيته ومفاهيمه، فانبرى يهدد النظم الأوروبية والأميركية. وكما تذرّعت الولايات المتحدة بكارثة 2001 لتغزو العراق وأفغانستان، تذرّعت "القاعدة" بهذا الغزو لتحمل لواء الجهاد في هذين البلدين وسواهما، ما جعل المسألة برمّتها تبدو ضروباً من الأخطاء بدأت بتدمير برجي مبنى التجارة العالمي في نيويورك ولم تنته بعد. خلال تسع سنوات عانى المسلمون الأبرياء أكثر من سواهم من حرب الغرب على الإرهاب وحرب الإرهاب عليه.  طبعاً، هذه ليست أولى الحروب الدينية. هي كانت السبب الذي من أجله خسر عشرات ملايين الناس أرواحهم حول العالم منذ عشرات القرون. الحروب الصليبية خلال القرن الحادي عشر وما بعد، قد تكون زمن بداية العلاقة العدائية الأولى بين الإسلام والمسيحية، لكن الحروب المسيحية - المسيحية في فرنسا القرن السادس عشر ثم في ألمانيا واسكندينافيا في القرن السابع عشر، وتلك الحرب الطويلة التي شهدتها ايرلندا (بقسميها البريطاني والإيرلندي المستقلّ) هي بعض من الأمثلة زخر بها التاريخ، علاوة على حروب أهلية وقعت في الهند ولبنان والسودان واندونيسيا والصين في حقب مختلفة من التاريخ. الواضح أنه في كل مرّة يتم التعامل دينياً مع شؤون الحياة، وفي كل مرّة يتم مزج الدين بالسياسة واتخاذ المزيج صفة البديل الإيديولوجي لكل ما عداه، تقع البشرية تحت أعباء النتائج الدموية التي تحصدها، وتخلق مسافات ضوئية بين أصحاب الديانات السموية الواحدة في روحها الحقيقية، أنزلها الله على الإنسان في رسائل في حقب وعصور مختلفة لتهدي الناس وتجمع بينهم وتعزز فيهم الإرتقاء الروحي وحب المعرفة. أحد الإفرازات الطبيعية للحروب ما بعد الحادي عشر من أيلول 2001، هو تشبّع السينما، صورة ومضموناً، بالتطوّرات الإجتماعية والسياسية التي تلت تلك الكارثة، والتي شكّلت الذريعة الكبرى لغزو غربي لدولتين اسلاميّتين هما العراق وافغانستان، تبعاً لأجندة لا تقل شراسة عن أجندة "القاعدة"، فتحت المجال، سينمائياً، أمام أفلام تتعامل وتلك الحروب. على عكس الأفلام الحربية التي تم إنتاجها بُعيد الحرب العالمية الثانية، وخلال الحرب الڤيتنامية، وبعدها، فإن الأفلام الحربية الحديثة كان لا بد أن تُدخل العنصر الديني إذا تعاملت مع أرض المعركة او إذا تعاملت مع تبعات وضع ما بعد ذلك التاريخ.
التلفيق لتأمين الإثارة-مملكة الجنة- لقاء الإسلام والمسيحية..

المشهد الذي يحمل فيه صلاح الدين الأيوبي صليباً سقط من موضعه، فيلتقطه ويضعه على الطاولة، كان في ذاته رسالة واضحة باللغتين العربية والإنكليزية. الفيلم الذي ورد فيه هذا المشهد هو "مملكة الجنّة" لريدلي سكوت (2005) الذي تعامل، كما هو معروف، مع الحملة الصليبية على القدس والمشرق العربي تحت لواء حماية المسيحيين والمقدّسات من "الإحتلال" الإسلامي. 
الرسالة العربية، التي ربما لم تُلتقَط، هي أن البطل العربي لم يكن بطل حرب فقط، بل بطل فهم للرسالات السموية بأسرها. يقدّر الغير ويسمح له بالتعبير عن رؤاه ومفاهيمه حتى ولو كان عدوّاً شرساً ينظر الى المسلمين كأصحاب فرقة دينية أكثر من كونهم أصحاب دين.
الرسالة الإنكليزية، كون الفيلم ناطقاً بها على الأقل، أن الإسلام ليس ما عبّرت عنه العملية الإرهابية في الحادي عشر من أيلول 2001، بل ينطلق من رسالة تسامح وتواصل وتفهّم للغير. كان يمكن المخرج أن يطلب من الممثل السوري غسّان مسعود، الذي لعب دور القائد العربي، أن يرى الصليب على الأرض فيمر به ولا يُعره اهتماماً. او الأنكى: أن يراه فيدوسه لإمرار رسالة من التحدّي والعدائية. لكن من تابع المشهد الماثل، لا بد أنه سجّل في عقله، وبالربط مع أحداث الفيلم، أن الصدام بين الدينين لم يكن عقائدياً بقدر ما كان غزواً حثّت عليه الكنيسة حينما أخذت على عاتقها لعب ذلك الدور السياسي دفاعاً في الظاهر عن بيت المقدس، ومتعاملةً، كما نرى في الفيلم، مع قيادات معظمها مصاب بالأغراض الخاصة والمفاهيم المغلوطة.
الى حين بعيد، قبل خروج فيلم ريدلي سكوت، عرفت السينما أعمالاً عديدة عن علاقات حادّة ومتوتّرة بين الشرق المسلم والغرب المسيحي. من "خرطوم" (باسيل ديردن، 1966) الى سلسلة "الريشات الأربع" الذي ورد آخرها عام 2002، مروراً بعشرات الأفلام التي تداولت الإعتقاد أن الغرب حمل معه في غزواته الحضارة في حين أن المجتمعات العربية الإسلامية غير المتمدّنة، بحسب مفهوم تلك الأفلام، واجهت تلك الحملات بشراسة فاتكة. غياب اتخاذ موقف من حق المسلم او العربي، او كليهما معاً، في الدفاع عن دياره، غيّب الطرح السياسي الذي كان من شأنه أن يؤلّب الرأي العام على الغازي وليس على الطرف الذي يتعرض للغزو.
نلاحظ أن العملية نفسها قد دأبت عليها الأفلام الهوليوودية حين تعاملت مع الإحتلال الأبيض للقارة الأميركية والتوسع من شرق الميسيسيبي الى غربه وصولاً الى كاليفورنيا، وكيف واجهه الرافضون له من قبائل الأميركيين الأصليين بالصدّ (خمسمئة أمّة لم يبق منها اليوم سوى بضع قبائل)، ما حمل الإنسان الأبيض على محاربة المواطن الأصلي بهدف احتلال أرضه وانتزاع ما في داخلها من معادن، او بهدف التوسّع عمرانياً واقتصادياً في كل الأحوال.
الصور التلفزيونية التي التقطت قبل أسابيع قليلة في مطلع الحملة العسكرية الحالية على المناطق الأفغانية في الشمال، والتي تُظهر جنرالاً يجالس بعض شيوخ المنطقة، هي ذاتها مشاهد لأفلام عديدة راقبنا فيها الجنرال الأبيض يجلس مع زعماء القبائل الهندية طالباً منهم الهدنة، ومُظهراً الوجه الإيجابي للإحتلال وموعزاً اليهم ضرورة تأييده في حملته لدحر الذين اختاروا شن الحرب على الإنسان الأبيض. هذه النظرة، بما تحمله من عنصرية وتلفيق، كانت ضرورية لتأمين إثارة الجمهور لأن احتمالات أن ينجز الفيلم المسالم او الموضوعي أرباحاً في شبابيك التذاكر ضعيفة، الا إذا تم إنتاجها في ظرف ثقافي وسياسي منفتح ومتغيّر، كما حدث في الستينات عندما أقلعت هوليوود عن معاملة الهنود بإجحاف، ومنحتهم، لا حق التعبير عن مواقفهم بقوّة، بل حق الدفاع عن أراضيهم وممتلكاتهم.
اليوم، كثير من الأفلام، من "جيرانيمو" في الثمانينات (إخراج وولتر هيل) الى "أڤاتار" (جيمس كاميرون)، تبدو كما لو كانت تتحدّث عن الوضع الفلسطيني: أرض تمت استباحتها ومحاولة القضاء على روح المقاومة فيها.
لكن ما سار عليه فيلم "مملكة الجنّة" لم يكن في ذاته جديداً. في عام 1935 قام السينمائي الملحمي سيسيل ب. دوميل بإخراج رؤيته للحرب الصليبية على العالم الإسلامي تحت عنوان "الصليبيون"، وهو أدرك فحوى تلك الحرب وعالجها بخلق هالة ايجابية حول صلاح الدين الأيوبي (قام به الممثل الأميركي إيان كيث) في مقابل فساد رجال الكنيسة والبلاط.
في عام  1976 قام البريطاني ريتشارد لستر بتحقيق فيلم عنوانه "روبن وماريان" يعيد فيه سرد حكاية روبن هود من زوايا جديدة. ليس فيلماً عن الحرب الصليبية، لكن هناك مشهد يفصح فيه روبن (شون كونيري) لحبيبته ماريان (أودري هيبورن) عما يؤرقه ويعيش في ذاكرته بعدما عاد من الحملة الصليبية في الشرق، متحدّثاً عن كل تلك المذابح التي قام بها الصليبيون ضد الأطفال والنساء والعجّز. "قمنا بمجازر لا تصدّق"، قال لها.
العودة الى تلك الأفلام ليس لأجل التذكير بمذابح ارتُكبت ضد المسلمين كنوع من المقارنة، بل للإشارة الى أن هناك أفلاماً في الغرب تعاملت مع المسلم على نحو منحه حق رفع السلاح ضد من سيّر الجيوش لاحتلاله. بالنسبة الى الغرب، عموماً، واليوم أكثر من أي وقت سابق، ليس هناك اختلاف حول هذا الحق. الإختلاف حول من يمنح المسلم حق محاولة غزو الغرب بسلاحه او حتى بمفاهيمه، عوض أن يحاول التواصل معه عبر القنوات الفنية والثقافية والأدبية.
مسؤولية السينما العربية

إنه سؤال محق غابت عنه السينما العربية في معظم ما أنجزته من أفلام تتمحور، بشكل او بآخر، حول الإسلام والمسلمين. انطلاقاً من اعتبار أنه لا توجد الكثير من الأفلام المسيحية في العالم العربي، فإن كل الأفلام العربية تعاملت مع شخصيات إسلامية طوال الخط. لكن المسجّل، بنظرة بانورامية شاملة، إخفاق هذه السينما في تقديم ما يكوّن للمسلم شخصيّة جاذبة.
في هذا الصدد لم يكن المطلوب مطلقاً إنجاز فيلم دعائي عن المسلم وروحه وشخصه بهدف ترويجها غرباً. كل ما كان مطلوباً أن تأتي الأفلام، بشكل عام طبعاً، ثرية في مدلولاتها التلقائية. هذا كان مطروحاً لفترة وجيزة (في السبعينات) حين حقق صلاح أبو سيف فيلمه الرائع "السقا مات"، وأنجز سعيد مرزوق "الخوف"، ويوسف شاهين "الأرض"،  وشادي عبد السلام "المومياء"، حيث الشخصيات مسمّكة بثراء المجتمع الذي تعيش فيه، وحين كانت الأفلام من القوّة الفنية بحيث فرضت على المشاهد غير المسلم شخصياتها تلك وأطروحاتها، حتى ولو لم تكترث مطلقاً لإيراد رسالة حول طيبة ذلك الإنسان المسلم او عدالة رسالته.
في المقابل، فإن معظم ما تم إنتاجه من أفلام عربية قبل السبعينات وبعدها (وعقد الستينات الذي لا يقل عنه إنجازاً) لم يسع الى حمل أي مسؤولية حيال كيف يتبدّى المسلم أمام العين الغربية إذا ما التقطته تلك العين في الأفلام المنتجة. طبعاً، حقيقة أن توزيع الأفلام المصرية (على الأخص) محصور ضمن السوق العربية، ساعد في عدم محاولة رسم هدف أعلى لها مع غياب الإدراك بأن الفيلم المُعتنى به أسلوباً وفنّا كإنتاج ثقافي أوّلاً، هو الذي سيحمل الصورة الإيجابية للإسلام التي لن يواجه بها الصور المشوّهة الواردة من الخارج فقط، بل سيغيّر من الصورة المتداولة عن الإسلام، ويعزز المعرفة به، بحيث إذا ما ارتكب البعض جرائم إنسانية بإسمه، لم يستول ذلك الفعل على المفهوم المتداول حول الإسلام.
مشكلة السينما العربية الأخرى، كانت كيفية تقديم الشخصيات غير المسلمة حين تدعو الحاجة الى الحديث عن شخصيات إسلامية  دينية او مجرد بطولية. هل تسعى الى تجييش المشاعر العربية برسم الهالة التعاطفية حول تلك الشخصية في مقابل النيل من صور الأعداء؟ او تنتهج منهج الباحث في ما يكمن وراء الصور الظاهرة وتقديم الأخيار والأشرار على جانبي المواجهة؟
فجر جديد لصور جديدة

حين قدّم المخرج الراحل مصطفى العقاد "الرسالة" و"عمر المختار"، واجه المعضلة إياها: هل من سبيل لتقديم الإسلام جيّداً لمواجهة الصورة السلبية المنتشرة في السينما الغربية عموماً؟ وكيف؟ الصعوبة كانت مضاعفة في الفيلم الأول، كون الإسلام لا يسمح بتصوير الأنبياء بمن فيهم النبي محمد، تالياً فإن ما كان على العقّاد فعله في هذا الإطار، الحديث عن الفكرة وليس عن صاحبها. عن الدين وليس عن الرسول.
تحرر العقاد أكثر بكثير حين أنجز "عمر المختار"، لكنه واجه سؤالا بديلاً: كيف يمكن تقديم شخصية مقاتل حمل السلاح لكنه كان مسلماً ممارساً للدين الحنيف؟ العقلية الغربية لا تقبل، تبعاً للتقاليد المسيحية، أن يرفع راهبٌ الإنجيل بيد والسلاح بيد أخرى، ولو أن أفلاماً روّجت لهذه الصورة لكنها كانت خيالية وليست عن شخصيات واقعية. تالياً، لا تستطيع (على نحو شبه مطلق) قبول شخصية رجل يحمل الله في قلبه ويواجه الآخرين بالعنف.
ردُّ العقاد على هذا السؤال هو إظهار شراسة الإحتلال الإيطالي لليبيا وتعسّفه، وكيف قاد ذلك الإحتلال الى إقامة أول معسكرات تجميع للمدنيين، أي قبل معسكرات الهولوكوست، وفي الجانب الآخر، تقديم شخصية رجل يدرّس التلامذة طالباً منهم التعلّم والإستنارة.
في نهاية الفيلم يلتقط صبي النظّارة الطبيّة التي سقطت عن عيني عمر المختار بعدما اقتيد الى الإعدام. رمز صغير على أن الطريق من هنا فصاعداً سيكون علماً وثقافة ومعرفة.
في حين كانت الصور التي روّجتها الأفلام الغربية عن الإسلام والمسلمين عدائية بدافع إثارة الجمهور وخلق عدو يواجهه البطل التقليدي، فإن التشويه الذي أصاب الإسلام كان إما مقصوداً عن عمد وإما تلقائياً في نتيجته من حيث تعاطيه ومفاهيم نمطية محددّة مستوحاة من ظروف سياسية واجتماعية. مثل موقف الدول العربية من إسرائيل في الستينات، ومثل مصر والعدوان الثلاثي، والقضية الفلسطينية التي نجح الإعلام الإسرائيلي في جعلها تبدو حالة دفاع إسرائيلي عن النفس، والثراء البترولي الذي أصاب بعض دول المنطقة، اضافة الى مفاهيم مغلوطة ساهم الأدب في تكوينها (عالم ألف ليلة وليلة وحكايات السلاطين). من ناحيتها، فإن الأفلام الحديثة التي طُرحت حول الموضوع الإسلامي تُلغي (بقصد او بدونه) الكثير من الصور النمطية السابقة لتُحلّ مكانها إما صوراً غير نمطية وإما صوراً نمطية مختلفة عن تلك السابقة.
في "إنذار بورن"، ثالث أجزاء سلسلة مغامرات عميل الـ"سي آي أي" (بول غرينغراس، 2007)، يواجه بطل الفيلم الأميركي جايسون بورن (مات دايمون) المُطارد من وكالات الاستخبارات، أحد مطارديه: مغربي يعمل لصالح الجهاز الأميركي مكلّف قتله. معركة يدوية كبيرة تقع بين الإثنين. وفي حين أن مثل هذه المعارك بين البطل الأميركي وغريمه العربي كانت تكشف مهارة الأول القتالية وجهل الثاني او لجوءه الى حلها بالخنجر او السيف ("غزاة تابوت العهد المفقود" مثلاً)، فإنها تكشف هنا عن مهارة متوازية على نحو كامل، بحيث أن انتصار الأميركي على العربي تحصيل حاصل لبطولته الفيلم وليس لتفوّقه أساساً.
من ناحية، هذا وحده لا يلغي طموح المسلم الى شخصية اسلامية صحيحة المواصفات، لكن من ناحية أخرى فإن المطروح هنا شخصية تستدعي الإعجاب وكونها تعمل لصالح المخابرات الأميركية يرفع عنها الكثير من التعامل عدائياً معها.
ما تطرحه السينما السائدة التي ينتمي اليها "إنذار بورن" من صور، لا يقل أهمية عما تطرحه الأفلام الفنية او الأفلام ذات الرغبة في جمهور ذي مُلكية فكرية أعلى، كما الحال في عدد من الأفلام الأوروبية التي بدأنا نراها في السنوات الأخيرة.
ثمة أفلام عدة في هذا الصدد من مخرجين لهم أكثر من باع في هذا الطرح. في عام 2006 قام المخرج الجزائري الأصل رشيد بوشارب بتحقيق فيلمه "بلديّون" او كما سُمّي في أسواق عالمية "أيام المجد"، وفيه إظهار لدور الجنود العرب الذين عملوا تحت راية الحلفاء في الحرب العالمية الثانية، في عملية تحرير فرنسا من الإحتلال الألماني. أتبعه المخرج بفيلم عنوانه "نهر لندن" (2009) حول صداقة غير متوقّعة بين أم إنكليزية مسيحية وأفريقي مسلم (برندا بليثين وصدّيقي كواياتي على التوالي) كل منهما خسر ولداً خلال يوم الإرهاب الذي قام به اسلاميون متطرّفون.
الفيلمان مثيران جداً على سطح ما يتعاملان به من شخصيات. في عالم لم يعد مضطراً للتفريق بين المسلم والعربي (حتى مع علمه بأن معظم المسلمين ليسوا في الضرورة عرباً)، تعامل رشيد بوشارب مع شخصيات عربية من دون منحها مواصفات اسلامية في فيلمه الأول "بلديون". أما في الثاني فتعامل مع شخصية رجل مسلم من دون أن يكون عربياً. ما حققه تلاقي الناحيتين في حلقة تستكمل مدارها: العرب مسلوبون من الهوية والإستحقاق في الفيلم الأول، والمسلمون مُعاملون سواسية كوجه واحد، في حين أن الحقيقة وجود تباين كبير بين المسلم والمسلم المتطرّف في الفيلم الثاني.
عبد اللطيف قشيش أنجز فيلمه الفرنسي "كُسكُس بالسمك" معنياً بحياة مهاجر مسنّ وعلاقاته مع محيطيه العربي والفرنسي. رسم المخرج صورة إنسانية صادقة وعميقة للعربي وعائلته، محاطة بإطار البيئة الفرنسية العامة، وفرض تعاملاً من النوعية الإنسانية نفسها على المشاهد الغربي، مستبدلاً صورة العربي الذي يشكّل خطراً على مجتمعات ما بعد 2001 بصورته كضحية وضعه، من دون أن يلوم الفرنسيين على هذا الوضع.
شخصيات مسلمة جديرة

طرح آخر مثير للإهتمام يرد في سياق فيلم "السيد إبرهيم وأزهار القرآن" للفرنسي فرنسوا دوبيرون (2003) إذ يقدّم الى مشاهديه شخصية صاحب دكّان مسلم (تركي الأصل) يتعايش مع صبي يهودي (عمر الشريف وبيار بولانجيه). لفعل ذلك، كان على الثاني قطع مسافة حذرة كونه أصغر سنّاً، وعليه أن يخرج من "الغيتو" المُعدّ له، وهذا أمر فعله ابرهيم منذ زمن بعيد. الموضوع المُثار هنا كان دائماً سماحة السيد إبرهيم كشخص مسلم. إنه مؤمن لم يترك دينه وراءه لكي "يتغرّب"، وهو لا يطلب من الصبي مومو (بولانجيه) التغرّب او ترك دينه كشرط لمعرفته وتوطيد هذه المعرفة.
هذه الصورة الإيجابية كان لها مقابل مناسب في عدد من الأفلام الغربية كما الحال في "بابل" (2006) لأليخاندرو غونزاليث إيناريتو، ولو عبر شخصية مساندة (في نهاية الأمر كل شخصيات هذا الفيلم الممتاز مساندة، بمن فيهم الشخصية التي يمثّلها براد بيت) لمغربي يمنح الأميركيين (بيت وكايت بلانشيت) أمان بيته وقريته بعدما اعتقد الجميع أن إطلاق النار على الزوجة هو عمل إرهابي (في حين كان عملية فردية لصبي أراد أن يطلق النار على حافلة وليس على من فيها). هناك شيء آخر في هذه الصورة الإيجابية، وهي تحذير المخرج، وهو مكسيكي أنتج هذا الفيلم أميركياً، من تغليب المفهوم السائد على المسلمين، جاعلاً شخصية الشاب المسلم تتحلّى بعناصر من الشهامة وحسن التدبير والإبتعاد عن الكره او التحزّب.
هناك أيضاً صورة رجل البوليس الباكستاني المثير للتعاطف بسبب شجاعته وقوّة إرادته في "قلب كبير" (إخراج مايكل وينتربوتوم، 2007)، وصورة الأفغاني العائد الى وطنه تحت الخطر في "عدّاء الطيارة الورقية" لمارك فورستر، ثم صورة المهاجر السوري المسلم في "الزيارة" لتوم مكارثي حيث السائد على سطح الأحداث (تقع في نيويورك) الدعوة الى التواصل لأن الآخر ليس بصورة واحدة كما يعتقد الغرب.
أجمعت هذه الأفلام على صورة "نظيفة" لمسلمين عاديين او شبه عاديين (بطل "عدّاء الطيارة الورقية" كاتب ذو شهرة) وجدوا أنفسهم في قلب أحداث طاغية ليست من أفعالهم. الحال معبّر عنها أيضاً في فيلمي مايكل وينتربوتوم السابقين "في هذا العالم" (2002) و"الطريق الى غوانتانامو"  (2006).
لكنها ليست الصورة النظيفة الوحيدة. في كل من "سيريانا" (ستيفن غاغن، 2005) و"المملكة" (بيتر بيرغ، 2007) و"كتلة أكاذيب" (ريدلي سكوت، 2009)، هناك عناصر عربية تواجه التطرّف من ناحية وفساد ذمم أميركية من ناحية أخرى. في "المملكة" و" كتلة أكاذيب"، تعمل هذه العناصر لحساب الحكومتين السعودية والأردنية، وهي في الفيلم الأول ترفض أن تتبع الجهاز الأميركي الذي حط في البلاد لإدارة عملية مواجهة للإرهاب، وفي الفيلم الثاني، ترفض قيام الجهاز الأميركي، عملاء الـ"سي آي أي"، بإخفاء حقائق او الكذب عليها.

المسلم الأوروبي

لإيضاح العجز الإسلامي عن إفراز أفلام مماثلة في ظرف يتطلّب أن ينطق الإسلام سينمائياً وثقافياً وإبداعياً كلغة الحوار الوحيدة الصالحة، يمكن مقارنة دور عمر الشريف في "السيد إبرهيم وأزهار القرآن" بدوره في فيلم "حسن ومرقص" لرامي إمام. فيلم قُصد به الخير، لكن المرء يتمنّى لو لم يفعل، لأنه من الهوان وسوء المعالجة بحيث أن العلاقة التي يرمي الفيلم الى تعزيزها بين المسلم والمسيحي في مصر تتّخذ من بداية شكلا كاريكاتورياً غير مضحك. في الفيلم يدرك مرقص (كما أدّاه عمر الشريف) أن بقاءه على قيد الحياة متوقّف على تقمّصه شخصية مسلم، هذا في الوقت الذي يجد فيه المسلم حسن (عادل إمام) نفسه مطالباً بانتحال شخصية مسيحي للسبب نفسه. وكلا الرجلين يلتقيان ومعهما عائلتاهما، في وقت يخرج مسيحيون ومسلمون متعصّبون لمنازلة، فيتصدّى لهم حسن ومرقص متشابكي الأيدي. رسالة مباشرة خالية من الحقائق ومن حُسن توظيف الخيال، مع معالجة ساذجة وقاصرة.
باستثناء "الزيارة"، فإن الأفلام الغربية الحديثة المذكورة أعلاه تقع في الدول الإسلامية نفسها (دول عربية وباكستان وافغانستان)، لكن هناك أعداداً متزايدة من الأفلام الأوروبية تطرح الوضع الشائك في العلاقة بين المسلمين وسواهم في المجتمعات الغربية. وفي حين أن "السيد ابرهيم وأزهار القرآن" و"نهر لندن" عملان ينزعان نحو رسالة مسالمة غير متوتّرة، لا في الإيقاع ولا في الإنعكاسات السياسية، فإن بعض الأفلام الأحدث تمضي بعيداً صوب تشريح وضع الإنسان المسلم في مجتمع غربي.
في "شهادة"، وهو فيلم ألماني من إخراج الأفغاني الأصل برهان قرباني، نتعرّف الى شخصيات مسلمة محورية تعيش في برلين لكن من دون أن تجمعها نظرة واحدة، او مفهوم حياة معيّن، لمعينها الإسلامي. التحري المنفتح المتزوّج من ألمانية، الذائب في مقتضيات البيئة كاملاً، يعاود الإلتقاء بفتاة بوسنية مسلمة كان أطلق النار عليها خطأ في حادثة سابقة، فيشعر صوبها بتأنيب ضمير. في الموازاة، عاملة مصنع من المهاجرين الأتراك متحررة تماماً الى أن تحبل وتسقط حبلها فتجد نفسها، بتفسير ذاتي لمعاني الخطيئة والذنب والغفران، مشدودة الى ممارسة الشعائر الإسلامية. ما يقلق والدها، ليس أنه إمام أحد المساجد ومستاء من ذلك، بل تطرّفها الذي لا يسمح به. في قصة ثالثة ينتقل اليها الفيلم خلال عرضه القصتين الأخريين في تداخلات منسجمة (ولو غير مبهرة او سلسلة)، مسلم من أصول أفريقية تناديه الرغبة في ممارسة الحب مع شاب ألماني، ويفعل ذلك ثم يتوب ويحاول مقاومة الإنجراف في الخطأ ذاته مرّة أخرى. إذ ينتقل الفيلم بين خطوطه ويسمح لبعض شخصيات كل قصّة بلقاء، ولو عابر بشخصيات أخرى، يجهد الفيلم في طرح تلك الصور المختلفة ليتحدث عن اختلافاتها كما عن تيه أصحابها. النيّة سليمة من حيث رغبتها في إرساء صور المسلم كشخصية طبيعية تمر بما يمر به الغربي (او المسيحي خصوصاً) من أزمات عاطفية ونفسية ودينية، لكن الإضافة هنا هي أن أصحابها، فوق ما سبق، يشكون من تعاطيهم مع هوية ذاتية متنازع عليها.
فيلم "على درب الهداية" للمخرجة البوسنية ياسميلا زبانيتش يعرض أيضاً لجانب مشابه: بطلاه زوجان مسلمان من البوسنة في فترة ما بعد الحرب العرقية، يعيشان معاً بسعادة ويمارسان حياتهما بانفتاح ملحوظ معبّر عنه بشرب الكحول ودخول المراقص، وما تيسر من صور الحياة العصرية. فجأة يلتقي الزوج، وقد طُرد من عمله كمراقب جوّي في مطار المدينة بسبب مزجه القهوة بالكحول، بصديق قديم ملتح وبزوجته المحجّبة. في البداية لا يشكّل هذا اللقاء أي أهمية، لكن حين يقصد بطل الفيلم صديقه المتديّن يبدأ بتعريض نفسه لمتغيّرات من نوع العودة الى الأصول. لا دليل أن الجماعة التي ينتمي اليها الصديق، إرهابية، ولا يقصد الفيلم أن يصفها بذلك، لكنها جماعة متطرّفة في ممارساتها، والزوجة المدهوشة من سرعة تحوّل زوجها نحو الإسلام، تحاول جذبه والعودة به الى سابق عهدها به. لكنه يمانع أوّلاً، ثم يبدأ بفرض الطلبات بعد ذلك، ما يضعها في مواجهة ضرورة طلاقهما.
الفيلم مثير للإهتمام في هذه الجوانب الإجتماعية المطروحة ومثير لتعاطف الغربيين مع تلك الزوجة التي لا يمكنها أن تلتقي ومفاهيم زوجها الجديدة، لكنه يبقى عملاً محدود القيمة كونه لا يحاول الذهاب الى ما وراء الصورة في تحليل سياسي او اجتماعي لما يرصده.
ختاماً، ليس فقط أن صورة المسلم في السينما باتت تلعب محوراً جديداً شبه ثابت في الأفلام التي تريد بحث الحياة الآنية على الأرض، بل أيضاً، تعاملت الأفلام في السنين العشر الأخيرة مع الأوضاع العالمية بروح مختلفة. بعض جوانب تلك الروح، وعلينا الإعتراف بذلك، ايجابي حيث لم يعد مستساغاً لهوليوود او سواها من مراكز الصناعة تقديم الصورة المشوّهة التي كانت سائدة منذ زمن بعيد عن المسلم والعربي، والتوقّف عندها، بل أصبحت محط محاولات تفسير ورصد لخلفيّاتها من دون الموافقة في الضرورة على ما تمثّله، او الطريقة التي تمثّل ما تمثّله فيها.

محمد رضا

المصدر: النهار

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...